التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1803 مالك ، عن نافع ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة أنها أخبرته أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير ، فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على الباب ، فلم يدخل فعرفت في وجهه الكراهية ، فقالت : يا رسول الله ، أتوب إلى الله ، ماذا أذنبت ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما بال هذه النمرقة ؟ قالت : اشتريتها ; لتقعد عليها ، وتوسدها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن أصحاب [ ص: 51 ] هذه الصور يوم القيامة يعذبون ، يقال لهم : أحيوا ما خلقتم وقال - صلى الله عليه وسلم - : إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة .


قال أبو عمر : النمرقة : الوسادة ، وقال الخليل : والنمروق : الوسادة أيضا ، وهذا الحديث يقتضي تحريم استعمال ما فيه التصاوير ، من الثياب وأمثالها ، والاستمتاع بها في ثوب كانت أو غير ثوب ، كان الثوب مما يوطأ أو لم يكن ; لأن النمرقة مما توطأ وتمتهن ، وقد ورد فيها ما رأيت في هذا الباب ، ولم يخص بيتا فيه نوع التصاوير من نوع ما ، ولا في موضع ما ، ولا خص ثوبا من ثوب ، وحكم كل ثوب حكم النمرقة ، وليس في شيء من أحاديث هذا الباب أحسن إسنادا من هذا الحديث ، وقد رواه الزهري ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة مثله سواء ، إلا أنه جعل في موضع النمرقة قراما ، والقرام : جمع قرامة ، قال الخليل : القرامة : ثوب صوف ملون ، والمعنى في ذلك كله واحد ; لأنها كلها ثياب تمتهن ، ولم يرخص في شيء منها في هذا الحديث ، وإن كانت الرخصة قد وردت في غيره في هذا المعنى ، فإن ذلك متعارض .

[ ص: 52 ] وحديث عائشة هذا من أصح ما يروى في هذا الباب ، إلا أن عبيد الله بن عمر روى هذا الحديث ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، فخالف في معناه ، وذكر فيه الرخصة فيما يرتفق ويتوسد ، وقد مضى في الصور وكراهيتها في الثياب وغيرها ذكر في باب إسحاق بن أبي طلحة من كتابنا هذا ، وسيأتي القول في هذا الباب بما للعلماء فيه من الوجوه والمذاهب في باب أبي النضر من كتابنا هذا ممهدا موعبا ، إن شاء الله .

حدثنا قاسم بن محمد ، قال : حدثنا خالد بن سعد ، قال : حدثنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا بحر بن نصر ، قال : حدثنا بشر بن بكر .

وحدثنا محمد بن عبد الله ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا إسحاق بن أبي حسان ، قال : حدثنا هشام بن عمار ، قال : حدثنا عبد الحميد بن حبيب ، قالا : حدثنا الأوزاعي ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني القاسم بن محمد ، عن عائشة ، قالت : دخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا مستترة بقرام فيه صور ، فهتكه وقال : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله .

وحدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، وأحمد بن فتح ، قالا : حدثنا حمزة بن محمد ، قال : أخبرنا محمد بن سعيد بن عثمان بن عبد [ ص: 53 ] السلام السراج ، قال : حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح ، قال : حدثني إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، قالت : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا مستترة بقرام فيه صور ، فتلون وجهه ، وتناول الستر فهتكه ، ثم قال : إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله .

ورواه ابن عيينة ، عن ابن شهاب بإسناده مثله ، ففي هذا الحديث دليل على أن القرام ستر ، ويحتمل أنه إذ هتكه وخرقه فقد أبطل الانتفاع به ، ويحتمل أن يكون أباح الانتفاع منه بما كان يوطأ ويمتهن ، وكره ما ينصب نصبا ، كالستر وشبهه ; ولهذا - والله أعلم - قال من قال من العلماء : ما قطع رأسه فليس بصورة ، وما لم ينصب ويبسط فليس به بأس .

ويدل حديث عبيد الله بن عمر على نحو ما ذكرنا من الاحتمال ، حدثنا أحمد بن قاسم بن عيسى ، قال : حدثنا عبيد الله بن محمد بن حبابة ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، قال : حدثنا بشر بن الوليد ، قال : حدثنا عبد العزيز بن عبد بن أبي سلمة ، عن عبيد الله بن عمر ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، قالت : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي البيت ستر منصوب عليه تصاوير ، فعرف الغضب في وجهه ، قالت : فهتكته ، وأخذته فجعلته مرفقتين ، فكان يرتفق بهما في [ ص: 54 ] بيته 0 فرواية عبيد الله بن عمر هذه ، عن القاسم مخالفة لرواية الزهري ، ونافع ، عن القاسم ، وعبيد الله ثقة حافظ ، وسماعه من القاسم ومن سالم صحيح ، والزهري ، ونافع أجل منه ، والله أعلم بالصحيح من ذلك ، ومن جهة النظر ، لا يجب أن يقع المنع والحظر إلا بدليل لا منازع له ، وحديث سهل بن حنيف ، مع أبي طلحة الأنصاري يعضد ما رواه عبيد الله بن عمر في ذلك ، وسيأتي ذكر حديث سهل بن حنيف ، وأبي طلحة في باب أبي النضر من كتابنا هذا في حرف السين ، وقد مضى ما للفقهاء في هذا الباب من المذاهب في باب إسحاق بن أبي طلحة ، ويأتي في باب أبي النضر سالم ما فيه أيضا عن التابعين ، إن شاء الله عز وجل .

التالي السابق


الخدمات العلمية