التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1815 [ ص: 33 ] حديث رابع لابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله - مسند

مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس ، عن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الفأرة تقع في السمن ، فقال : انزعوها وما حولها فاطرحوه .


هكذا روى يحيى هذا الحديث فجود إسناده وأتقنه عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس ، عن ميمونة ، وتابعه جماعة من الحفاظ ، منهم عبد الرحمن بن مهدي ، وعبد الله بن نافع ، والشافعي ، وإسماعيل بن أبي أويس ، وسعيد بن أبي مريم ، وزيد بن يحيى بن عبيد الدمشقي ، وأشهب بن عبد العزيز ، وإبراهيم بن طهمان ، وزياد بن يونس ، ومطرف بن عبد الله ، وسعيد بن داود الزبيري ، وإسحاق بن عيسى الطباع ، وعبيد بن حيان ، كل هؤلاء يروونه عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن ميمونة ، عن النبي ، صلى الله عليه وسلم .

ورواه ابن وهب ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن ميمونة ، لم يذكر ابن عباس .

[ ص: 34 ] هكذا رواه عن ابن وهب يونس بن عبد الأعلى ، وأبو الطاهر ، والحارث بن مسكين ، ورواه القعنبي ، والتنيسي ، وعثمان بن عمر ، ومعن بن عيسى ، وإسحاق بن سليمان الرازي ، وخالد بن مخلد ، ومحمد بن الحسن ، وأبو قرة موسى بن طارق ، وإسحاق بن محمد الفروي ، كل هؤلاء رووه عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكروا ميمونة ، ورواه يحيى القطان ، وجويرية ، عن مالك ، الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، أن ميمونة استفتت النبي ، صلى الله عليه وسلم .

ورواه ابن بكير ، وأبو مصعب ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مقطوعا . وهذا اضطراب شديد عن مالك في إسناد هذا الحديث - والله أعلم - والصواب فيه ما قاله يحيى ومن تابعه ، والله أعلم .

واختلف في هذا الحديث أيضا أصحاب ابن شهاب ، فرواه ابن عيينة ، ومعمر عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس ، عن ميمونة ، كما روى يحيى . وعنه معمر خاصة من بين أصحاب ابن شهاب في هذا الحديث إسناد آخر ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن ، فقال : إن كان جامدا فخذوها وما حولها فألقوه .

[ ص: 35 ] قال عبد الرزاق في هذا الحديث بهذا الإسناد : وإن كان مائعا فلا تقربوه . وقال عنه عبد الواحد بن يزيد : وإن كان ذائبا أو مائعا فاستصبحوا به ، أو قال : انتفعوا به ، وروى الأوزاعي هذا الحديث عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر ميمونة بنحو حديث مالك وتابعه على هذا الإسناد عبد الرحمن بن إسحاق ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس لم يذكر ميمونة . ورواه عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استفتي في فأرة وقعت في سمن - مقطوعا - لم يذكر ابن عباس ، ولا ميمونة ، والصحيح في إسناد هذا الحديث ما قاله مالك في رواية يحيى ومن تابعه كما ذكرنا .

قال محمد بن يحيى النيسابوري : وحديث معمر أيضا الزهري عن سعيد ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - محفوظ . قال : والطريقان عندنا محفوظان إن شاء الله . قال : لكن المشهور حديث ابن شهاب عن عبيد الله ، قال : وصوابه : عن ابن عباس عن ميمونة كما قال مالك وابن عيينة .

[ ص: 36 ] وقال البخاري : حديث عبد الرزاق عن معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة في هذا غير محفوظ . قال محمد بن يحيى : ورواه عبد الجبار بن عمر ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن عبد الله بن عمر ، أنه كان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جاءه رجل فسأله عن فأرة وقعت في ودك لهم . قال : وهذا الإسناد عندنا غير محفوظ ، وهو خطأ ، ولا يعرف هذا الحديث من حديث سالم ، وعبد الجبار ضعيف جدا .

قال أبو عمر :

حديث ابن عمر هذا ذكره ابن وهب في موطئه عن عبد الجبار بن عمر بإسناده هذا فأما رواية ابن عيينة لهذا الحديث فحدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا الزهري ، قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، أنه سمع ابن عباس يحدث عن ميمونة أن فأرة وقعت في سمن فماتت ، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ألقوها وما حولها وكلوا .

هذا مثل إسناد يحيى عن مالك في هذا الحديث سواء .

[ ص: 37 ] وحدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا أحمد بن محمد بن الحسين العسكري ، حدثنا إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، عن مالك بن أنس ، وسفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن ميمونة ، أن فأرة وقعت في سمن ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ألقوها وما حولها وكلوه .

وحدثنا خلف ، حدثنا أحمد بن محمد بن الحسين ، حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا أشهب بن عبد العزيز ، حدثنا مالك ، حدثني ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن ميمونة ، قالت سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فأرة وقعت في سمن ، فقال : خذوها وما حولها فألقوه .

وأما رواية معمر ، فأخبرنا خلف بن سعيد ، أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا أحمد بن خالد ، حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة وقعت في سمن ، فقال : إن كان جامدا فخذوها وما حولها فألقوه ، وإن كان مائعا فلا تقربوه .

وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أحمد بن صالح والحسن بن علي ، وهذا لفظ الحسن ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله [ ص: 38 ] - صلى الله عليه وسلم - : إذا وقعت الفأرة في السمن ، فإن كان جامدا فألقوه وما حولها ، وإن كان مائعا فلا تقربوه .

قال الحسن : قال عبد الرزاق : وربما حدث به معمر عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن ميمونة ، عن النبي ، صلى الله عليه وسلم .

قال أبو داود : وحدثنا أحمد بن صالح ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن بوذويه عن معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن ميمونة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل حديث الزهري عن سعيد بن المسيب .

هكذا قال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن سعيد ، عن أبي هريرة بهذا الإسناد : وإن كان مائعا فلا تقربوه .

وقال فيه عبد الواحد بن زياد ، عن معمر أيضا بهذا الإسناد ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان ذائبا - أو قال : مائعا - لم يؤكل . هذه رواية مسدد ، عن عبد الواحد .

حدثنا بذلك عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا بكر ، حدثنا مسدد ، حدثنا عبد الواحد ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن [ ص: 39 ] فأرة وقعت في سمن ، فقال : إن كان جامدا ألقيت وما حولها وإن كان ذائبا أو مائعا لم يؤكل .

وغير مسدد يقول فيه عن عبد الواحد ، عن معمر بهذا الإسناد : وإن كان مائعا فانتفعوا به واستصبحوا .

وقد يحتمل أن يكون المعنى في رواية مسدد وغيره عن عبد الواحد في ذلك سواء ، ويحمل قوله لم يؤكل في رواية مسدد على تخصيص الأكل ، كأنه قال : لم يؤكل ولكنه يستصبح به وينتفع ، فلا تتعارض الرواية عنه في ذلك .

وأما عبد الأعلى ، فرواه عن معمر ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة وقعت في سمن ، فأمر بها أن تؤخذ وما حولها فتطرح ، هكذا قال . لم يذكر حكم المائع بشيء ، وكل هؤلاء ليس عنده عن معمر في هذا الحديث إلا هذا الإسناد ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة .

وقال محمد بن يحيى النيسابوري بعد ذكره هذا الحديث ، قال : وحدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن بوذويه - وكان من مثبتيهم - أن معمرا كان يرويه أيضا عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن ميمونة . قال محمد بن يحيى : ومما يصحح حديث معمر ، عن الزهري ، عن سعيد أن عبد الله بن صالح ، حدثني [ ص: 40 ] قال : حدثني الليث ، قال : حدثني خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن ابن شهاب ، قال : قال ابن المسيب بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة وقعت في سمن ، قال محمد بن يحيى : فقد وجدنا ذكر سعيد بن المسيب في هذا الحديث من غير رواية معمر ، فالحديثان محفوظان .

قال أبو عمر :

في هذا الحديث معان من الفقه ، منها ما اجتمع عليه ، ومنها ما اختلف فيه ، فأما ما اجتمع عليه العلماء من ذلك ، أن الفأرة ومثلها من الحيوان كله يموت في سمن جامد ، أو ما كان مثله من الجامدات ، أنها تطرح وما حولها من ذلك الجامد ، ويؤكل سائره إذا استيقن أنه لم تصل الميتة إليه ، وكذلك أجمعوا أن السمن وما كان مثله إذا كان مائعا ذائبا فماتت فيه فأرة ، أو وقعت - وهي ميتة - أنه قد تنجس كله ، وسواء وقعت فيه ميتة أو حية فماتت ، يتنجس بذلك قليلا كان أو كثيرا . هذا قول جمهور الفقهاء ، وجماعة العلماء .

وقد شذ قوم فجعلوا المائع كله كالماء ، ولا وجه للاشتغال بشذوذهم في ذلك ، ولا هم عند أهل العلم ممن يعد خلافا ، وسلك داود بن علي سبيلهم في ذلك ، إلا في السمن الجامد والذائب ، فإنه قال فيه بظاهر حديث هذا الباب ، وخالف معناه في العسل والخل والمري والزيت ، [ ص: 41 ] وسائر المائعات ، فجعلها كالماء في لحوق النجاسة إياها بما ظهر منها فيها ، فشذ أيضا ويلزمه أن لا يتعدى الفأرة كما لم يتعد السمن والحية ، قوله وقول بعض أصحابه ، ويلزمهم أيضا ألا يعتبروا إلقاءها في السمن حتى تكون هي تقع بنفسها ، وكفى بقول يؤول إلى هذا قود أصله قبحا وفسادا .

وأما سائر العلماء وجماعة أئمة الأمصار في الفتوى فالفأرة والوزعة والدجاجة وما يؤكل وما لا يؤكل عندهم سواء ، إذا مات في السمن أو الزيت أو وقع فيه وهو ميت إذا كان له دم ، ولم يكن كالبعوض الذي لا دم له والدود وشبه ذلك .

وأجمعوا أن المائعات كلها من الأطعمة والأشربة ما خلا الماء سواء ، إذا وقعت فيها الميتة نجست المائع كله ، ولم يجز أكله ولا شربه عند الجميع إلا فرقة شذت على ما ذكرنا ، منهم داود .

واختلفوا في الزيت تقع فيه الميتة بعد إجماعهم على نجاسته ، هل يستصبح به ؟ وهل يباع وينتفع به في غير الأكل ؟ فقالت طائفة من العلماء : لا يستصبح به ولا يباع ولا ينتفع بشيء منه .

وممن قال ذلك منهم : الحسن بن صالح ، وأحمد بن حنبل ، ومن حجة من ذهب هذا المذهب قوله - صلى الله عليه وسلم - في السمن تقع فيه [ ص: 42 ] الفأرة : خذوها وما حولها فألقوه ، وإن كان مائعا فلا تقربوه .

قالوا : فلما أمر بإلقاء الجامد وحكم له بحكم الفأرة الميتة ، وجب أن يلقى أبدا ، ولا ينتفع به في شيء كما لا ينتفع بالفأرة ، ولو كان بينهما فرق لبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولما أمر بإلقاء شيء يمكن الانتفاع به .

قالوا : وكذلك المائع يلقى أيضا كله ولا يقرب ولا ينتفع بشيء منه ، هذا لو لم يكن في المائع نص ، فكيف وقد قال عبد الرزاق في هذا الحديث : وإن كان مائعا فلا تقربوه .

واحتجوا أيضا بعموم تحريم الميتة في الكتاب والسنة ، فمن ذلك ما حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا مطلب بن شعيب ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، قال : قال عطاء بن أبي رباح سمعت جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح بمكة : إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام . قيل له : يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة ، فإنه يدهن بها السفن والجلود ، ويستصبح بها الناس ؟ فقال : لا ، هي حرام . ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قاتل الله اليهود ، لما حرم عليهم الشحم جملوه فباعوه وأكلوا ثمنه . فحذر أمته أن يفعلوا مثل ذلك وذكره البخاري ، قال : حدثنا [ ص: 43 ] قتيبة ، قال : حدثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

وذكره ابن أبي شيبة ، عن أبي أسامة ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عطاء ، عن جابر مرفوعا مثله . وقال آخرون : يجوز الاستصباح بالزيت تقع فيه الميتة ، وينتفع به في الصابون وشبهه ، وفي كل شيء ما لم يبع ولم يؤكل ، فإنه لا يجوز بيعه ولا أكله بحال . وممن قال ذلك مالك والشافعي وأصحابهما والثوري .

قال أبو عمر :

أما أكله فمجتمع على تحريمه إلا الشذوذ الذي ذكرنا .

وأما الاستصباح به فقد روي عن علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عمر إجازة ذلك . روى الحارث عن علي قال : استنفع به للسراج ، ولا تأكله .

وروى سفيان بن عيينة ، عن أيوب بن موسى ، عن نافع ، عن صفية بنت أبي عبيد ، أن فأرة وقعت في أفران زيت لآل عبد الله بن عمر فأمرهم ابن عمر أن يستصبحوا به ويدهنوا به الأدم . وروى ابن عيينة والثوري ومعمر ، عن أيوب السختياني ، عن نافع ، عن ابن عمر مثله .

وروى ابن وهب قال : أخبرني أسامة بن زيد ، عن نافع أن امرأة عبد الله بن عمر أخبرته أنه كان لعبد الله بن عمر جرة ضخمة ملأى [ ص: 44 ] سمنا ، فوجد فيها فأرة ميتة ، فأبى أن يأكل منها ، ومنع أهله وأمرهم أن يستصبحوا ، به وأن يدهنوا به أدما كان لهم .

قال ابن وهب : وأخبرني أنس بن عياض ، عن عبد الله بن محمد بن أبي مريم الثقفي ، أنه قال : سألت سعيد بن المسيب عن جرتين وقعت فيهما فأرتان : فأما الواحدة فأخرجنا منها الفأرة حية ، فقال سعيد لا بأس بزيتها فكلوه . وأما الأخرى فعالجنا بالفأرة التي فيها حتى ماتت ، فقال : لا تأكلوا ما خرج روحها فيها .

ومن حجة هؤلاء في تحريم بيعه ، ما حدثنا خلف بن سعيد ، حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا أحمد بن خالد ، حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن خالد - يعني الحذاء - عن بركة أبي الوليد ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها ، وأن الله إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه .

واحتجوا أيضا بحديث زيد بن أسلم ، عن ابن وعلة ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله في الخمر : إن الذي حرم شربها ، حرم بيعها وقد مضى هذا الحديث بطرقه في باب زيد من كتابنا هذا والحمد لله .

[ ص: 45 ] قالوا : فهذه نصوص صحاح في أنه لا يجوز بيع شيء لا يحل أكله من الطعام والشراب .

وقال آخرون : ينتفع بالزيت الذي تقع فيه الميتة بالبيع وبكل شيء ما عدا الأكل ، فإنه لا يؤكل ، قالوا : وجائز أن يبيعه ويبين له ، وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه ، والليث بن سعد ، وقد روي عن أبي موسى الأشعري قال : لا تأكلوه وبيعوه وبينوا لمن تبيعونه منه ، ولا تبيعوه من المسلمين .

وعن القاسم وسالم يبيعونه ويبينون له ولا يؤكل .

ذكر ابن وهب عن ابن لهيعة ، وحيوة بن شريح ، عن خالد بن أبي عمران ، أنه قال : سألت القاسم وسالما عن الزيت تموت فيه الفأرة ، هل يصلح أن يؤكل منه ؟ فقالا : لا ، قلت : أفيبيعه ، قالا : نعم ، ثم كلوا ثمنه ، وبينوا لمن يشتريه ما وقع . ومن حجة من ذهب إلى هذا المذهب ما ذكره عبد الواحد ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفأرة تقع في السمن قال : إن كان جامدا فألقوها وما حولها ، وإن كان مائعا فاستصبحوا به وانتفعوا . قالوا : والبيع من باب الانتفاع ، قالوا : وأما قوله في حديث عبد الرزاق : إن كان مائعا فلا تقربوه . فإنه يحتمل أن يريد : لا تقربوه للأكل ، قالوا : وقد أجرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التحريم في شحوم الميتة في كل وجه ، ومنع من الانتفاع بشيء منها .

[ ص: 46 ] وذكروا حديث يزيد بن أبي حبيب ، عن عطاء ، عن جابر المذكور . قالوا : وأباح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السمن تقع فيه الميتة الانتفاع به ، فدل على جواز وجوه سائر الانتفاع غير الأكل ، قالوا : والبيع من الانتفاع ، قالوا : والنظر يدل على ذلك ، لأن شحوم الميتة محرمة العين والذات .

وأما الزيت تقع فيه الميتة ، فإنما تنجس بالمجاورة ، وما تنجس بالمجاورة فبيعه جائز ، كالثوب تصيبه النجاسة من الدم وغيره . وفرقوا بينه وبين أمهات الأولاد بأن الزيت النجس تجوز هبته والصدقة به ، وليس يجوز ذلك في أمهات الأولاد ، قالوا : وما جاز تمليكه جاز البيع فيه ، قالوا : وأما قوله عليه الصلاة والسلام : إن الله إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه فإنما هو كلام خرج على شحوم الميتة التي حرم أكلها ، ولم يبح الانتفاع بشيء منها . وكذلك الخمر ، والمعنى في ذلك أن الله تعالى إذا حرم أكل شيء ولم يبح الانتفاع به ، حرم ثمنه . وأما ما أباح الانتفاع به فليس مما عنى بقوله : إن الله إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه ، بدليل إجماعهم على بيع الهر والسباع والفهود المتخذة للصيد والحمر الأهلية ، قالوا : وكل ما يجوز الانتفاع به يجوز بيعه .

[ ص: 47 ] قال أبو عمر :

أجاز بعض أصحابنا - وهو عبد الله بن نافع فيما ذكر عنه - غسل البان تقع فيه الميتة ، ومثله الزيت تقع فيه الميتة ، وقد روي عن مالك أيضا مثل ذلك ، وذلك أن يعمد إلى قصاع ثلاث أو أكثر فيجعل الزيت النجس في واحد منها حتى يكون نصفها أو نحو ذلك ، ثم يصب عليها الماء حتى يمتلئ ، ثم يؤخذ الزيت من على الماء ، ثم يجعل في أخرى ويعمل به كذلك ، ثم في ثالثة ويعمل به كذلك .

حكيت لنا هذه الصفة في غسل الزيت عن محمد بن أحمد العتبي ، وهو قول ليس لقائله سلف ولا تسكن إليه النفس ، لأنه لو كان جائزا ما خفي على المتقدمين ولعملوا به ، مع أنه لا يصح غسل ما لا يرى عند أولي النهى . وقد روي عن عطاء بن أبي رباح في شحوم الميتة قول لم يقله أحد من علماء المسلمين غيره ، فيما علمت .

ذكر عبد الرزاق ، ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء ، قال : ذكروا أنه يستفيد بشحوم الميتة ، ويدهن به السفن ولا يمس ، ولكن يؤخذ بعود ، فقلت : فيدهن به غير السفن ؟ قال : لم أعلم ، قلت : وأين يدهن به من السفن ؟ قال : ظهورها ، ولا يدهن بطونها ، قلت : فلا بد أن يمس ودكها بالمصباح فتناله اليد ، قال : فليغسل يده إذا مسه .

[ ص: 48 ] قال أبو عمر :

قول عطاء هذا شذوذ ، وخروج عن تأويل العلماء ، لا يصح به أثر ، ولا مدخل له في النظر ، لأن الله حرم الميتة تحريما مطلقا ، فصارت نجسة الذات ، محرمة العين ، لا يجوز الانتفاع بشيء منها ، إلا ما خصت السنة من الإهاب بعد الدباغ ، ولا فرق بين الشحم واللحم في قياس ولا أثر .

وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف قول عطاء من حديثه عن جابر ، وقد تقدم ذكره في هذا الباب . وما أدري كيف جاز له الفتوى بخلاف ما روى ، إلا أنهم يقولون إن يزيد بن أبي حبيب لم يسمع حديثه ذلك من عطاء وقد حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا زمعة بن صالح ، قال : حدثنا أبو الزبير ، قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا فجاءه أناس من أهل البحرين ، فقالوا : يا رسول الله إنا نعمل في البحر ، ولنا سفينة قد احتاجت إلى الدهن ، وقد وجدنا ناقة ميتة كثيرة الشحم ، وقد أردنا أن ندهن به سفينتنا ، فإنما هو عود وإنما تجري في البحر ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تنتفعوا بشحم الميتة . أو قال : بشيء من الميتة .

التالي السابق


الخدمات العلمية