صفحة جزء
[ ص: 3405 ] [ 1 ] باب الملاحم

الفصل الأول

5410 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان ، تكون بينهما مقتلة عظيمة ، دعواهما واحدة ، وحتى يبعث دجالون كذابون ، قريبا من ثلاثين ، كلهم يزعم أنه رسول الله ، وحتى يقبض العلم ، وتكثر الزلازل ، ويتقارب الزمان ، وتظهر الفتن ، ويكثر الهرج وهو القتل ، وحتى يكثر فيكم المال فيفيض ، حتى يهم رب المال من يقبل صدقته ، وحتى يعرضه فيقول الذي يعرض عليه : لا أرب لي به ، وحتى يتطاول الناس في البنيان ، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول : يا ليتني مكانه ، وحتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون ، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما ، فلا يتبايعانه ولا يطويانه ، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها " . متفق عليه .


[ 1 ] باب الملاحم

بفتح الميم وكسر الحاء جمع الملحمة ، وهي المقتلة ، أو هي الواقعة العظيمة ، وفي النهاية : هو الحرب وموضع القتال مأخوذ من اشتباك الناس واختلاطهم فيها ، كاشتباك لحمة الثوب بالثدي ، وقيل : هو من اللحم لكثرة لحوم القتلى فيها اهـ . ومن أسمائه - صلى الله عليه وسلم - نبي الملحمة ، وفيه إشارة إلى أنه معدن الجلال ، كما أنه منبع الجمال ; لكونه نبي الرحمة ، والجمع بينهما هو الكمال ، وإنما أطلق سبحانه في حقه قوله : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين بناء على غلبة رحمته ، تخلقا بأخلاق الله وصفته ، كما ورد في الحديث القدسي : ( سبقت رحمتي غضبي ) ; ولذا ينادى بيا أرحم الراحمين ، بل الملحمة في الحقيقة عين المرحمة ، كما أن المحن من عنده سبحانه هي المنح والمنن ، والبلاء عين الولاء ، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم .

الفصل الأول

5410 - ( عن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تقوم الساعة " ) بتأنيث الفعل ويذكر ، وكذا قوله : ( " حتى تقتتل فئتان عظيمتان " ) أي : كثيرتان أو كمية وكيفية ; لما كان في كل منهما جماعة من الصحابة ، ويمكن حمله على التغليب ، إذ الجماعة العظيمة في الحقيقة إنما كانت جماعة علي - كرم الله وجهه - قال الأكمل : وهذا من المعجزات ; لأنه وقع بعده في الصدر الأول ، ( " تكون بينهما مقتلة عظيمة " ) أي : حرب عظيمة وقتال قوي ، ( " دعواهما واحدة " ) أي : كل واحد من الفئتين تدعي الإسلام ، قال ابن الملك : المراد علي ومعاوية ومن معهما ، ويؤخذ من قوله : دعواهما واحدة الرد على الخوارج في تكفيرهم كلتا الطائفتين ، اهـ .

وفي كون الحديث ردا عليهم مجرد دعوى لا يخفى ; فإنه لا يلزم من تحقق الدعوى وصول المدعى ، وحصول المعنى ، مع أن الدعوى قد تصرف إلى دعوى الخلافة ونحوها ، ( " وحتى يبعث " ) أي : يرسل من عالم الغيب إلى صحن الوجود ، ويظهر ( " دجالون " ) أي : مبالغون في فساد العباد والبلاد ( " كذابون " ) أي : على الله ورسوله .

في شرح السنة : كل كذاب دجال ، يقال : دجل فلان الحق بباطله غطاه ، ومنه أخذ الدجال ، ودجله سحره وكذبه ، وقيل : عن الدجال دجالا لتمويهه على الناس وتلبيسه ، يقال : دجل إذا موه ولبس ، ( " قريبا من ثلاثين " ) ، وهذا لا ينافى جزمه فيما سبق بقوله ثلاثون ، فإنه إما متأخر ، وإما المراد منه التقريب ، وكذا لا ينافي ما رواه الطبراني عن ابن عمر : ولا تقوم الساعة حتى يخرج سبعون كذابا ، فإن المراد منه التكثير ، أو الثلاثون مقيدون بدعوى النبوة ، والباقون بغيرها على احتمال أن السبعين غير الثلاثين ، فتكمل المائة ، والله تعالى أعلم . ( " كلهم يزعم أنه رسول الله " ) ، وفي نسخة نبي الله ( " وحتى يقبض " ) أي : يؤخذ ويرفع ( " العلم " ) أي : النافع المتعلق بالكتاب والسنة بقبض العلماء من أهل السنة والجماعة ، فيكثر أهل الجهل والبدعة ، ( " وتكثر الزلازل " ) ، أي الحسية وهي تحريك الأرض ، أو المعنوية وهي أنواع البلية ، فإن موت العلماء فوت العالم ( " ويتقارب الزمان " ) ، قال الخطابي : أراد به زمان المهدي لوقوع الأمن في الأرض ; فيستلذ العيش عند ذلك ; لانبساط عدله ، فتستقصر مدته ; لأنهم يستقصرون مدة أيام الرخاء وإن طالت ، ويستطيلون أيام الشدة وإن قصرت ، ( " وتظهر الفتن " ) أي : ويترتب عليها المحن ، ( " ويكثر الهرج " ) قيل : المراد بكثرته شموله ودوامه ( " وهو " ) : [ ص: 3406 ] أي : الهرج ( " القتل " ) ، يحتمل أن يكون مرفوعا ، والأظهر أنه تفسير من أحد الرواة ، فهو جملة معترضة ، ( " وحتى يكثر فيكم المال فيفيض " ) بالنصب ويرفع ، من فاض الماء إذا انصب عند امتلائه ، والضمير إلى المال ، فهو مبالغة لحصول المنال في المآل ، ( حتى يهم ) بضم الياء وكسر الهاء وتشديد الميم ، من أهمه أحزنه وأقلقه ، وقوله : ( " رب المال " ) منصوب على أنه مفعول ، والفاعل قوله : ( " من يقبل صدقته " ) على تقدير مضاف ، أي : حتى يوقع في الحزن فقدان من يقبل الصدقة من رب المال ; حيث لم يجد من يقبله ، والتمليك شرط لحصول الزكاة ، كما أن القبض شرط لحصول الصدقة . وفي بعض النسخ : بضم الياء وفتح الهاء ، على أنه همه لغة بمعنى أحزنه ، فرب المال منصوب على حاله ، وفي بعضها يرفعه على أنه فاعل ، ومن مفعوله ، أي : يقصده رب المال ، عكس المتعارف في بقية الأزمنة والأحوال من هم به إذا قصده ، فيكون من باب الحذف والإيصال ، والمعنى الأول هو المعول ، فتأمل .

قال النووي - رحمه الله - في شرح مسلم : ضبطوه بوجهين ، وأشهرها ضم أوله وكسر الهاء . قال الطيبي - رحمه الله : وفي جامع الأصول مقيد بضم الباء ، ورب المال مفعوله ، والموصول مع صلته فاعله ، وقوله : ( " وحتى يعرضه " ) بكسر الراء عطف على مقدر ، والمعنى : حتى يهم طلب من يقبل الصدقة صاحب المال ; فيطلبه حتى يجده وحتى يعرضه ، اهـ .

