صفحة جزء
3804 - وعن مسروق ، قال : سألنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) الآية . قال : إنا قد سألنا عن ذلك . فقال : أرواحهم في أجواف طير خضر ، لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة ، فقال : هل تشتهون شيئا ؟ قالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ؟ ففعل ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا : يا رب ! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا . رواه مسلم .


3804 - ( وعن مسروق رضي الله عنه ) : تابعي جليل وقد مر ذكره ( قال : سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية : ( ولا تحسبن ) بالخطاب وفتح السين وكسرها وفي رواية بالغيبة وفتح السين ( الذين قتلوا ) بصيغة المجهول من القتل وفي قراءة من باب التفعيل ( في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) [ ص: 2464 ] وفي نسخة : ( الآية ، قال ) : أي ابن مسعود رضي الله عنه ( إنا قد سألنا ) : أي رسول الله ( عن ذلك ) : أي عن معنى هذه الآية . قال النووي : الحديث مرفوع بقوله : إنا قد سألنا عن ذلك . ( فقال ) : يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال القاضي : المسئول والمجيب هو الرسول صلوات الله عليه وسلامه ، وفي فقال ضمير له ، ويدل عليه قرينة الحال ، فإن الظاهر حال الصحابي أن يكون سؤاله واستكشافه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا سيما في تأويل آية هي من المتشابهات ، وما هي من أحوال المعاد ، فإنه غيب صرف لا يمكن معرفته إلا بالوحي ، ولكونه بهذه المثابة من التعيين أضمر من غير أن يسبق ذكره .

قلت : أيضا : جلالة ابن مسعود تأبي أن يسأل عن ذلك غيره - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم . وقوله : ( أرواحهم في أجواف طير خضر ) : أي يخلق لأرواحهم بعد ما فارقت أبدانهم هياكل على تلك الهيئة تتعلق بها ، وتكون خلفا عن أبدانهم ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ( أحياء عند ربهم ) فيتوصلون بها إلى نيل ما يشتهون من اللذائذ الحسية ، وإليه يرشد قوله تعالى : ( يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ) والطير جمع طائر ، ويطلق على الواحد وخضر بضم فسكون جمع أخضر ( لها ) : أي للطير ، أو للأرواح ( قناديل معلقة بالعرش ) : بمنزلة أوكار الطير ( تسرح ) : أي تسير وترعى وتتناول ( من الجنة ) : أي من ثمراتها ولذاتها ( حيث شاءت ، ثم تأوي ) : أي ترجع ( إلى تلك القناديل ) : أي فستقر فيها ، ثم تسرح ، وهكذا ( فاطلع ) : بتشديد الطاء ; أي نظر ( إليهم ) : وتجلى عليهم ( ربهم ) : وإنما قال ( اطلاعة ) : ليدل على أنه ليس من جنس اطلاعنا على الأشياء . قال القاضي : وعداه بإلى ، وحقه أن يعدى بعلى لتضمنه معنى الانتهاء . ( فقال ) : أي ربهم ( هل تشتهون شيئا ؟ قالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا : يعني : وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ( ففعل ) : أي ربهم ( ذلك ) : أي ما ذكر من الاطلاع والقول لهم ( ثلاث مرات ) : قال القاضي : اطلاع الله عليهم واستفهامه عما يشتهون مرة بعد أخرى مجاز عن مزيد تلطفه بهم وتضاعف تفضيله عليهم . قلت : ولا مانع للحمل على الحقيقة ، بل هي أحق عند عدم الصارف كما هو مقرر في محله ، ( فلما رأوا أنهم لن يتركوا ) : بصيغة المفعول ; أي لن يخلوا ( من أن يسألوا ) : بصيغة الفاعل ، ومن زائدة لوقوعها في سياق النفي ، وأن يسألوا بدل من نائب فاعل يتركوا ; أي : لن يترك سؤالهم ( قالوا يا رب ! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا ) : أي الأولية ( حتى نقتل ) : بصيغة المجهول ; أي نستشهد ( في سبيلك مرة أخرى ؟ ) : قال القاضي : المراد به أنه لا يبقى لهم متمنى ولا مطلب أصلا غير أن يرجعوا إلى الدنيا فيستشهدوا ثانيا لما رأوا بسببه من الشرف والكرامة ( فلما رأى ) : أي علم الله علما تنجيزيا مطابقا لما علم علما غيبيا تعليقيا ( أن ليس لهم حاجة ) : أي حاجة معتبرة ; لأنهم سألوا ما هو خلاف إرادة الله تعالى ( تركوا ) : أي من سؤال هل تشتهون ؟ قال ابن الملك : رؤية الله كانت أعظم النعم ، فلم لم يطلبونها ؟ قلت : يجوز أن تكون رؤية الله تعالى موقوفة في ذلك على كمال استعداد يليق بها ، فصرف الله قلوبهم عن ذلك إلى وقت حصول الاستعداد . فإن قلت : إعادة الروح إلى الجسد إن كان لطلب ما هم فيه فلا فائدة ، وإن كان لغيره فهلا اشتهواه أو لا ؟ قلت : يجوز أن يكون مرادهم بذلك الكلام القيام بموجب الشكر في مقابلة النعم التي أنعم الله عليهم . قال القاضي : الحديث تمثيل لحالهم ، وما عليهم من البهجة والسعادة شبه لطافتهم ودماءهم ، وتمكنهم من التلذذ بأنواع المشتهيات والتبوء من الجنة حيث شاءوا ، وقربهم من الله تعالى وانخراطهم في غار الملأ الأعلى الذين هم حول عرش الرحمن بما إذا كانوا في أجواف طير خضر تسرح إلى الجنة حيث شاءت ، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش ، وشبه حالهم في استجماع اللذائذ وحصول جميع المطالب بحال من يبالغ ويسرد عليه ربه المتفضل المشفق عليه غاية التفضل والإشفاق القادر على جميع الأشياء بأن يسأل منه مطلوبا ، ويكرر مرة بعد أخرى بحيث لا يرى بدا من السؤال ، فلم ير شيئا ليس له أن يسأله إلا أن يرد إلى الدنيا ، فيقتل في سبيل الله مرة بعد أخرى والعلم عند الله تعالى .

[ ص: 2465 ] وفي شرح مسلم للنووي قال القاضي عياض : اختلفوا فيه قيل : ليس للأقيسة والعقول في هذا حكم ، فإذا أراد الله أن يجعل الروح إذا خرجت من المؤمن ، أو الشهيد في قناديل ، أو أجواف طير ، أو حيث شاء كان ذلك ، ووقع ولم يبعد لا سيما مع القول بأن الأرواح أجسام ، فغير مستحيل أن يصور جزء من الإنسان طائرا ، أو يجعل في جوف طائر في قناديل تحت العرش ، وقد اختلفوا في الروح فقال كثير من أرباب المعاني ، وعلم الباطن ، والمتكلمين : لا يعرف حقيقته ولا يصح وصفه ، وهو مما جهل العباد علمه ، واستدلوا بقوله تعالى : ( قل الروح من أمر ربي ) وقال كثيرون من شيوخنا : هو الحياة ، وقال آخرون : هو أجسام لطيفة مشابكة للجسم يحيا بحياته ، وأجرى الله تعالى العادة بموت الجسم بعد فراقه ، وقد تعلق بهذا الحديث وأمثاله بعض القائلين بالتناسخ وانتقال الأرواح وتنعيمها في الصور الحسان المرفهة ، وتعذيبها في الصور القبيحة المسخرة ، وزعموا أن هذا هو الثواب والعقاب ، وهذا باطل مردود لا يطابق ما جاءت به الشرائع من إثابة الحشر والنشر والجنة والنار ، ولهذا قال في حديث آخر : حتى يرجعه الله إلى جسده يوم بعثة الأجساد . قلت : قال ابن الهمام : اعلم أن القول بتجرد الروح يخالف هذا الحديث ، كما أنه يخالف قوله تعالى : ( فادخلي في عبادي ) اه .

وفي بعض حواشي شرح العقائد : اعلم أن التناسخ عند أهله هو رد الأرواح إلى الأبدان في هذا العالم لا في الآخرة إذ هم ينكرون الآخرة والجنة والنار ، ولذا كفروا اه . وفيه بيان أن الجنة مخلوقة موجودة ، وهو مذهب أهل السنة ، وهي التي أهبط منها آدم ويتنعم فيها المؤمنون في الآخرة ، وفيه أن مجازاة الأموات بالثواب والعقاب قبل يوم القيامة ، وأن الأرواح باقية لا تفنى ، فيتنعم المحسن ويعذب المسيء ، وهو مذهب أهل السنة ، وبه نطق التنزيل والآثار خلافا لطائفة من المبتدعة قال الله تعالى ( النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) . ( رواه مسلم ) : وكذا الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه .

التالي السابق


الخدمات العلمية