التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
قال أبو عمر : إلى هذا نزع من أصحابنا من زعم أن مرسل الإمام أولى من مسنده ; لأن في هذا الخبر ما يدل على أن مراسيل إبراهيم النخعي أقوى من مسانيده ، وهو لعمري كذلك ، إلا أن إبراهيم ليس بعيار على غيره .

أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن شاكر ، قال : حدثنا محمد بن يحيى بن عبد العزيز ، قال : حدثنا أسلم بن عبد العزيز ، قال : حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : حدثنا الشافعي رحمه الله ، قال : حدثنا عمي محمد بن علي بن شافع ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه عروة بن الزبير ، قال : إني لأسمع الحديث أستحسنه فما يمنعني من ذكره إلا كراهية أن يسمعه سامع فيقتدي به ، وذلك أني أسمعه من الرجل لا أثق به قد حدث به عمن أثق به ، أو أسمعه من رجل أثق به قد حدث به عمن لا أثق به فلا أحدث به .

[ ص: 39 ] قال أبو عمر : هذا فعل أهل الورع والدين ، كيف ترى في مرسل عروة بن الزبير ، وقد صح عنه ما ذكرنا ؟ أليس قد كفاك المؤنة ؟ ولو كان الناس على هذا المذهب كلهم لم يحتج إلى شيء مما نحن فيه .

وفي خبر عروة هذا دليل على أن ذلك الزمان كان يحدث فيه الثقة وغير الثقة ، فمن بحث وانتقد كان إماما ، ولهذا شرطنا في المرسل والمقطوع إمامة مرسله ، وانتقاده لمن يأخذ عنه ، وموضعه من الدين ، والورع ، والفهم ، والعلم .

حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن ، حدثنا إبراهيم بن بكر بن عمران ، حدثنا محمد بن الحسين بن أحمد الأزدي الحافط ، قال : حدثنا علي بن إبراهيم ، قال : حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : حدثنا الشافعي ، قال : أخبرني عمي محمد بن علي بن شافع ، قال : حدثني هشام بن عروة ، عن أبيه عروة بن الزبير ، قال : إني لأسمع الحديث أستحسنه ، فذكر كلام عروة كما تقدم حرفا بحرف إلى آخره إلا أنه قال في آخره : فأدعه لا أحدث به ، وزاد قال الشافعي : كان ابن سيرين ، وإبراهيم النخعي ، وطاوس ، وغير واحد من التابعين يذهبون إلى أن لا يقبلوا الحديث إلا عن ثقة يعرف ما يروي ، ويحفظ ، وما رأيت أحدا من أهل الحديث يخالف هذا المذهب .

[ ص: 40 ] قال أبو عمر : ما أظن قول عروة هذا إلا مأخوذا من قوله صلى الله عليه وسلم من روى عني حديثا يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين .

وذلك أن كل من حدث بكل ما سمع من ثقة وغير ثقة لم يؤمن عليه أن يحدث بالكذب ، والله أعلم .

حدثني أحمد بن قاسم ، وسعيد بن نصر ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل أبو إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، قال : سمعت يحيى بن عبيد الله ، قال : سمعت أبي يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع قال ابن المبارك : وأخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، قال : سمعت أبا بكر الصديق يقول : إياكم والكذب فإنه مجانب الإيمان .

وروينا عن الثوري ، قال : قال حبيب بن أبي ثابت : الذي يروي الكذب هو الكذاب .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى القطان ، وأخبرنا [ ص: 41 ] عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أبو علي الحسن بن سلام السويقي ، قال : حدثنا عفان بن مسلم ، قالا : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن سمرة بن جندب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من روى عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين .

قال أبو عمر : عن شعبة في هذا إسناد آخر : أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أبو علي الحسن بن أحمد بن سلام السويقي ، قال : حدثنا عفان بن مسلم ، وعلي بن الجعد ، قالا : حدثنا شعبة ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ميمون بن أبي شبيب ، عن المغيرة بن شعبة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من حدث عني بحديث ، وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ورواه الثوري عن حبيب بإسناده مثله .

حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ميمون بن أبي شبيب ، عن المغيرة بن شعبة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره .

[ ص: 42 ] حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا الميمون بن حمزة الحسني ، قال : حدثنا أبو جعفر الطحاوي ، قال : حدثنا المزني ، وحدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف ، قال : حدثنا سليمان بن أيوب ، قال : حدثنا أسلم بن عبد العزيز ، قال : حدثنا الربيع بن سليمان ، قالا : حدثنا الشافعي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، وحدثوا عني ولا تكذبوا علي .

قال الشافعي رحمه الله : هذا أشد حديث روي في تخريج الرواية عمن لا يوثق بخبره ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه صلى الله عليه وسلم معلوم منه أنه لا يبيح اختلاق الكذب على بني إسرائيل ، ولا على غيرهم ، فلما فرق بين الحديث عن بني إسرائيل ، وبين الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحتمل إلا أنه أباح الحديث عن بني إسرائيل عن كل أحد [ ص: 43 ] وأنه من سمع منهم شيئا جاز له أن يحدث به عن كل من سمعه منه كائنا من كان ، وأن يخبر عنهم بما بلغه ؛ لأنه والله أعلم ليس في الحديث عنهم ما يقدح في الشريعة ، ولا يوجب فيها حكما ، وقد كانت فيهم الأعاجيب ، فهي التي يحدث بها عنهم ، لا شيء من أمور الديانة ، وهذا الوجه المباح ، عن بني إسرائيل هو المحظور عنه - صلى الله عليه وسلم - فلا ينبغي لأحد أن يحدث عنه - صلى الله عليه وسلم - إلا عمن يثق بخبره ، ويرضى دينه وأمانته ; لأنها ديانة .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، قال : حدثنا سليمان التيمي ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار .

أخبرنا محمد بن عبد الملك ، قال : أخبرنا ابن الأعرابي ، قال : حدثنا سعدان بن نصر ، قال : حدثنا سفيان ، عن هشام بن حجير ، عن طاوس ، قال : كنت عند ابن عباس ، وبشير بن كعب العدوي يحدثه ; فقال ابن عباس : عد لحديث كذا وكذا ، فعاد له ، ثم إنه حدث ، فقال له ابن عباس : عد لحديث كذا وكذا ، فعاد له ، ثم إنه حدث فقال له بشير : ما لك تسألني عن هذا الحديث من بين حديثي كله ؟ أأنكرت حديثي كله وعرفت هذا ؟ أو عرفت حديثي كله وأنكرت هذا ؟ فقال له ابن عباس : إنا كنا نحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ لم يكن يكذب عليه ، فلما ركب الناس الصعب ، والذلول [ ص: 44 ] تركنا الحديث عنه .

وفي هذا الحديث دليل على أن الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كان أحس به ابن عباس في عصره .

وقال رجل لابن المبارك : هل يمكن أن يكذب أحد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فانتهره ، وقال : وما ذا من الكذب .

وقال حماد بن زيد : وضعت الزنادقة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثني عشر ألف حديث بثوها في الناس .

التالي السابق


الخدمات العلمية