إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
125 - الحديث الأول : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال { سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر - ما ترى في صلاة الليل ؟ قال : مثنى ، مثنى . فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة . فأوترت له ما صلى . وإنه كان يقول : اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا } .


" الكلام على هذا الحديث من وجوه :

أحدها : قوله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى " أخذ به مالك رحمه الله في أنه لا يزاد في صلاة النفل على ركعتين . وهو ظاهر هذا اللفظ في صلاة الليل . وقد ورد حديث آخر " صلاة الليل والنهار مثنى مثنى " وإنما قلنا : إنه ظاهر اللفظ . لأن المبتدأ محصور في الخبر . فيقتضي ذلك حصر صلاة الليل فيما هو مثنى . وذلك هو المقصود ، إذ هو ينافي الزيادة . فلو جازت الزيادة لما انحصرت صلاة الليل في المثنى . وهذا يعارضه ظاهر حديث عائشة الآتي ، وقد أخذ به الشافعي ، وأجاز الزيادة على ركعتين من غير حصر في العدد ، وذكر بعض مصنفي أصحابه شرطين في ذلك ، وحاصل قوله : أنه متى تنفل بأزيد من ركعتين ، شفعا أو وترا ، فلا يزيد على تشهدين .

ثم إن كان المتنفل به شفعا ، فلا يزيد بين التشهدين على ركعتين . وإن كان وترا ، فلا يزيد بين التشهدين على ركعة . فعلى هذا : إذا تنفل بعشر ، جلس [ ص: 319 ] بعد الثامنة . ولا يجلس بعد السابعة ، ولا بعد ما قبلها من الركعات . لأنه حينئذ يكون قد زاد على ركعتين بين التشهدين . فإذا تنفل بخمس - مثلا - جلس بعد الرابعة ، وبعد الخامسة إن شاء ، أو بسبع . فبعد السادسة والسابعة . وإن اقتصر على جلوس واحد في كل ذلك جاز . وإنما ألجأه إلى ذلك : تشبيه النوافل بالفرائض . والفريضة الوتر : هي صلاة المغرب . وليس بين التشهدين فيها أكثر من ركعة . والفرائض الشفع : ليس بين التشهدين فيها أكثر من ركعتين . ولم يتفق أصحاب الشافعي على هذا الذي ذكره .

الوجه الثاني من الكلام على الحديث : أنه كان يقتضي ظاهره عدم الزيادة على ركعتين ، فكذلك يقتضي عدم النقصان منهما .

، وقد اختلفوا في التنفل بركعة فردة . والمذكور في مذهب الشافعي : جوازه . وعن أبي حنيفة : منعه ، والاستدلال به لهذا القول كما تقدم ، وهو أولى من استدلال من استدل على ذلك بأنه لو كانت الركعة الفردة صلاة لما امتنع قصر صلاة الصبح والمغرب . فإن ذلك ضعيف جدا . .

الوجه الثالث : يقتضي الحديث تقديم الشفع على الوتر من قوله " صلاة الليل مثنى مثنى " وقوله " توتر له ما صلى " فلو أوتر بعد صلاة العشاء من غير شفع : لم يكن آتيا بالسنة ، وظاهر مذهب مالك : أنه لا يوتر بركعة فردة هكذا من غير حاجة . .

الوجه الرابع : يفهم منه انتهاء وقت الوتر بطلوع الفجر من قوله " فإذا خشي أحدكم الصبح " وفي مذهب الشافعي وجهان :

أحدهما : أنه ينتهي بطلوع الفجر . والثاني : ينتهي بصلاة الصبح .

الوجه الخامس : قد يستدل بصيغة الأمر من يرى وجوب الوتر . فإن كان يرى بوجوب كونه آخر صلاة الليل : فاستدلال قريب ، ولا أعلم أحدا قال ذلك . وإن كان لا يرى بذلك ، فيحتاج أن يحمل الصيغة على الندب . ولا يستقيم الاستدلال بها على وجوب أصل الوتر عند من يمنع من استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز ، وإلا كان جمعا بين الحقيقة والمجاز في لفظة واحدة . وهي صيغة الأمر .

الوجه السادس : يقتضي الحديث أن يكون الوتر آخر صلاة الليل . فلو أوتر ثم أراد التنفل ، فهل يشفع وتره بركعة أخرى ثم يصلي ؟ فيه وجهان للشافعية وإن [ ص: 320 ] لم يشفعه بركعة ثم تنفل ، فهل يعيد الوتر أخيرا ؟ فيه قولان للمالكية . فيمكن كل واحد من الفريقين أن يستدل بالحديث بعد تقديم مقدمة لكل واحد منهما يحتاج إلى إثباتها . أما من قال ، إنه يشفع وتره فيقول : الحديث يقتضي أن يكون آخر صلاة الليل وترا . وذلك يتوقف على أن لا يكون قبله وتر ، لما جاء في الحديث " لا وتران في الليلة " فلزم عن ذلك : أن يشفع الوتر الأول . فإنه إن لم يشفعه وأعاد الوتر ، لزم وتران في ليلة ، وإن لم يعد الوتر ، لم يكن آخر صلاة الليل وترا ، وأما من قال : لا يشفع ولا يعيد الوتر : فلأنه منع أن ينعطف حكم صلاة على أخرى بعد السلام والحديث ، وطول الفصل ، إن وقع ذلك . فإذا لم يجتمعا فالحقيقة أنهما وتران ، ولا وتران في ليلة ، فامتنع الشفع . وامتنع إعادة الوتر أخيرا ، ولم يبق إلا مخالفة ظاهر قوله عليه السلام " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا " ولا يحتاج إلى الاعتذار . وهو محمول على الاستحباب ، كما أن الأمر بأصل الوتر كذلك ، وترك المستحب أولى من ارتكاب المكروه ، وأما من قال بالإعادة : فهو أيضا مانع من شفع الوتر للأول محافظة على قوله عليه السلام " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا " ويحتاج إلى الاعتذار عن قوله " لا وتران في ليلة " . واعلم أنه ربما يحتاج في هذه المسألة إلى مقدمة أخرى . وهو أن التنفل بركعة فردة : هل يشرع ؟ فعليك بتأمله .

التالي السابق


الخدمات العلمية