أي : حتى يعرض المال الذي أراد أن يتصدق به على من يظن أنه يقبله ( " فيقول الذي يعرضه عليه ! لا أرب لي به " ) بفتح الهمزة والراء أي : لا حاجة لي إليه " ، إما لغنى قلبه أو لغنى يده ، والأظهر أنه لهما جميعا ، فكأن الخير وسع الجميع بما فيه ، وقنع كل واحد بما يكفيه ، فلا يريد ما يطغيه أو ما لا يعنيه ، وإلا فمن المعلوم أنه لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثا ، ولن يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب ، على ما ورد في الحديث ، بل في القرآن المنسوخ التلاوة ، فكان أهل ذلك الزمان كلهم ممن تاب الله عليهم ، حتى رجعوا إلى مقام الرضا بالقضاء ، والقناعة بالكفاية ، والاستغناء بما قسمه الله على الناس ، فإن الاستئناس بالناس من علامة الإفلاس . ( " وحتى يتطاول الناس في البنيان " ) أي : حتى يتزايدوا في طوله وعرضه ، أو يفتخروا في تزيينه وتحسينه ، وهذا غير مقيد بزمان المهدي ، بل المراد له إما بعده وإما قبله ، فإن الآن قد كثر البنيان وافتخر به أهل الزمان ، وتطاول به اللسان في كل مكان ، وهدموا العمارة الموضوعة للخيرات ، وجعلوها دورا وبساتين ومواضع التنزهات ومحال التلهيات ، ( " وحتى يمر الرجل " ) أي : من كثرة همومه وغمومه في أمر دينه أو دنياه ، أو كثرة بلائه وقلة دوائه ( " بقبر الرجل " ) أي : من أقاربه أو أجانبه ( " فيقول " ) بالنصب ويرفع ( " يا ليتني مكانه " ) ، نقل بالمعنى ; إذ لفظه : مكانك ، أي : ليتني كنت ميتا حتى لا أرى الفتنة ولا أشاهد المحنة ، ( " وحتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون " ) تأكيد للناس أو لضميره ، أي : كلهم لما رأوه من الآية الملجئة والعلامة العيانية ، وكان المطلوب منهم الإيمان في الحالة الغيبية ، كما أشار إليه سبحانه : الذين يؤمنون بالغيب ; ولذا قال : ( فذلك ) أي : الوقت ( حين لا ينفع نفسا إيمانها ) ، وكذا ما يترتب على إيمانهم من عمل خيرها أي الحادثين في ذلك الوقت ، كما بينه بقوله : لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ) ، ( فأو ) للتنويع ; إذا قد يوجد إيمان مجرد عن العمل ، وقد يقترن العمل بالإيمان ، لكن لما كان وقوعهما في حال البأس ، ووقت اليأس لا يكونان نافعين ، قال تعالى : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ، وقيل : التقدير : لا ينفع إيمانها ولا كسبها إن لم تكن آمنت من قبل ، أو لم تكن كسبت ، فالكلام من اللف التقديري والنشر الظاهري ، هذا وقيل : جملة ( لم تكن آمنت ) صفة نفس ، والأولى أن تحمل على الاستناف ; لئلا يقع الفصل بين الصفة [ ص: 3407 ] والموصوف ، وقوله : ( من قبل ) أي : قبل إتيان بعض آيات الرب ، على ما في القرآن مبهما ومجملا ، ومن قبل طلوع الشمس من مغربها ، على ما في الحديث مفسرا ومبينا ، ثم قيل : ( أو كسبت ) عطف على آمنت ، والمراد بالخير التوبة أو الإخلاص ، فتنوينه للتعظيم أي : لا ينفع تلك النفس إيمانها وقبول توبتها ; فيفيد أن ( أو ) للتنويع ، فكأنه قال : لا ينفعها توبة عن الشرك ، ولا توبة عن المعاصي ، وبهذا يندفع استدلال المعتزلة بالآية على أن العمل المعبر عنه بالخير جزاء للإيمان ، مع أن الظاهر من قوله تعالى : في إيمانها خيرا يدفع ذلك ، ثم قيل : عدم قبول الإيمان والتوبة في ذلك الوقت مخصوص بمن شاهد طلوعها ، حتى إن من ولد بعده أو لم يشاهده يقبل كلاهما منه ، والصحيح أنه غير مخصوص ; للخبر الصحيح : إن التوبة لا تزال مقبولة حتى يغلق بابها ، فإذا طلعت الشمس من مغربها أغلق .

( " ولتقومن الساعة " ) أي : النفخة الأولى ، وهي مقدمة الساعة فأطلقت عليها ( " وقد نشر الرجلان " ) الجملة حالية أي : والحال أنهما فتحا وفرقا ( " ثوبهما بينهما " ) ، الإضافة لأحدهما على أنه صاحبه ، وللآخر على أنه طالبه ( " فلا يتبايعانه " ) أي : لا يكملان البيع والشراء ، ( ولا يطويانه ) أي : ولا يجمعان الثوب فيفترقان ، بل تقع الساعة عليهما وهما مشغولان بالبيع والشراء ، كما قال تعالى : ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ، وحاصله أن قيام الساعة يكون بغتة لقوم وهم في انشغالهم ، كما قال تعالى : لا تأتيكم إلا بغتة ، ( ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته ) : بكسر اللام وسكون القاف أي : ناقة ذات لبن ( " فلا يطعمه " ) أي : فلا يمكن الرجل أن يشرب اللبن الذي حلبه وهو في يده ، ( " ولتقومن الساعة وهو يليط " ) : بفتح أوله أي : يطين ويصلح ( " حوضه " ) أي : ليسقي إبله أو غنمه منه ( " فلا يسقي " ) أي : إبله ، وهو بفتح الياء ويجوز ضمها ( " فيه " ) أي في ذلك الحوض أو من مائه ، والمعنى : أن الساعة تأخذ الناس بغتة ، تأتيهم وهم في أشغالهم فلا تمهلهم أن يتموها ، ( " ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته " ) : بضم الهمزة أي : لقمته ( " إلى فيه فلا يطعمها ) أي : فلا يبلعها ولا يأكلها ، وهذا أبلغ مما قبله من الصور . ( متفق عليه ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية