التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
913 [ ص: 259 ] حديث ثالث لابن شهاب ، عن سالم - مسند

مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا .


هكذا رواه جماعة الرواة ، عن مالك ، فيما علمت ، إلا محمد بن عمرو الغزي ، فإنه ذكر فيه الظهر والعصر بعرفة ، وزاد ألفاظا ليست في الموطأ عند أحد من الرواة : أخبرني محمد ، حدثنا علي بن عمر الحافظ ، حدثنا علي بن محمد بن أحمد المصري ، حدثنا بكر بن سهل الدمياطي ، حدثنا محمد بن عمرو ، حدثنا مالك بن أنس ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر ، قال : جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر بعرفة ، وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة ، لم يناد في واحدة منهما إلا بالإقامة ، ولم يفصل بينهما تطوعا ولا إثر واحدة منهما ، قلت : فما بال الأذان ؟ قال : إنما الأذان داع يدعو الناس [ ص: 260 ] إلى الصلاة ، فمن يدعو وهم معه ؟ لم يتابع عليه عن مالك ، وزاد فيه قوم من أصحاب ابن شهاب ألفاظا سنذكرها ونوضح القول في معانيها ، إن شاء الله .

قال أبو عمر :

لا خلاف - علمته - بين علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم من الخالفين ; أن المغرب والعشاء ، يجمع بينهما في وقت العشاء ليلة النحر بالمزدلفة لإمام الحاج والناس معه .

واختلف العلماء فيمن لم يدفع مع الإمام على ما سنذكره إن شاء الله . والمزدلفة هي المشعر الحرام ، وهي جمع ثلاثة أسماء لموضع واحد ، ومن الدليل على أن ذلك كذلك لإمام الحاج والناس في تلك الليلة قوله - صلى الله عليه وسلم - لأسامة بن زيد : الصلاة أمامك بالمزدلفة وسنذكر هذا الحديث ووجه القول فيه ، في باب موسى بن عقبة من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى .

واختلف العلماء في هيئة الجمع بين الوقوف بالمزدلفة على وجهين ، أحدهما : الأذان والإقامة ، والآخر : هل يكون جمعهما متصلا لا يفصل بينهما بعمل ، أم يجوز العمل بينهما بعمل مثل العشاء ، وحط الرحال ، ونحو ذلك ؟ .

وأما اختلافهم في الأذان والإقامة ، فإن مالكا وأصحابه يقولون : يؤذن لكل واحدة منهما ويقام بالمزدلفة ، وكذلك قوله في الظهر والعصر بعرفة أيضا ، إلا أن ذلك في أول وقت الظهر بإجماع . قال : ابن القاسم [ ص: 261 ] قال لي مالك في جمع الصلاتين بعرفة وبالمشعر الحرام ، قال : لكل صلاة أذان وإقامة ، وقال مالك : كل شيء إلى الأئمة ، فلكل صلاة أذان وإقامة .

قال أبو عمر :

لا أعلم فيما قاله مالك في هذا الباب حديثا مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجه من الوجوه ، ولكنه روى عن عمر بن الخطاب من حديث إسرائيل ، عن سماك بن حرب ، عن النعمان بن حميد أبي قدامة ، أنه صلاها مع عمر بالمزدلفة كذلك ، واختلف فيه وليس بقوي الحديث ، وروي عن ابن مسعود من حديث أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : خرجت مع عبد الله بن مسعود إلى مكة ، فلما أتى جمعا - صلى الصلاتين - كل واحد منهما بأذان وإقامة ، ولم يصل بينهما شيئا ، رواه الثوري وشعبة ، وجماعة ، عن أبي إسحاق ، والذي يحضرني من الحجة في هذا الباب من جهة النظر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سن في الصلاتين بعرفة والمزدلفة ، أن الوقت لهما جميعا وقت واحد ، وإذا كان وقتهما واحدا ، وكانت كل واحدة تصلى في وقتها ، لم تكن واحدة منهما أولى بالأذان والإقامة من الأخرى ، لأن ليس [ ص: 262 ] واحدة منهما فائتة تقضى ، وإنما هي صلاة تصلى في وقتها ، وكل صلاة صليت في وقتها ، فسنتها أن يؤذن لها ويقام في الجماعة ، وهذا بين ، والله أعلم .

وقال آخرون : أما الأولى منهما فتصلى بأذان وإقامة ، وأما الثانية فتصلى بلا أذان ولا إقامة ، قالوا : وإنما أمر عمر بالتأذين للثانية ، لأن الناس كانوا قد تفرقوا لعشائهم ، فأذن ليجمعهم ; قالوا : وكذلك نقول نحن إذا تفرق الناس عن الإمام لعشاء أو غيره ، أمر المؤذنين فأذنوا لجمعهم ، وإذا أذن أقام ، قالوا : فهذا معنى ما روي عن عمر - رضي الله عنه - قالوا : والذي روي عن ابن مسعود فمثل ذلك أيضا .

وذكروا ما حدثناه محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا أحمد بن مطرف ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان ، قال : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : كان ابن مسعود يجعل العشاء بالمزدلفة بين الصلاتين .

وذكر عبد الرزاق ، قال : أخبرنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : كنت مع ابن مسعود بجمع ، فجعل بين المغرب والعشاء العشاء ، وصلى كل صلاة بأذان وإقامة . وذكر الطحاوي قال : حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا أحمد بن يونس ، قال : [ ص: 263 ] حدثنا إسرائيل ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، أنه صلى الصلاتين مرتين بجمع كل صلاة بأذان وإقامة ، والعشاء بينهما ، وقال آخرون : تصلى الصلاتان جميعا بالمزدلفة بإقامة واحدة ولا يؤذن في شيء منهما .

واحتجوا بما رواه شعبة ، عن الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل ، قالا : صلى بنا سعيد بن جبير بإقامة المغرب ثلاثا ، فلما سلم ، قام فصلى ركعتي العشاء ، ثم حدث عن ابن عمر أنه صنع بهم في ذلك المكان مثل ذلك .

وحدث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع بهم في ذلك المكان مثل ذلك
.

وذكر عبد الرزاق وعبد الملك بن الصباح ، عن الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر ، قال : جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المغرب والعشاء ، بجمع صلاة المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة واحدة ، وقالا أيضا عن الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن مالك ، قال : صليت مع ابن عمر المغرب ثلاثا ، والعشاء ركعتين بالمزدلفة بإقامة واحدة ، فقال مالك بن خالد ، قال : عبد الرزاق : [ ص: 264 ] هو الحارثي ، وقال عبد الملك : هو المحاربي ، ما هذه الصلاة يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : صليتها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا المكان بإقامة واحدة .

قال أبو عمر :

وقد روى شعبة هذا الحديث عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن مالك بن الحارث ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رواه الثوري ، ورواه زهير بن معاوية ، عن أبي إسحاق ، عن مالك بن الحارث ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصواب ما قاله شعبة والثوري ، والله أعلم .

وحدثنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا أحمد بن مطرف ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان ، قال : حدثنا يونس ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : حدثني أربعة كلهم ثقة ، منهم سعيد بن جبير ، وعلي الأزدي ، عن ابن عمر أنه صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة بإقامة واحدة ، وذكر عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن ابن أبي حسين ، عن علي الأزدي ، عن ابن عمر مثله . وبه يقول سفيان الثوري وجماعة ، وقد حمل قوم حديث ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله بن [ ص: 265 ] عمر ، عن أبيه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا لم يناد في واحدة منهما إلا بالإقامة على هذا أيضا أي بإقامة واحدة ، وحمله غيرهم على الإقامة لكل صلاة منهما دون أذان ، وهو الصواب ، وهو محفوظ في حديث ابن أبي ذئب من رواية الحفاظ الثقات . وكذلك ذكر معمر وغيره في هذا الحديث عن ابن شهاب على ما سنذكره - إن شاء الله .

وقد روي من حديث أبي أيوب الأنصاري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى المغرب والعشاء بجمع بإقامة واحدة ، ولا يصح قوله فيه بإقامة واحدة ، لأن مالكا وغيره من الحفاظ لم يذكروا ذلك فيه . وروي ذلك أيضا من حديث البراء ، وهو عند أهل الحديث خطأ ، وسنذكر ذلك في بابه - من كتابنا هذا إن شاء الله .

وقال آخرون : تصلى الصلاتان جميعا بالمزدلفة بأذان واحد وإقامتين . واحتجوا بحديث جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، وهو أكمل حديث روي في الحج وأتمه وأحسنه مساقا ، رواه بتمامه عن جعفر بن محمد ، يحيى بن سعيد القطان ، وحاتم بن إسماعيل وجماعة ، وإلى هذا ذهب أبو جعفر الطحاوي واختاره ، وزعم أن النظر يشهد له ، لأن الآثار لم تختلف أن الصلاتين بعرفة صلاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأذان واحد [ ص: 266 ] وإقامتين ، فكذلك صلاتا المزدلفة في القياس ، لأنهما في حرمة الحج ، والآثار مختلفة في ذلك بالمزدلفة ، وغير مختلفة في ذلك بعرفة ، خالف الطحاوي في ذلك أبا حنيفة وأصحابه ، لأنهم يقولون إن الوقوف تصليان بالمزدلفة بأذان واحد وإقامة واحدة ، وذهبوا في ذلك إلى ما رواه هشيم عن يونس بن عبيد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر أنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامة واحدة ، ولم يجعل بينهما شيئا ، قالوا : فكان محالا أن يكون ابن عمر أدخل بينهما أذانا إلا وقد علمه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروي مثل هذا مرفوعا من حديث خزيمة بن ثابت وليس بالقوي .

وقد حكى الجوزجاني ، عن محمد بن الحسن ، عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة ، أنهما تصليان بأذان وإقامتين ، يؤذن للمغرب ويقام للعشاء فقط ، وإلى هذا ذهب الطحاوي ، وبه قال أبو ثور .

وحجتهم في ذلك ، حديث جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واعتلوا بنحو ما قدمنا ذكره من أن عمر وابن مسعود ، إنما أذنا للثانية من أجل تأخيرهما العشاء ، وقال آخرون : تصلى الصلاتان جميعا بإقامتين دون أذان لواحدة منهما ; وممن قال ذلك الشافعي وأصحابه ، ومن حجة من ذهب إلى ذلك ، ما ذكره عبد الرزاق ، [ ص: 267 ] عن معمر ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء المزدلفة ، جمع بين المغرب والعشاء ، صلى المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة لكل واحدة منهما ، ولم يصل بينهما شيئا . ورواه الليث بن سعد ، عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله . وليس في حديث مالك هذه الزيادة ، وهؤلاء حفاظ زيادتهم مقبولة ، وذكر الشافعي عن عبد الله بن نافع ، عن ابن أبي حبيب ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه ، أنه ، قال : لم يناد بينهما ، ولا على إثر واحدة منهما إلا بإقامة .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بجمع بإقامة إقامة ، لم يسبح بينهما ولا على إثر واحدة منهما . واحتج الشافعي أيضا بحديث مالك ، عن موسى بن عقبة ، عن كريب مولى ابن عباس ، عن أسامة بن زيد ، أنه سمعه يقول دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ثم توضأ ، فلم يسبغ الوضوء ، فقلت له : الصلاة ؟ فقال : الصلاة أمامك ، فركب حتى جاء المزدلفة ، فنزل فتوضأ ، فأسبغ الوضوء ، ثم أقيمت الصلاة ، [ ص: 268 ] فصلى المغرب ، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ، ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئا .

قال أبو عمر :

هذه الآثار ثابتة عن ابن عمر ، وهي من أثبت ما روي في هذا الباب عنه ، ولكنها محتملة للتأويل ، وحديث جابر لم يختلف عليه فيه : أخبرني عبد الرحمن بن يحيى وغيره ، عن أحمد بن سعيد ، قال : سمعت أحمد بن خالد يعجب من مالك في هذا الباب ، إذ أخذ بحديث ابن مسعود ولم يروه ، وترك الأحاديث التي روى .

[ ص: 269 ] قال أبو عمر :

فهذا اختصار ما بلغنا من الآثار واختلافها في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتهذيب ذلك ; وأجمع العلماء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفع من عرفة بالناس - بعدما غربت الشمس يوم عرفة ، فأفاض إلى المزدلفة ، وأنه - عليه السلام - أخر حينئذ صلاة المغرب ، فلم يصلها حتى أتى المزدلفة ، فصلى بها بالناس بالمغرب والعشاء جميعا - بعدما غاب الشفق ودخل وقت العشاء الآخرة ، وأجمعوا أن ذلك سنة الحاج في ذلك الموضع ، وقد قدمنا ذكر ما اختلف فيه عنه - صلى الله عليه وسلم - من كيفية الأذان والإقامة في حين جمعه للصلاتين بالمزدلفة ; وأما اختلاف الفقهاء في ذلك ، فإن مالكا ذهب إلى أن كل صلاة منهما يؤذن لها ويقام ، واحدة بإثر أخرى ، وعلى ذلك أصحابه . وذهب الثوري إلى أنهما - جميعا - تصليان بإقامة واحدة ولا يفصل بينهما إلا بالتسليم . وذهب الشافعي إلى أن كل واحدة منهما تصلى بإقامة إقامة ، ولا يؤذن لواحدة منهما ; وبه قال إسحاق بن راهويه ، وهو أحد قولي أحمد بن حنبل ، وروي ذلك عن سالم والقاسم ; وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنهما يصليان بأذان واحد وإقامتين ، وهو قول أبي ثور ، واحتج بحديث جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك وقد ذكرنا حجة كل واحد [ ص: 270 ] منهم من جهة الأثر ، ولا مدخل في هذه المسألة للنظر ، وإنما فيها الاتباع ; واختلفوا فيمن صلى الصلاتين المذكورتين قبل أن يصل إلى المزدلفة ، فقال مالك : لا يصليهما أحد قبل جمع إلا من عذر ، فإن صلاهما من عذر لم يجمع بينهما حتى يغيب الشفق . وقال الثوري : لا يصليهما حتى يأتي جمعا ، وله السعة في ذلك إلى نصف الليل ; فإن صلاهما دون جمع أعاد . وقال أبو حنيفة : إن صلاهما قبل أن يأتي المزدلفة فعليه الإعادة ، وسواء صلاهما قبل مغيب الشفق أو بعده ، عليه أن يعيدهما إذا أتى المزدلفة .

واختلف ، عن أبي يوسف ومحمد ، فروي عنهما مثل ذلك ، وروي عنهما إن صلاهما بعرفات أجزأه .

وعلى قول الشافعي : لا ينبغي أن يصليهما قبل جمع ، فإن فعل أجزأه ، وبه قال أبو ثور ، وأحمد ، وإسحاق وروي ذلك عن عطاء ، وعروة ، وسالم ، والقاسم ، وسعيد بن جبير .

وقد روي عن جابر بن عبد الله قال : لا صلاة إلا بجمع .

ومن الحجة لمن ذهب إلى ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - خذوا عني مناسككم . وصلاهما جميعا بعد مغيب الشفق بجمع ، فليس لأحد أن يصليهما إلا في ذلك الموضع كذلك ، إلا من عذر - كما قال مالك - والله أعلم .

[ ص: 271 ] وقد ذكرنا أقوال الفقهاء فيمن فاتته الصلاة مع الإمام بالمزدلفة ، هل له أن يجمع الصلاتين أم لا ، في كتابنا هذا ثم ذكر الصلاة بعرفة . واختلفوا فيمن لم يمر بالمزدلفة ليلة النحر ولم يأتها ولم يبت بها غداة النحر ، فقال مالك : من لم ينخ بالمزدلفة ولم ينزل بها ، وتقدم إلى منى فرمى الجمرة ، فإنه يهريق دما ، فإن نزل بها ثم دفع منها في أول الليل أو وسطه أو آخره ، وترك الوقوف مع الإمام ، فقد أجزأه ولا دم عليه .

وقال الثوري : من لم يقف بجمع ، ولم يقف بها ليلة النحر ، فعليه دم ، وهو قول عطاء في رواية ، وقول الزهري ، وقتادة ، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور .

وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : إذا ترك الوقوف بالمزدلفة ولم يقف بها ولم يمر بها ولم يبت فيها ، فعليه دم ; قالوا : فإن بات وتعجل في الليل ، رجع إذا كان خروجه لعذر حتى يقف مع الإمام أو يصبح بها ، فإن لم يفعل ، فعليه دم ، قالوا : وإن كان رجلا مريضا أو ضعيفا أو غلاما صغيرا فتقدموا من المزدلفة بالليل فلا شيء عليهم .

وقال الشافعي : إن نزل وخرج منها بعد نصف الليل ، فلا شيء عليه ، وإن خرج قبل نصف الليل فلم يعد إليها ليقف بها مع الإمام ويصبح ، فعليه شاة . قال : وإنما حددنا نصف الليل ، لأنه بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لضعفة أهله أن يرتحلوا من آخر الليل ، ورخص [ ص: 272 ] لهم في أن لا يصبحوا ، بها ولا يقفوا مع الإمام ; والفرض على الضعيف والقوي - سواء ، ولكنه تأخر لمواضع الفضل وتعليم الناس ; قال : وما كان بعد نصف الليل فهو من آخر الليل ، وروي عن عطاء أنه إن لم ينزل بجمع فعليه دم ، وإن نزل بها ثم ارتحل بليل فلا شيء عليه . رواه ابن جريج وغيره ، وهو الصحيح عنه ; وكان عبد الله بن عمر يقول : إنما تدلج منه إذا شئت .

وقال علقمة وعامر الشعبي ، وإبراهيم النخعي ، والحسن البصري : من لم ينزل بالمزدلفة ، وفاته الوقوف بها ، فقد فاته الحج ، ويجعلها عمرة ; وهو قول عبد الله بن الزبير ، وبه قال الأوزاعي إن الوقوف بالمزدلفة فرض واجب ، يفوت الحج بفواته . وقد روي عن الثوري مثل ذلك ولا يصح عنه ، والأصح عنه - إن شاء الله - ما قدمنا ذكره .

وروي عن حماد بن أبي سليمان أنه قال : من فاتته الإفاضة من جمع ، فقد فاته الحج فليحل بعمرة ثم يحج قابلا .

وحجة من قال بهذا القول ، قول الله عز وجل : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام . وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أدرك جمعا مع الناس حتى يفيض ، فقد أدرك . وهذا المعنى رواه عروة بن مضرس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 273 ] حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا زكرياء بن أبي زائدة ، عن عامر قال : حدثني عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام ، أنه حج على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يدرك الناس إلا ليلا ، وهم بجمع ، فانطلق إلى عرفات ليلا فأفاض منها ، ثم رجع إلى جمع ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، أتعبت نفسي ، وأنصبت راحلتي ، فهل لي من حج ؟ فقال : من صلى معنا الغداة بجمع ، ووقف معنا حتى نفيض ، وقد أفاض من عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه رواه . عن الشعبي جماعة منهم : إسماعيل بن أبي خالد ، وعبد الله بن أبي السفر ، وداود بن أبي هند ، وكان سفيان بن عيينة يقول : زكرياء أحفظهم لهذا الحديث ، عن الشعبي .

قال أبو عمر :

معناهم كله واحد متقارب : أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن إسماعيل ، حدثنا عامر ، أخبرنا عروة بن مضرس الطائي ، قال : أتيت [ ص: 274 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالموقف - يعني بجمع - فقلت : جئت يا رسول الله من جبلي طيئ ، أكللت مطيتي ، وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج ؟ ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أدرك معنا هذه الصلاة ، وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه .

قال إسماعيل القاضي : ظاهر هذا الحديث إن كان صحيحا - والله أعلم - يدل على أن الرجل سأله عما فاته من الوقوف بالنهار بعرفة ، فأعلمه أن من وقف بعرفة ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه ، فدار الأمر على أن الوقوف بالنهار لا يضره إن فاته ، لأنه لما قال : ليلا أو نهارا ، فالسائل يعلم أنه ( إذا وقف بالليل وقد فاته الوقوف بالنهار ، أن ذلك لا يضره ، وأنه قد تم حجه ; لأنه رأى له بهذا القول أن يقف بالنهار دون الليل ) وعلم أن المعنى فيه إذا وقف بالليل وقد فاته الوقوف بالنهار ، أن ذلك لا يضره ، قال : ولو حمل هذا الحديث أيضا على ما يحتج به من احتج به ، لوجب على من لم يدرك الصلاة مع الإمام بجمع ، أن يكون حجه فاسدا ، ولكن الكلام يحمل على صحته ، وصحة هذا المعنى فيه ، لأن [ ص: 275 ] الرجل إنما سأل وقد أدرك الصلاة بجمع ، وقد وقف بعرفة ليلا فأعلم أن حجه تام .

وقال أبو الفرج : معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عروة بن مضرس - : وقد أفاض قبل ذلك ليلا أو نهارا أراد - والله أعلم - ليلا ، أو نهارا وليلا فسكت عن أن يقول ليلا ، لعلمه بما قدم من فعله ، لأن من وقف نهارا ، فقد أدرك الليل ، لأنه أراد بذكر النهار اتصال الليل به . قال : وقد يحتمل أن يكون قوله ليلا أو نهارا ، بمعنى ليلا ونهارا ، فتكون أو بمعنى الواو ، كما قال الله عز وجل : ولا تطع منهم آثما أو كفورا - أي آثما وكفورا - والله أعلم .

قال أبو عمر :

لو كان كما ذكر ، كان الوقوف واجبا ليلا ونهارا ، ولم يغن أحدهما عن صاحبه ، وهذا لا يقوله أحد ، وقد أجمع المسلمون أن الوقوف بعرفة ليلا يجزئ عن الوقوف بالنهار ، إلا أن فاعل ذلك عندهم إذا لم يكن مراهقا ، ولم يكن له عذر ، فهو مسيء ، ومن أهل العلم من رأى عليه دما ، ومنهم من لم ير عليه شيئا ، وجماعة العلماء يقولون : إن من وقف بعرفة ليلا أو نهارا - بعد زوال الشمس من يوم عرفة - أنه مدرك للحج ، إلا مالك بن أنس ، ومن قال بقوله ، فإن الفرض عنده الليل دون النهار ، وعند سائر العلماء الليل والنهار بعد الزوال في ذلك سواء في الفرض ; إلا أن السنة أن يقف كما وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهارا يتصل [ ص: 276 ] له بالليل ; ولا خلاف بين أهل العلم أن الوقوف بعرفة فرض ، لا حج لمن فاته الوقوف بها يوم عرفة - كما ذكرنا ، أو ليلة النحر - على ما وصفنا ; وسنذكر ما يجب من القول في أحكام الوقوف بعرفة والصلاة بها في أولى المواضع من كتابنا هذا ، وذلك حديث ابن شهاب ، عن سالم ، في قصة ابن عمر مع الحجاج - إن شاء الله .

واحتج أيضا بعض من لم ير الوقوف بالمزدلفة فرضا من غير أصحابنا ، بأن قال : ليس في حديث عروة بن مضرس دليل على ما ذكر لمن أوجب الوقوف بالمزدلفة فرضا ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما قال فيه : من صلى صلاتنا هذه - وكان قد أتى قبل ذلك عرفة من ليل أو نهار ، فقد قضى حجه ، وتم تفثه ، فذكر الصلاة بالمزدلفة ، وكان أجمع أنه لو بات بها ، ووقف ونام عن الصلاة فلم يصلها مع الإمام حتى فاتته ، أن حجه تام ، فلما كان حضور الصلاة مع الإمام المذكور في هذا الباب ليس من صليب الحج ، كان الوقوف بالموطن الذي تكون فيه الصلاة أحرى أن يكون كذلك ; قالوا : فلم يتحقق بهذا الحديث ذلك الفرض إلا بعرفة خاصة ، قالوا : فإن احتج محتج بقول الله عز وجل : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام وقال : قد ذكر الله المشعر الحرام كما ذكر عرفات ، وذكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنته ، فحكمهما واحد ، لا يجزئ الحج إلا بإصابتهما ; قيل له : ليس في قول الله عز وجل : فاذكروا الله عند المشعر الحرام دليل على أن ذلك على الوجوب في الوقوف ، وكل قد أجمع أنه لو وقف بالمزدلفة - ولم يذكر الله - أن حجه تام ، فإذا لم يكن الذكر المأمور به من صلب الحج ، فشهود الموطن أولى بأن لا يكون كذلك .

[ ص: 277 ] قال : وقد ذكر الله في كتابه أشياء من أمر الحج لم يرد بذكرها إيجابها ; هذا ما احتج به أبو جعفر الأزدي ، وذكر حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الحج عرفات . وفي بعض ألفاظ هذا الحديث : الحج يوم عرفة فمن أدرك جمعا قبل صلاة الفجر فقد أدرك .

التالي السابق


الخدمات العلمية