التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
166 [ ص: 173 ] حديث ثان لابن شهاب ، عن علي بن حسين مرسل - يتصل من وجوه صحاح -

مالك ، عن ابن شهاب ، عن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع ، فلم تزل تلك صلاته حتى لقي الله .


ولا أعلم بين رواة الموطأ خلافا في إرسال هذا الحديث ، ورواه عبد الوهاب بن عطاء ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن علي بن الحسين ، عن أبيه ، ورواه عبد الرحمن بن خالد بن نجيح ، عن أبيه ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن علي بن الحسين ، عن علي بن أبي طالب ، ولا يصح فيه إلا ما في الموطأ مرسل ، وقد أخطأ فيه أيضا محمد بن مصعب القرقساني ، فرواه عن مالك ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، ولا يصح فيه هذا الإسناد ، والصواب عندهم ما في الموطأ .

أما معنى هذا الحديث ، فقد تقدم القول فيه في باب ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، وأما الآثار التي رويت مسندة في معنى هذا الحديث ، فكثيرة ، ونحن نذكر منها ما يقف ( به ) الناظر في كتابنا هذا على المراد ، إن شاء الله .

[ ص: 174 ] وحدثني محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا سويد بن نصر ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن يونس ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة حين استخلفه مروان على المدينة كان ، إذا قام إلى الصلاة المكتوبة ، كبر ثم يكبر ، ثم يرفع ، فإذا رفع رأسه من الركوع قال : سمع الله ربنا لمن حمده ، ربنا ولك الحمد ، ثم يكبر حين يهوي ساجدا ، ثم يكبر حين يقوم من الاثنتين بعد التشهد ، ثم يفعل مثل ذلك حتى يقضي صلاته ، فإذا قضى صلاته وسلم ، أقبل على أهل المسجد فقال : والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وروى هذا الحديث الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ذكره البخاري ، عن ابن بكير ، عن الليث . وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عمرو بن عثمان ، قال : حدثني أبي وبقية ، عن شعيب ، عن الزهري ، قال : أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن وأبو سلمة أن أبا هريرة كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها ، فيكبر حين يقوم ، ثم يكبر حين يركع ، ثم يقول : سمع الله لمن حمده ، ثم يقول : ربنا ولك الحمد [ ص: 175 ] قبل أن يسجد ، ثم يقول الله أكبر حين يهوي ساجدا ، ثم يكبر حين يرفع رأسه ، ثم يكبر حين يسجد ، ثم يكبر حين يرفع رأسه ، ثم يكبر حين يقوم من الجلوس في اثنتين ، فيفعل ذلك في كل ركعة حتى يخلو من الصلاة ، ثم يقول حين ينصرف : والذي نفسي بيده إني لأقربكم شبها بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا .

قال أبو داود : هذا الكلام الأخير يجعله مالك ، والزبيدي وغيرهما ، عن الزهري ، عن علي بن حسين ، ووافق عبد الأعلى ، عن معمر - شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري .

أخبرنا محمد بن إبراهيم وأحمد بن قاسم ، قالا : حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، حدثنا داود بن عمرو الضبي ، حدثنا سلام بن سليم ، أخبرنا أبو إسحاق ، عن يزيد بن أبي مريم ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : صلى بنا علي يوم الجمل صلاة أذكرنا بها صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في كل خفض ورفع وقيام وقعود ، قال أبو موسى : فإما نسيناها وإما تركناها عمدا ، خالف سلام بن سليم في هذا الحديث إسرائيل .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن [ ص: 176 ] أبي إسحاق ، عن يزيد ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : لقد ذكرنا علي صلاة كنا نصليها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إما نسيناها وإما تركناها عمدا ، فكان يكبر كلما رفع ، وكلما وضع ، وكلما سجد . وحدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا سليمان بن حرب ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قالا جميعا : حدثنا حماد بن زيد ، عن غيلان بن جرير ، عن مطرف ، قال : صليت أنا وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب ، فكان إذا سجد كبر ، وإذا رفع رأسه كبر ، وإذا رفع من الركعتين كبر ، فلما قضى الصلاة وانصرفنا ، أخذ عمران بيدي فقال : لقد ذكرني هذا صلاة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولقد صلى بنا هذا مثل صلاة محمد - صلى الله عليه وسلم - .

وحدثني سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن أبي مالك الأشعري أنه جمع قومه فقال : اجتمعوا حتى أصلي لكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاجتمعوا فصلى لهم صلاة الظهر ، فكبر بهم اثنتين وعشرين تكبيرة سوى الافتتاح ، [ ص: 177 ] يكبر إذا سجد ، وإذا رفع رأسه ، وقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب - أو قال : أم القرآن - وأسمع من يليه .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا سعيد بن السكن ، قال : حدثنا محمد بن يوسف ، قال : حدثنا البخاري ، قال : حدثنا عمرو بن ميمون ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن عكرمة ، قال : صليت خلف شيخ بمكة اثنتين وعشرين تكبيرة ، فقلت لابن عباس : إنه أحمق ، فقال : ثكلتك أمك ، سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - .

قال البخاري : وحدثنا آدم ، قال : حدثنا ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال : سمع الله لمن حمده ، قال : اللهم ربنا ولك الحمد وكان النبي عليه السلام إذا ركع وإذا رفع رأسه يكبر ، وإذا قام من السجدتين قال : الله أكبر . وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن محمد البرتي ، قال : حدثنا أبو معمر ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا ليث ، عن عبد الرحمن ، عن أنس بن [ ص: 178 ] مالك ، قال : مالك ، قال : صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر ، وعثمان ، فكلهم يكبر إذا رفع رأسه وإذا خفضه .

قال أبو عمر :

إنما ذكرنا هذا الخبر لأنه معارض لما روي عن عمر بن الخطاب أنه كان لا يتم التكبير ، وقد كان عمر بن عبد العزيز ، والقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله ، وسعيد بن جبير ، لا يتمون التكبير ، حدثنا خلف بن القاسم ، قال : حدثنا أبو الميمون البجلي بدمشق ، قال : حدثنا أبو زرعة ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا سعيد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، قال : قلت لعمر بن عبد العزيز : ما يمنعك أن تتم التكبير ، وهذا عاملك عبد الحميد بن عبد الرحمن يتمه ؟ قال : تلك الصلاة الأولى ، وأبى أن يقبل مني ومن حديث شعبة ، عن الحسن بن عمران الهاشمي ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، قال : صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان لا يتم التكبير . ذكره ابن أبي شيبة ، عن أبي داود الطيالسي ، عن شعبة ، ورواه محمود بن غيلان ، عن أبي داود ، عن شعبة ، عن الحسن بن عمران ، قال : سمعت سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى يحدث ، عن أبيه ، أنه صلى خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان لا يكبر إذا خفض يعني بين السجدتين ، ورواه أبو عاصم ، وعمرو بن مرزوق ، عن شعبة ، عن [ ص: 179 ] الحسن بن عمران ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن يتم التكبير . هذا لفظ أبي عاصم ، واتفقا على عبد الله بن عبد الرحمن ، وأما ابن أبي شيبة ومحمود بن غيلان فقالا فيه : سعيد بن عبد الرحمن ، وعبد الله وسعيد أخوان ، وكلاهما يروي عن أبيه ، عبد الرحمن بن أبزى ، وروى هذا الخبر بندار ، عن أبي داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن الحسن بن عمران ، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، قال : صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يتم التكبير ، وصليت مع عمر بن عبد العزيز فلم يتم التكبير ، وذكر ابن أبي شيبة ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : أول من نقص التكبير زياد .

أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد ، حدثنا أبو علي الحسن بن سلمة بن المعلى ، حدثنا أبو محمد بن الجارود ، حدثنا إسحاق بن منصور ، قال : سمعت أحمد بن حنبل يقول : يروى عن ابن عمر ، أنه كان لا يكبر إذا صلى وحده ، قال : وكان قتادة يكبر إذا صلى وحده ، قال أحمد : وأحب إلي أن يكبر من صلى وحده في الفرض فأما التطوع فلا .

[ ص: 180 ] قال إسحاق بن منصور : قلت لأحمد : ما الذي نقصوا من التكبير ؟ قال : إذا انحط إلى السجود من الركوع ، وإذا أراد أن يسجد السجدة الثانية من كل ركعة ، قال إسحاق بن منصور : وقال لي إسحاق بن راهويه : نقصان التكبير هو إذا انحط إلى السجود فقط ، وقد ذكرنا نقصان التكبير ، ومضى القول في ذلك في باب ابن شهاب ، عن أبي سلمة بما فيه شفاء ، إن شاء الله ، وقرأت على سعيد بن نصر ، أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر ، قال : حدثنا محمد بن سابق ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن أبيه وعلقمة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في كل ركوع وسجود ورفع ووضع ، وأبو بكر وعمر ، ويسلمون على أيمانهم وعن شمائلهم : السلام عليكم ورحمة الله ، وروى أشهب ، عن مالك ، أنه سمعه يحدث ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه ، أنه كان يكبر كلما خفض ورفع ، يخفض بذلك صوته ، انفرد به أشهب بهذا الإسناد موقوفا . وذكره الدارقطني عن أبي بكر النيسابوري ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، وقد روي عن ابن عمر مسندا ما يرد قول من قال عنه أنه كان لا يتم التكبير ، لأنه محال أن يكون عنده في ذلك عن النبي عليه السلام شيء ، ويخالفه ولو كان مباحا ، ولا سيما ابن عمر .

حدثنا أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، قال : حدثنا روح بن عبادة ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : أخبرني عمرو بن يحيى ، عن محمد بن [ ص: 181 ] يحيى بن حبان ، عن عمه واسع ، أنه سأل عبد الله بن عمر عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : الله أكبر كلما وضع وكلما رفع ، ثم يقول : السلام عليكم ورحمة الله عن يمينه ، والسلام عليكم ورحمة الله عن يساره .

قال أبو عمر :

وللقول في أحاديث التسليمتين والتسليمة الواحدة ، موضع غير هذا ، والتكبير كله في الصلاة سنة مسنونة ، لا ينبغي تركها ، وكذلك قال أبو بكر الأبهري في ذلك قال : والسنن في الصلاة خمس عشرة سنة ، أولها الإقامة ، ورفع اليدين ، والسورة مع أم القرآن ، والتكبير كله سوى الإحرام ، وذكر سائرها ، كما قد ذكرنا عنه في باب ابن شهاب عن أبي سلمة : فإن ترك التكبير كله أو بعضه تارك ، وكبر الإحرام ، فإن أهل العلم مختلفون في ذلك ، فالذي عليه جمهور العلماء وجماعة الفقهاء ، أنه لا شيء عليه إذا كبر الإحرام ، إلا أنه عندهم مسيء لا يحمد له فعله ، ولا ينبغي أن يفعل ذلك ولا يتعمده ، فإن فعله ساهيا ، سجد لسهوه عند غير الشافعي ، فإنه لا يرى السجود إلا في السهو عن عمل البدن ، لا عن الذكر ، فإن لم يفعل ، لم تبطل صلاته ، وحجتهم في ذلك ، ما ذكرناه من الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن جماعة من الصحابة في تركهم التكبير المذكور ، دون أن يعيب [ ص: 182 ] بعضهم على بعض ذلك . وهذه المسائل تعد من المسائل التي ترك فيها مالك العمل للحديث ، وأما وجوب تكبيرة الإحرام دون غيرها من التكبير ، فلقوله - صلى الله عليه وسلم - : تحريمها التكبير وأثبت شيء في ذلك عندي أيضا ، ما حدثنا محمد بن خليفة ، قال : حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا جعفر بن محمد الفريابي ، قال : حدثنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدثنا بكر بن مضر ، عن ابن عجلان ، عن علي بن يحيى الزرقي ، عن أبيه ، عن عمه وكان بدريا ، قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ دخل رجل ، فقام ناحية المسجد ، فصلى ورسول الله يرمقه ولا يشعر ، ثم انصرف فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلم ، فرد عليه السلام ثم قال : ارجع فصل فإنك لم تصل قال : لا أدري في الثانية أو في الثالثة ، قال : والذي أنزل عليك الكتاب ، لقد جهدت وحرصت ، فعلمني وأرني ، فقال : إذا أردت أن تصلي ، فتوضأ فأحسن الوضوء ، ثم استقبل القبلة ، ثم كبر ، ثم اقرأ ، ثم اركع حتى تطمئن راكعا ، ثم ارفع حتى تعتدل قائما ، ( ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم ارفع حتى تعتدل قاعدا ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، فإذا صنعت ذلك ، فقد قضيت صلاتك ، وما انتقصت من ذلك فإنما انتقصته من صلاتك .

[ ص: 183 ] وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى ، عن ابن عجلان قال : حدثني علي بن يحيى بن خلاد ، عن أبيه ، عن عمه وكان بدريا ، قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ، فدخل رجل ، فصلى في ناحية المسجد ، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرمقه ، فصلى ، ثم سلم ، فرد عليه السلام ، وقال : ارجع فصل فإنك لم تصل . فعل ذلك ثلاث مرات ، فقال في الثانية أو في الثالثة : والذي بعثك بالحق ، لقد اجتهدت في نفسي فعلمني وأرني ، فقال : إذا أردت أن تصلي ، فتوضأ ، فأحسن وضوءك ، ثم استقبل القبلة ، ثم كبر ، ثم اقرأ ، ثم اركع حتى تطمئن راكعا ، ثم ارفع حتى تطمئن قائما ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم قم . وذكر الحديث . وأخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر قال : حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد ، فدخل رجل ، فصلى . فذكر مثله بمعناه .

وهذا الحديث ذكر فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرائض الصلاة دون سننها ، وليس فيها ذكر تكبير غير تكبيرة الإحرام ففي ذلك [ ص: 184 ] أوضح الدلائل على وجوب تكبيرة الإحرام ، وسقوط ما سواها من التكبير من جهة الفرض ، وهي تشهد لصحة رواية من روى : تحريمها التكبير وهو حديث روي من وجوه : من حديث علي بن أبي طالب ، وأبي سعيد الخدري ، وأحسنها حديث علي - رضي الله عنه - وسنذكره فيما بعد من هذا الباب ، إن شاء الله . وكان ابن القاسم يقول : من أسقط من التكبير ( في الصلاة ) ثلاث تكبيرات فما فوقها ، سجد للسهو قبل السلام ، فإن لم يسجد ، بطلت صلاته . وهذا يدل على أن عظم التكبير عنده وجملته فرض ، وأن اليسير منه متجاوز عنه ، نحو التكبيرة والتكبيرتين . وقال أصبغ بن الفرج ، وعبد الله بن الحكم من رأيه : ليس على من لم يكبر في الصلاة من أولها إلى آخرها شيء إذا كبر تكبيرة الإحرام ، ولو فعل ذلك أحد ساهيا ، استحب له سجود السهو ، فإذا لم يسجد ، فلا شيء عليه . قالا : ولا ينبغي لأحد أن يترك التكبير عامدا ، لأنه سنة من سنن الصلاة ، فإن فعل فقد أساء وصلاته ماضية ، وعلى هذا القول جماعة فقهاء الأمصار من الشافعيين والكوفيين وأهل الحديث ، واختلف الفقهاء في الإحرام ، [ ص: 185 ] فذهب مالك في أكثر الروايات عنه ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهم ، إلى أن تكبيرة الإحرام فرض واجب من فروض الصلاة ، وحجتهم عندي الحديث الذي ذكرنا ، من حديث أبي هريرة ، ورفاعة بن رافع جميعا ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال للرجل : إذا أردت الصلاة ، فأسبغ الوضوء ، ثم استقبل القبلة ، ثم كبر ، ثم اقرأ ، ثم اركع وذكر الحديث ، فعلمه ما كان واجبا ، وسكت له عن رفع اليدين وعن سائر الذكر المسنون والمستحب ، فبان بذلك أن تكبيرة الإحرام واجب فعلها في الصلاة ، مع قوله ، صلى الله عليه وسلم : تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم .

وأخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن محمد بن الحنفية ، عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم .

[ ص: 186 ] أخبرنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا ( هشام ) بن عمار ، قال : سمعت وكيعا يقول : إذا رأيت الرجل لا يقيم تكبيرة الإحرام فأي شيء ترجو منه ؟ وقال عبد الرحمن بن مهدي : ولو افتتح الرجل صلاته بسبعين اسما من أسماء الله - عز وجل - ولم يكبر تكبيرة الإحرام ، وإن أحدث قبل أن يسلم لم يجزه ، وهذا تصحيح من عبد الرحمن بن مهدي لحديث : تحريمها التكبير وتحليلها التسليم وتدين منه به ، وهو إمام في علم الحديث ، وقال الزهري ، والأوزاعي وطائفة أيضا : تكبيرة الإحرام ليست بواجبة وقد روي عن مالك في المأموم ما يدل على هذا القول ، ولم يختلف قوله في الإمام والمنفرد أن تكبيرة الإحرام واجبة عليه ، وأن الإمام إذا لم يكبرها بطلت صلاته وصلاة من خلفه فرضا ، وهذا يقضي على قوله في المأموم فافهم ، والصحيح عندي قول من أوجب الإحرام بما ذكرنا ، وبالله توفيقنا .

[ ص: 187 ] واختلف الفقهاء في حال تكبيرة الإمام والمأموم في الإحرام ، فذكر ابن خواز منداد قال : قال مالك : إذا كبر الإمام ، كبر المأموم بعده ، ويكره له أن يكبر في حال تكبيره ، وإن كبر في حال تكبيره أجزأه ، وإن كبر قبله لم يجزه ، قال : وقال أبو حنيفة ، وزفر ، ومحمد ، والثوري ، وعبيد الله بن الحسين : يكبر مع تكبير الإمام . قال محمد بن الحسن : فإن فرغ المأموم من التكبير قبل الإمام لم يجزه . وقال الثوري : يجزيه ، وقال أبو يوسف ، والشافعي في أشهر قوليه : لا يكبر المأموم حتى يخلو الإمام من التكبير ، وقال أصحاب الشافعي : إن كبر قبل الإمام أجزأه ، وعندهم أنه لو افتتح الصلاة لنفسه ، ثم أراد أن يدخل في صلاة الإمام ، كان ذلك له على أحد قولي الشافعي . وقالت طائفة من أصحاب داود وغيرهم : إن تقدم جزء من تكبير المأموم في الإحرام تكبيرة الإمام لم يجزه ، وإنما يجزئه أن يكون تكبيره في الإحرام بعد إمامه ، وإلى هذا ذهب الطحاوي ، واحتج بأن المأموم إنما أمر أن يدخل في صلاة الإمام بالتكبيرة ، والإمام إنما يصير داخلا فيها من التكبير ، فكيف يصح دخول المأموم في صلاة لم يدخل فيها إمامه بعد ، واحتج أيضا لمن [ ص: 188 ] أجاز من أصحابه تكبيرهما معا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي موسى وغيره : إذا كبر الإمام فكبروا . قال : وهذا يدل على أنهم يكبرون معا لقوله : فإذا ركع فاركعوا ، وهم يركعون معا والقول الأول عنده أصح ، وهو قول أبي يوسف وأحد قولي الشافعي . واختلفوا في الوقت الذي يكبر فيه الإمام للإحرام . فقال مالك والشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن : لا يكبر حتى يخلو المؤذن من الإقامة ، وبعد أن تعتدل الصفوف ويقوم الناس مقاماتهم .

والحجة لهم ، حديث أنس : أقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يكبر في الصلاة ، فقال : أقيموا صفوفكم وتراصوا ، فإني أراكم من وراء ظهري .

وعن عمر وعثمان مثل هذا في تأخير التكبير للإحرام حتى تفرغ الإقامة وتستوي الصفوف .

وقال أبو حنيفة والثوري وزفر : لا يكبر الإمام قبل فراغ المؤذن من الإقامة ، ويستحسنون أن يكون تكبير الإمام في الإحرام إذا قال المؤذن : قد قامت الصلاة . وحجتهم حديث الثوري ، عن عاصم الأحول [ ص: 189 ] عن أبي عثمان النهدي ، عن بلال ، قال : قلت : يا رسول الله ، لا تسبقني بآمين .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي عثمان ، عن بلال أنه قال : يا رسول الله ، لا تسبقني بآمين . قالوا : وهذا يدل على أنه كان يكبر قبل الفراغ من الإقامة .

واختلفوا في حين قيام المأموم إلى الصلاة ، فكان مالك لا يحد في ذلك حدا ، وقال : لم أسمع فيه بحد ، وأرى أن ذلك على قدر طاقة الناس ، لاختلافهم في أحوالهم ; فمنهم الخفيف والثقيل . وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا لم يكن الإمام معهم في المسجد ، وأنهم لا يقومون حتى يروا الإمام ، وهو قول الشافعي وداود وحجتهم حديث أبي قتادة الأنصاري ، عن النبي عليه السلام أنه قال : إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني .

وهو حديث ثابت صحيح رواه يحيى بن كثير ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه عن يحيى جماعة ، منهم : أيوب السختياني ، والحجاج الصواف ، ومعمر بن راشد ، [ ص: 190 ] وشيبان . ذكره البخاري عن أبي نعيم ، عن شيبان ، ورواه ابن عيينة ، عن معمر ، وحدث به مسدد وغيره عن حماد بن زيد ، عن أيوب والحجاج جميعا عن يحيى بن أبي كثير . وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا كان الإمام معهم في المسجد ، فإنهم يقومون في الصف إذا ، قال المؤذن : حي على الفلاح .

وقال الشافعي وأصحابه وداود : البدار في القيام إلى الصلاة ، أولى في أول أخذ المؤذن في الإقامة ; لأنه بدار إلى فعل بر ، وليس في ذلك شيء محدود عندهم .

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل سألت أبي عن الإمام أيكبر إذا قال المؤذن : قد قامت الصلاة ، أو حيث يفرغ من الإقامة ؟ فقال : حديث أبي قتادة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني .

وقد روي عن عمر أنه كان يبعث إلى الصفوف فإذا استوت كبر ، وحديث لا تسبقني بآمين ، وأرجو أن لا يضيق ذلك إن شاء الله .

وقال أبو بكر الأثرم : قلت لأحمد بن حنبل : حديث أبي قتادة ، عن النبي عليه السلام : إذا أقيمت الصلاة ، فلا تقوموا حتى تروني . فقال أنا أذهب إلى حديث أبي هريرة رواه ، الزهري عن أبي سلمة ، عن أبي [ ص: 191 ] هريرة خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أقيمت الصفوف ، فأقبل يمشي حتى أتى مقامه ، فذكر أنه لم يغتسل ، ولا أدفع حديث أبي قتادة ، وقال : حديث أبي هريرة إسناده جيد . قال أبو عمر :

قد تقدم حديث أبي هريرة في باب إسماعيل بن أبي حكيم في الجنب يصلي بالقوم وهو ناس ، كما ذكر محمد الزبيدي ويونس ، ومعمر ، والأوزاعي ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، وقد ذكرنا الاختلاف فيه عن الزهري في باب إسماعيل بن أبي حكم . وذكر الأثرم قال : حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن عمرو بن مهاجر ، قال : رأيت عمر بن عبد العزيز ومحمد بن كعب القرظي وسالم بن عبد الله وأبا قلابة ، وعراك بن مالك الغفاري ، ومحمد بن مسلم الزهري ، وسليمان بن حبيب : يقومون إلى الصلاة في أول بدء من الإقامة .

[ ص: 192 ] حدثنا أحمد بن قاسم ، قراءة مني عليه ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي ، قال : حدثنا الهيثم بن خارجة ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن عمرو بن مهاجر ، قال : سمعت عمر بن عبد العزيز يقول : إذا سمعت النداء بالإقامة فكن أول من أجاب ، قال : ورأيت عمر بن عبد العزيز ، وسالم بن عبد الله ، وأبا قلابة ، وعراك بن مالك الغفاري ، ومحمد بن كعب القرظي ، والزهري يقومون إلى الصلاة في أول بدء من الإقامة . قال : وكان عمر بن عبد العزيز إذا قال المؤذن : قد قامت الصلاة ، عدل الصفوف بيده عن يمينه ويساره فإذا فرغ المؤذن كبر .

أخبرنا عبد الله ، حدثنا عبد الحميد ، حدثنا الخضر ، حدثنا أبو بكر الأثرم ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن عجلان ، عن أبي عبيد ، قال : سمعت عمر بن عبد العزيز بخناصرة يقول حين يقول المؤذن : قد قامت الصلاة : قوموا ، قد قامت الصلاة ، قال : وحدثنا عثمان بن أبي شيبة ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن عبد [ ص: 193 ] الرحمن بن يزيد بن جابر يقول : سمعت الزهري يقول : ما كان المؤذن يقول : قد قامت الصلاة حتى تعتدل الصفوف . قال : وحدثنا عثمان بن أبي شيبة ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن أبي يعلى ، قال : رأيت أنس بن مالك إذا قيل : قد قامت الصلاة ، قام فوثب . قال : وحدثنا أبو بكر بن أبي الأسود ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن هشام ، عن الحسن وابن سيرين ، أنهما كانا يكرهان أن يقوما حتى يقول المؤذن : قد قامت الصلاة . قال : وحدثنا عفان ، قال : حدثنا المبارك بن فضالة ، قال : سمعت فرقدا السبخي ، قال للحسن وأنا عنده : أرأيت إذا أخذ المؤذن في الإقامة ، أأقوم أم حتى يقول : قد قامت الصلاة ؟ فقال الحسن : أي ذلك شئت .

حدثنا أحمد بن سعيد بن بشر ، قال : حدثنا ابن أبي دليم ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا عبد الله بن ذكوان ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا كلثوم بن زياد المحاربي ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، قال : إذا قال المؤذن : الله أكبر ، وجب القيام ، وإذا قال : حي على الصلاة ، اعتدلت الصفوف ، وإذا قال : لا إله إلا الله ، كبر الإمام .

واختلف الفقهاء في التكبير فيما عدا الإحرام ، هل يكون مع العمل ، أو بعده ; فذهب مالك وأصحابه إلى أن التكبير يكون في حال الرفع [ ص: 194 ] والخفض حين ينحط إلى الركوع وإلى السجود ، وحين يرفع منهما ، إلا في القيام من اثنتين من الجلسة الأولى ، فإن الإمام وغيره لا يكبر حتى يستقيم قائما ، فإذا اعتدل فإنما كبر ، ولا يكبر إلا واقفا ، كما لا يكبر في الإحرام إلا واقفا ، ما لم تكن ضرورة ، وقد روي نحو ذلك عن عمر بن عبد العزيز . وقال أبو حنيفة ، والثوري ، وجمهور العلماء : التكبير في القيام من اثنتين وغيرهما سواء ، يكبر في حال الخفض والرفع والقيام والقعود ، على ظاهر حديث ابن مسعود وغيره في ذلك ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر كلما خفض ورفع ، وفي كل خفض ورفع وقيام وقعود .

حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم ، قال : أخبرنا الوليد ، قال : سألت الأوزاعي ، عن تكبيرة السجدة التي بعد سمع الله لمن حمده ، فقال : كان مكحول يكبرها ، وهو قائم ، ثم يهوي إلى السجود ، وكان القاسم بن محمد يكبرها وهو يهوي إلى السجود ، فقيل للقاسم : إن مكحولا يكبرها وهو قائم ، قال : وما يدري مكحول ما هذا ! .

التالي السابق


الخدمات العلمية