إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
124 - الحديث الخامس : عن عائشة رضي الله عنها قالت { ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعد أن نزلت عليه { إذا جاء نصر الله والفتح } - إلا يقول فيها : سبحانك ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي وفي لفظ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي } .


حديث عائشة فيه مبادرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى امتثال ما أمره الله تعالى به ، وملازمته لذلك . وقوله ( فسبح بحمد ربك ) فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون المراد أن يسبح بنفس الحمد لما يتضمنه الحمد من معنى التسبيح ، الذي هو التنزيه ، لاقتضاء الحمد نسبة الأفعال المحمود عليها إلى الله تعالى وحده . وفي ذلك نفي الشركة .

الوجه الثاني : أن يكون المراد : فسبح متلبسا بالحمد . فتكون الباء دالة على الحال . وهذا يترجح . لأن النبي قد سبح وحمد بقوله " سبحانك وبحمدك " وعلى مقتضى الوجه الأول : يكتفى بالحمد فقط . وكأن تسبيح الرسول على هذا الوجه دليل على ترجيح المعنى الثاني .

وقوله " وبحمدك " قيل معناه : وبحمدك سبحت . وهذا يحتمل أن يكون فيه حذف ، أي بسبب حمد الله سبحت . ويكون المراد بالسبب ههنا : التوفيق والإعانة على التسبيح ، واعتقاد معناه . وهذا كما روي عن عائشة في الصحيح [ ص: 317 ] بحمد الله لا بحمدك " أي وقع هذا بسبب حمد الله ، أي بفضله وإحسانه وعطائه . فإن الفضل والإحسان سبب للحمد ، فيعبر عنهما بالحمد . وقوله . " اللهم اغفر لي " امتثال لقوله تعالى { واستغفره } بعد امتثال قوله { فسبح بحمد ربك } وأما اللفظ الآخر : فإنه يقتضي الدعاء في الركوع وإباحته . ولا يعارضه قوله عليه السلام " أما الركوع : فعظموا فيه الرب ، وأما السجود : فاجتهدوا فيه بالدعاء " فإنه من هذا الحديث الجواز . ومن ذلك الأولوية بتخصيص الركوع بالتعظيم ويحتمل أن يكون السجود قد أمر فيه بتكثير الدعاء لإشارة قوله ( فاجتهدوا ) واحتمالها للكثرة . والذي وقع في الركوع من قوله " اغفر لي " ليس كثيرا . فليس فيه معارضة ما أمر به في السجود . وفي حديث عائشة الأول : سؤال . وهو أن لفظة " إذا " تقتضي الاستقبال وعدم حصول الشرط حينئذ . وقول عائشة " ما صلى صلاة . بعد أن نزلت عليه : { إذا جاء نصر الله } يقتضي تعجيل هذا القول ، لقرب الصلاة الأولى التي هي عقيب نزول الآية من النزول . و " الفتح " أي فتح مكة . و " دخول الناس في دين الله أفواجا " يحتاج إلى مدة أوسع من الوقت الذي بعد نزول الآية ، والصلاة الأولى بعده . وقول عائشة في بعض الروايات " يتأول القرآن " قد يشعر بأنه يفعل ما أمر به فيه . فإن كان الفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا حاصلا عند نزول الآية . فكيف يقال فيها " إذا جاء " وإن لم يكن حاصلا ، فكيف يكون القول امتثالا للأمر الوارد بذلك ، ولم يوجد شرط الأمر به ؟ وجوابه : أن نختار أنه لم يكن حاصلا على مقتضى اللفظ . ويكون صلى الله عليه وسلم قد بادر إلى فعل المأمور به قبل وقوع الزمن الذي تعلق به الأمر فيه . إذ ذلك عبادة وطاعة لا تختص بوقت معين . فإذا وقع الشرط كان الواقع من هذا القول - بعد وقوعه - واقعا على حسب الامتثال ، وقبل وقوع الشرط ، واقعا على حسب التبرع . وليس في قول عائشة " يتأول القرآن " ما يقتضي - ولا بد - أن يكون جميع [ ص: 318 ] قوله صلى الله عليه وسلم واقعا على جهة الامتثال للمأمور ، حتى يكون دالا على وقوع الشرط ، بل مقتضاه : أن يفعل تأويل القرآن وما دل عليه لفظه فقط . وجاز أن يكون بعض هذا القول فعلا لطاعة مبتدأة ، وبعضه امتثالا للأمر والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية