صفحة جزء
[ ص: 3484 ] [ 4 ] باب قصة ابن صياد

الفصل الأول

5494 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - انطلق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رهط من أصحابه قبل ابن صياد ، حتى وجدوه يلعب مع الصبيان وفي أطم بني مغالة ، وقد قارب ابن صياد يومئذ الحلم ، فلم يشعر حتى ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظهره بيده ، ثم قال : " أتشهد أني رسول الله ؟ فنظر إليه فقال : أشهد أنك رسول الأميين ، ثم قال ابن صياد : أتشهد أني رسول الله ؟ فرصه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : آمنت بالله وبرسله " . ثم قال لابن الصياد : ماذا ترى ؟ قال : يأتيني صادق وكاذب . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " خلط عليك الأمر " . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إني خبأت لك خبيئا " وخبأ له : يوم تأتي السماء بدخان مبين . فقال : هو الدخ . فقال : " اخسأ فلن تعدو قدرك " . قال عمر : يا رسول الله ! أتأذن لي فيه أن أضرب عنقه ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إن يكن هو لا تسلط عليه ، وإن لم يكن هو فلا خير لك من قتله " . قال ابن عمر : انطلق بعد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بن كعب الأنصاري يؤمان النخل التي فيها ابن صياد ، فطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتقي بجذوع النخل ، وهو يختل أن يسمع من ابن الصياد شيئا قبل أن يراه ، وابن صياد مضطجع على فراشه في قطيفة له فيها زمزمة ، فرأت أم ابن صياد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتقي بجذوع النخل . فقالت : أي صاف - وهو اسمه - هذا محمد . فتناهى ابن صياد . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " لو تركته بين " . قال عبد الله بن عمر : قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم ذكر الدجال فقال : " إني أنذركموه ، وما من نبي إلا وقد أنذر قومه ، لقد أنذر نوح قومه ، ولكني سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه ، تعلمون أنه أعور ، وأن الله ليس بأعور " . متفق عليه .


[ 4 ] باب قصة ابن صياد

كذا في نسخة السيد وأكثر النسخ المعتمدة . وفي بعض النسخ : ابن الصياد معرفا . في القاموس : ابن صائد أو صياد الذي كان يظن أنه الدجال ، وقال الأكمل : ابن صائد اسمه عبد الله ، وقيل : صياف . ويقال : ابن صائد وهو يهودي من يهود المدينة . وقيل : هو دخيل فيهم ، وكان حاله في صغره حال الكهان يصدق مرة ويكذب مرارا ، ثم أسلم لما كبر وظهرت منه علامات من الحج والجهاد مع المسلمين ، ثم ظهرت منه أحوال ، وسمعت منه أقوال تشعر بأنه الدجال . وقيل : إنه تاب ومات بالمدينة . وقيل : بل فقد يوم الحرة . وقال ابن الملك - رحمه الله : اختلفوا في حال ابن الصياد ، فقيل : هو الدجال ، وما يقال : إنه مات بالمدينة لم يثبت ، إذ قد روي أنه فقد يوم الحرة ، وأما أنه لم يولد للدجال ، وأنه لا يدخل البلدين ، وأنه يكون كافرا ، فذلك في زمان خروجه ، وقيل : ليس هو الدجال ، ونقل أن جابرا حلف بالله أن ابن صياد هو الدجال ، وأنه سمع عمر بن الخطاب يحلف ذلك عند النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ولم ينكره ، والظاهر من قصة تميم الداري - رضي الله تعالى عنه - أنه ليس هو الدجال ، نعم كان أمر ابن الصياد ابتلاء من الله تعالى لعباده ، فوقى الله تعالى المسلمين من شره . أقول : ولا ينافيه قصة تميم الداري إذ يمكن أن يكون له أبدان مختلفة ، فظاهره في عالم الحس والخيال دائر مع اختلاف الأحوال ، وباطنه في عالم المثال مقيد بالسلاسل والأغلال ، ولعل المانع من ظهوره كماله في الفتنة وجود سلاسل النبوة وأغلال الرسالة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

الفصل الأول

5494 - ( عن عبد الله بن عمر ، أن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - ) : أفرد الضمير لكونه هو الأصل المروي عنه وذكر ابنه تبعا له ، وفي نسخة : عنهما ، وهو موهم أن يدخل فيه الخطاب ، وهو عدول عن الصواب ، ( انطلق مع رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ) أي : ذهب عمر معه ( في رهط ) : وهو ما دون العشرة من الرجال ، والمعنى في جملة جمع ( من أصحابه قبل ابن صياد ) : بكسر قاف وفتح موحدة أي : جانبه ( حتى وجدوه ) : قيل : حتى هنا حرف ابتداء يستأنف بعده الكلام ، ويفيد انتهاء الغاية ، وقوله : ( يلعب مع الصبيان ) حال من مفعول وجدوه ( وفي أطم بني مغالة ) : بفتح الميم ويضم والغين المعجمة ونقل بالضم والمهملة ، وهو قبيلة ، والأطم بضمتين القصر ، وكل حصن مبني بحجارة ، وكل بيت مربع مسطح ، الجمع آطام وأطوم ، كذا في القاموس . وقال النووي - رحمه الله تعالى : المشهور مغالة بفتح الميم وتخفيف الغين المعجمة . ( وقد قارب ابن صياد يومئذ الحلم ) : بضمتين ويسكن اللام أي : البلوغ بالاحتلام وغيره ( فلم يشعر ) : بضم العين ، وفيه إشعار بأنهم جاءوه على غفلة منه أي : لم يتفطن بمأتانا ، ( حتى ضرب رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ظهره ) أي : ظهر ابن صياد ( بيده ) أي : الكريمة ، ( ثم قال ) أي : النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم : ( " أتشهد أني رسول الله ؟ " ، فنظر إليه ) أي : إلى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - نظر غضب أو غفلة ; ولذا لم يترتب عليه نضرة له كما قال تعالى : وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ، ( فقال أشهد أنك رسول الأميين ) . قال القاضي - رحمه الله : يريد بهم العرب ; لأن أكثرهم كانوا لا يكتبون ولا يقرءون ، وما ذكره وإن كان حقا من [ ص: 3485 ] قبل المنطوق ، لكنه يشعر بباطل من حيث المفهوم ، وهو أنه مخصوص بالعرب غير مبعوث إلى العجم ، كما زعمه بعض اليهود ، وهو إن قصد به ذلك فهو من جملة ما يلقي إليه الكاذب الذي يأتيه وهو شيطانه انتهى . ويمكن أن يكون مسموعه من اليهود لأنه منهم ، أو هذا منه على طريقة الحكماء في زعمهم أنهم يستغنون عن الأنبياء .

( ثم قال ابن صياد : أتشهد أني رسول الله ) ؟ يحتمل أنه أراد به الرسالة النبوية ، كما يدل عليه المقابلة الكلامية ، ويحتمل أنه أراد الرسالة اللغوية ; فإنه أرسل من عنده تعالى للفتنة والبلية ، ( فرصه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ) : بتشديد الصاد المهملة أي : ضغطه حتى ضم بعضه إلى بعض ، ومنه قوله تعالى : كأنهم بنيان مرصوص ، ذكره الخطابي . وقال النووي - رحمه الله : في أكثر نسخ بلادنا : فرفضه بالفاء والضاد المعجمة ، والمعنى : تركه وقطع سؤاله وجوابه وجداله من هذا الباب . وقال شارح : قوله : فرضه أي كسره ، وقيل : صوابه بالمهملة ، والمراد منه العصر والتضييق . ( ثم قال ) أي : النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم : ( " آمنت بالله وبرسله " ) .

قال الطيبي - رحمه الله : هو عطف على فرصه ، وثم للتراخي في الرتبة ، والكلام خارج على إرخاء العنان أي : آمنت بالله ورسله ، فتفكر هل أنت منهم ؟ انتهى . وفيه إيهام تجويز التردد في كونه من الرسل أم لا ، ولا يخفى فساده ، فالصواب أنه عمل بالمفهوم كما فعله الدجال ، فالمعنى : إني آمنت برسله وأنت لست منهم ، فلو كنت منهم لآمنت بك ، وهذا أيضا على الفرض والتقدير ، أو قبل أن يعلم أنه خاتم النبيين ، وإلا فبعد العلم بالخاتمة ، فلا يجوز أيضا الفرض والتقدير به ، وقد صرح بعض علمائنا بأنه لو ادعى أحد النبوة فطلب منه شخص المعجزة كفر ، وإنما لم يقتله - صلى الله تعالى عليه وسلم - مع أنه ادعى بحضرته النبوة ; لأنه صبي ، وقد نهى عن قتل الصبيان ، أو أن اليهود كانوا يومئذ مستمسكين بالذمة مصالحين أن يتركوا على أمرهم ، وهو منهم أو من حلفائهم ، فلم يكن ذمة ابن الصياد لتنقض بقوله الذي قال ، كذا قال بعض علمائنا من الشراح . وقال ابن الملك : وهذا يدل على أن عهد الوالد يجزئ عن ولده الصغير ، وقيل : إنه ما ادعى النبوة صريحا ; لأن قوله : أتشهد استفهام لا تصريح فيه ، وفيه تأييد لما قدمته من احتمال المعنى اللغوي في الرسالة .

( ثم قال لابن صياد : " ماذا ترى " ) ؟ ذا زائدة ، وما استفهامية ، أي : ما تبصر وتكاشف من الأمر الغيبي ، ( قال : يأتيني صادق ) أي : خبر صادق تارة ( وكاذب ) أي أخرى ، أو ملك صادق وشيطان كاذب ، وقيل : حاصل السؤال أن الذي يأتيك ما يقول لك ، ومجمل الجواب أنه يحدثني بشيء قد يكون صادقا ، وقد يكون كاذبا ، ( قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم : " خلط " ) : بصيغة المجهول مشددا للمبالغة والتكثير ، ويجوز تخفيفه أي شبه ( " عليك الأمر " ) أي : الكذب بالصدق . قال النووي - رحمه الله : أي ما يأتيك به شيطانك مخلط . قال الخطابي : معناه أنه كان له تارات يصيب في بعضها ويخطئ في بعضها ; فلذلك التبس عليه الأمر ، ( قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم : " إني خبأت " ) أي : أضمرت ( " لك " ) أي : في نفسي ( " خبيئا " ) أي : اسما مضمرا لتخبرني به . قال ابن الملك : وإنما امتحنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - بذلك ; ليظهر إبطال حاله للصحابة ، وأنه كان يأتيه الشيطان فيلقي على لسانه ، ( وخبأ له : يوم تأتي السماء بدخان مبين ، الجملة حال بتقدير أو بدونه ( فقال : " هو الدخ " ) : بضم فتشديد ، وقيل : بالفتح ، وحكي الكسر أيضا ، ففي النهاية : الدخ بضم الدال وفتحها الدخان ; لأنه أراد بذلك يوم تأتي السماء بدخان مبين ، وقيل إن عيسى يقتل الدجال بجبل الدخان ، فيحتمل أن يكون أراده تعريضا لقتله . وفي القاموس : الدخ ويضم الدخان . أقول : ولو روي بضم الدال وتخفيف الخاء ، لكان له وجه في أنه رمز وإشارة إلى الدخان وتصريح بنقصان إدراكه ، كما هو دأب الكهان .

[ ص: 3486 ] وقال النووي - رحمه الله : وهو بضم الدال وتشديد الخاء المعجمة ، وهي لغة في الدخان ، ومعنى خبأت أضمرت لك اسم الدخان ، والصحيح المشهور أنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - أضمر له آية الدخان ، وهي قوله تعالى : فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين . قال القاضي عياض - رحمه الله : وأصح الأقوال أنه لم يأت من الآية التي أضمرها النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - إلا بهذا اللفظ الناقص على عادة الكهان إذا ألقى الشيطان إليهم بقدر ما يخطف قبل أن يدركه الشهاب ، ويدل عليه ما ذكره الدارمي عنه .

( فقال : " اخسأ " ) : بفتح السين وسكون الهمزة كله زجر واستهانة أي : امكث صاغرا ، أو ابعد حقيرا واسكت مزجورا ، من الخسوء وهو زجر الكلب ، ( " فلن تعدوها " ) : بضم الدال أي : فلن تجاوز ( " قدرك " ) أي : القدر الذي يدركه الكهان من الاهتداء إلى بعض الشيء ، ذكره النووي . وقال الطيبي - رحمه الله : أي لا تتجاوز عن إظهار الخبيآت على هذا الوجه ، كما هو دأب الكهنة إلى دعوى النبوة ، فتقول : أشهد أني رسول الله . أقول : وحاصل الجملة وزبدة المسألة أنك وإن أخبرت عن الخبيء ، فلن تستطيع أن تجاوز عن الحد الذي حد لك ، يريد أن الكهانة لا ترفع بصاحبها عن القدر الذي عليه هو ، وإن أصاب في كهانته .

( قال عمر ) : فيه التفات أو تجريد ، ويمكن أن يكون ابن عمر مصاحبا لهم ، ويدل عليه ما بعده فقال : قال عمر : ( يا رسول الله ! أتأذن لي فيه ) أي : في حقه ( أضرب ) : وفي نسخة : فلأضرب ، وفي أخرى : أن أضرب ( عنقه ؟ قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم : " إن يكن هو " ) أي : الدجال ( " لا تسلط " ) : بصيغة المجهول مجزوما ، وفي نسخة بالرفع أي : لا تقدر ( " عليه " ) أي : على هلاكه ; لأن المقدر أن قاتله عيسى - عليه الصلاة والسلام - فيما سيأتي من الأيام ( " وإن لم يكن هو فلا خير لك في قتله " ) أي : لما قدمناه من كونه صغيرا أو ذميا ، أو كون كلامه محتملا ، أقول : وأوسطها أعدلها . قال ابن الملك - رحمه الله تعالى : ولما كان فيه قرائن دالة على كونه الدجال ، ذكر النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - الحديث بصورة الشد ، والله تعالى أعلم . قال القاضي : قوله : إن يكن هو الضمير للدجال ، ويدل عليه ما روي أنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال : إن يكن هو فلست صاحبه ; إنما صاحبه عيسى بن مريم ، وإلا يكن هو ، فليس لك أن تقتل رجلا من أهل العهد ، وهو خبر كان ، واسمه مستكن فيه ، وكان حقه أن يكنه ، فوضع المرفوع المنفصل موضع المنصوب المتصل ، عكس قولهم : لولاه ، ويحتمل أن يكون تأكيدا للمستكن والخبر محذوفا على تقدير : إن يكن هو هذا . قال الطيبي - رحمه الله : ويجوز أن يقدر إن يكن هو الدجال ، وهو ضمير فصل أو هو مبتدأ ، والدجال خبره ، والجملة خبر كان انتهى . وعلى الأخير يكون في يكن ضمير الشأن كما لا يخفى .

( قال ابن عمر : انطلق بعد ذلك رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبي بن كعب الأنصاري ) : بالرفع للعطف ، ويجوز النصب للمعية ( يؤمان النخل ) : من أمه يؤمه إذا قصده أي : يقصدان النخيل ( التي فيها ) أي فيما بينها أو في بستانها ( ابن صياد ، فطفق ) : بكسر الفاء أي : شرع ( رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يتقي ) أي : يستر نفسه ( بجذوع النخل ) أي : ويتخبأ عن ابن صياد ; ليأخذه على غرة وغفلة ، فإن تلك الحالة أدل على بطلان الرهبان ، ( وهو ) أي : النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ( يختل ) : بسكون الخاء المعجمة وكسر الفوقية من الختل ، وهو طلب الشيء بحيلة والمفعول محذوف ، أي : يخدع ابن صياد ( أن يسمع ) أي : ليسمع ( من ابن صياد شيئا قبل أن يراه ) أي : يعلم هو وأصحابه حاله في أنه كاهن أم ساحر ونحوهما .

[ ص: 3487 ] قال النووي - رحمه الله : وفيه جواز كشف أحوال ما يخاف مفسدته وكشف الأمور المبهمة بنفسه ، ( وابن صياد مضطجع على فراشه في قطيفة ) أي : دثار مخمل ، وقيل لحاف صغير ، ( له فيها زمزمة ) .

قال النووي - رحمه الله : هو في معظم نسخ مسلم بزاءين معجمتين ، وفي بعضها برائين مهملتين ، ووقع في البخاري بالوجهين ، وهو صوت خفي لا يكاد يفهم أو لا يفهم . قال شارح : هي صوت لا يفهم منه شيء وهو في الأصل صوت الرعد . ( فرأت أم ابن صياد النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وهو يتقي بجذوع النخل . فقالت : أي ) : للنداء ( صاف - ) : بالضم ، وفي نسخة بالكسر على أن أصله صافي ، فحذف الياء واكتفي بالكسرة ، ويؤيد الأول ظاهر قوله : ( وهو اسمه - ) : ويمكن أن يكون الاسم بمعنى الوصف ، فإنه قد يستعمل بالمعنى الأعم من نحو اللقب والعلم ( هذا ) أي : وراءك ( محمد ) ، أو جاءك فتنبه له ، ( فتناهى ابن صياد ) أي : انتهى عما كان فيه من الزمزمة وسكت . ( قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم : " لو تركته " ) أي : أمه ( " بين " ) أي أظهر ما في نفسه ، كذا في شرح السنة . قال النووي - رحمه الله : أي بين لكم باختلاف كلامه ما يهون عليكم شأنه .

( قال عبد الله بن عمر ) : الظاهر أن ما سيأتي حديث آخر ذكره استطرادا ; ولذا لم يأت بعاطفة ، وقال : ( قام رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - في الناس ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم ذكر الدجال فقال : " إني أنذركموه ، وما من نبي إلا وقد أنذر قومه " ) أي : بعد نوح ، ( " لقد أنذر نوح قومه " ) أي : قبل الأنبياء ، ( " ولكنني سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه ، تعلمون " ) : خبر بمعنى الأمر أي : اعلموا ( " أنه أعور ، وأن الله " ) : بالفتح للعطف ، وبالكسر على أن الجملة حالية ( " ليس بأعور " ) أي : لا بالأمر البديهي في التنزيه الإلهي . قال التوربشتي - رحمه الله : يحتمل أن أحدا من الأنبياء لم يكاشف أو يخبر بأنه أعور ، ويحتمل أنه أخبر ، ولم يقدر له أن يخبر عنه كرامة لنبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم - حتى يكون هو الذي يبين بهذا الوصف دحوض حجته الداحضة ويبصر بأمره جهال العوام ، فضلا عن ذوي الألباب والأفهام .

وفي شرح مسلم للنووي قالوا : قصته مشكلة ، وأمره مشتبه في أنه هل هو المسيح الدجال أم غيره ؟ ولا شك أنه دجال من الدجاجلة . قالوا : وظاهر الأحاديث أنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - لم يوح إليه بأنه المسيح الدجال ولا غيره ، وإنما أوحي إليه بصفات الدجال ، وكان لابن صياد قرائن محتملة ; فلذلك كان - صلى الله تعالى عليه وسلم - لا يقطع بأنه الدجال ولا غيره ; ولهذا قال لعمر - رضي الله تعالى عنه : لا يولد الدجال وقد ولد له ، وأن لا يدخل مكة والمدينة ، وابن صياد قد دخل المدينة وهو متوجه إلى مكة ، فلا دلالة فيه ; لأنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - إنما أخبر عن صفاته وقت فتنته وخروجه في الأرض .

قال الخطابي : واختلف السلف في أمره بعد كبره ، فروي عنه أنه تاب من ذلك القول ، ومات بالمدينة ، وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا عن وجهه حتى يراه الناس ، وقيل لهم : اشهدوا . قال : وكان ابن عمر وجابر يحلفان أن ابن صياد هو الدجال لا يشكان فيه ، فقيل لجابر : إنه أسلم ، فقال : وإن أسلم ، فقيل : إنه دخل مكة وكان بالمدينة ، فقال : وإن دخل . وروى أبو داود بإسناد صحيح عن جابر قال : فقدنا ابن صياد يوم الحرة ، وهذا يبطل رواية من روى أنه مات بالمدينة وصلي عليه ، وقد روى مسلم في هذه الأحاديث أن جابرا حلف بالله تعالى أن ابن صياد هو الدجال ، وأنه سمع عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - يحلف ذلك عند النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ولم ينكره .

[ ص: 3488 ] قال البيهقي في كتابه " البعث والنشور " : اختلفوا في أمر ابن صياد اختلافا كثيرا هل هو الدجال أم لا ، فمن ذهب إلى أنه غيره احتج بحديث تميم الداري في قصة الجساسة ، ويجوز أن يتوافق صفة ابن صياد وصفة الدجال ، كما ثبت في الصحيح أنه أشبه الناس بالدجال عبد العزى بن قطن ، وليس هو هو . قال : وكان أمر ابن صياد فتنة ابتلى الله بها عباده ، فعصم الله تعالى منها المسلمين ووقاهم شرها . قال : وليس في حديث تميم ، هذا كلام البيهقي ، قد اختار أنه غيره ، وقدمنا أنه صح عن ابن عمر وجابر أنه الدجال ، فإن قيل : لم يقتله النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - مع أنه ادعى بحضرته النبوة ؟ فالجواب من وجهين ، ذكرهما البيهقي وغيره ، أحدهما : أنه كان غير بالغ ، واختار القاضي عياض - رحمه الله - هذا الجواب ، والثاني أنه كان في أيام مهادنة اليهود وحلفائهم ، وجزم الخطابي بالجواب الثاني ، قال : لأن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - بعد قدومه المدينة كتب بينه وبين اليهود كتاب الصلح ، على أن يتركوا على حالهم ، وكان ابن صياد منهم أو دخيلا فيهم .

قال الخطابي : وأما امتحان النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - بما خبأه له من آية الدخان ; فلأنه كان يبلغه ما يدعيه من الكهانة ويتعاطاه من الكلام في الغيب ، فامتحنه ليعلم حقيقة حاله ، ويظهر إبطال حاله للصحابة ، فإنه كاهن ساحر يأتيه الشيطان ، فيلقي على لسانه ما يلقيه الشياطين إلى الكهنة فامتحنه ، ثم قال : فلن تعدو قدرك ، أي : لا تتجاوز قدرك وقدر أمثالك من الكهان الذين يحفظون من إلقاء الشيطان كلمة واحدة من جملة كثيرة ، بخلاف الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فإنه يوحي الله تعالى إليهم من علم الغيب ما يوحي ; فيكون واضحا جليا كاملا ، وبخلاف ما يلهم الله الأولياء من الكرامات ، والله تعالى أعلم . ( متفق عليه ) ، ورواه أبو داود ، والترمذي .

التالي السابق


الخدمات العلمية