إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
[ ص: 584 ] 324 - الحديث الأول : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما " أن فلان بن فلان قال : { يا رسول الله ، أرأيت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة ، كيف يصنع ؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم ، وإن سكت سكت على مثل ذلك . قال : فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه . فلما كان بعد ذلك أتاه فقال : إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به . فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات في سورة النور { والذين يرمون أزواجهم } فتلاهن عليه ووعظه وذكره . وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة . فقال : لا ، والذي بعثك بالحق ، ما كذبت عليها . ثم دعاها ، فوعظها ، وأخبرها : أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة . فقالت : لا ، والذي بعثك بالحق ، إنه لكاذب . فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله : إنه لمن الصادقين . والخامسة : أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ثم ثنى بالمرأة . فشهدت أربع شهادات بالله : إنه لمن الكاذبين ، والخامسة : أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . ثم فرق بينهما . ثم قال : إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ؟ - ثلاثا } .

وفي لفظ { لا سبيل لك عليها قال : يا رسول الله ، مالي ؟ قال : [ ص: 585 ] لا مال لك . إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت فهو أبعد لك منها } .


" اللعان " لفظة مشتقة من " اللعن " سميت بذلك لما في اللفظ من ذكر اللعنة . وقوله " أرأيت لو أن أحدنا " يحتمل أن يكون سؤالا عن أمر لم يقع ، فيؤخذ منه : جواز مثل ذلك ، والاستعداد للوقائع بعلم أحكامها قبل أن تقع وعليه استمر عمل الفقهاء فيما فرعوه ، وقرروه من النازل قبل وقوعها . وقد كان من السلف من يكره الحديث في الشيء قبل أن يقع ، ويراه من ناحية التكلف .

وقول الراوي " فلما كان بعد ذلك : أتاه ، فقال : إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به " يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون السؤال عما لم يقع ، ثم وقع .

والثاني : أن يكون السؤال أولا عما وقع ، وتأخر الأمر في جوابه ، فبين ضرورته إلى معرفة الحكم .

والحديث يدل على أن سؤاله سبب نزول الآية وتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم لها عليه : لتعريف الحكم والعمل بمقتضاها وموعظة النبي صلى الله عليه وسلم : قد ذكر الفقهاء استحبابها ، عندما تريد المرأة أن تلفظ بالغضب .

وظاهر هذه الرواية : أنه لا يختص بالمرأة فإنه ذكره فيها وفي الرجل فلعل هذه موعظة عامة ولا شك أن الرجل متعرض للعذاب وهو حد القذف ، كما أن المرأة متعرضة للعذاب ، الذي هو الرجم ، إلا أن عذابها أشد .

وظاهر لفظ الحديث والكتاب العزيز : يقتضي تعيين لفظ " الشهادة " وذلك يقتضي أن لا تبدل بغيرها . [ ص: 586 ] والحديث يقتضي أيضا : البداءة بالرجل . وكذلك لفظ الكتاب العزيز لقوله تعالى { ويدرأ عنها العذاب } فإن " الدرء " يقتضي وجوب سبب العذاب عليها ، وذلك بلعان الزوج واختصت المرأة بلفظ " الغضب " لعظم الذنب بالنسبة إليها على تقدير وقوعه ، لما فيه من تلويث الفراش ، والتعرض لإلحاق من ليس من الزوج به وذلك أمر عظيم ، يترتب عليه مفاسد كثيرة ، كانتشار المحرمية ، وثبوت الولاية على الإناث ، واستحقاق الأموال بالتوارث . فلا جرم خصت بلفظة " الغضب " التي هي أشد من " اللعنة " ولذلك قالوا : لو أبدلت المرأة الغضب باللعنة : لم يكتف به . أما لو أبدل الرجل اللعنة بالغضب : فقد اختلفوا فيه . والأولى اتباع النص .

وفي الحديث : دليل على إجراء الأحكام على الظاهر ، وعرض التوبة على المذنبين وقد يؤخذ منه : أن الزوج لو رجع وأكذب نفسه : كان توبة ، ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى التوبة فيما بينهما وبين الله .

وقوله عليه السلام " لا سبيل لك عليها " يمكن أن يؤخذ منه : وقوع التفريق بينهما باللعان لعموم قوله " لا سبيل لك عليها " ويحتمل أن يكون " لا سبيل لك عليها " راجعا إلى المال .

وقوله " إن كنت صادقا عليها فهو بما استحللت من فرجها " دليل على استقرار المهر بالدخول ، وعلى استقرار مهر الملاعنة . أما هذا : فبالنص . وأما الأول : فبتعليله صلى الله عليه وسلم وقوله " بما استحللت من فرجها " فيه دليل على أنه لا يستقر ولو أكذبت نفسها ، لوجود العلة المذكورة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية