إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
328 - الحديث الخامس : عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي مسرورا ، تبرق أسارير وجهه . فقال : ألم تري أن مجززا نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد ، فقال : [ ص: 590 ] إن بعض هذه الأقدام لمن بعض } وفي لفظ { كان مجزز قائفا } .


" أسارير وجهه " تعني الخطوط التي في الجبهة . واحدها سرر وسرر وجمعه أسرار وجمع الجمع أسارير . وقال الأصمعي : الخطوط التي تكون في الكف مثلها السرر - بفتح السين والراء - والسرر - بكسر السين . استدل به فقهاء الحجاز ومن تبعهم على أصل من أصولهم وهو العمل بالقيافة ، حيث يشتبه إلحاق الولد بأحد الواطئين في طهر واحد ، لا في كل الصور بل في بعضها .

ووجه الاستدلال : أن النبي صلى الله عليه وسلم سر بذلك وقال الشافعي رحمه الله : ولا يسر بباطل . وخالف أبو حنيفة وأصحابه ، واعتذارهم عن الحديث : أنه لم يقع فيه إلحاق متنازع فيه ، ولا هو وارد في محل النزاع . فإن أسامة كان لاحقا بفراش زيد ، من غير منازع له فيه ، وإنما كان الكفار يطعنون في نسبه للتباين بين لونه ولون أبيه في السواد والبياض ، فلما غطيا رءوسهما وبدت أقدامهما ، وألحق مجزز أسامة بزيد : كان ذلك إبطالا لطعن الكفار بسبب اعترافهم بحكم القيافة " وإبطال طعنهم حق . فلم يسر النبي صلى الله عليه وسلم إلا بحق .

والأولون يجيبون : بأنه - وإن كان ذلك واردا في صورة خاصة - إلا أن له جهة عامة وهي دلالة الأشباه على الأنساب . فنأخذ هذه الجهة من الحديث ونعمل بها .

واختلف مذهب الشافعي في أن القيافة : هل تختص ببني مدلج ، أم لا ؟ من حيث إن المعتبر في ذلك الأشباه ، وذلك غير خاص بهم ، أو يقال : إن لهم في ذلك قوة ليست لغيرهم ومحل النص إذا اختص بوصف يمكن اعتباره لم يمكن إلغاؤه " ، لاحتمال أن يكون مقصودا للشارع . [ ص: 591 ] و " مجزز " بضم الميم وفتح الجيم وكسر الزاي المشددة المعجمة وبعدها زاي معجمة .

واختلف مذهب الشافعي أيضا في أنه هل يعتبر العدد في القائف أم يكفي القائف الواحد ؟ فإن مجززا انفرد بهذه القيافة ، ولا يرد على هذا ; لأنه ليس من محال الخلاف ، وإذا أخذ من هذا الحديث الاكتفاء بالقائف الواحد ، فليس من محال الخلاف ، كما قدمنا .

وقوله " آنفا " أي في الزمن القريب من القول ، وقد ترك في هذه الرواية ذكر تغطية أسامة وزيد رءوسهما وظهور أقدامهما وهي زيادة مفيدة جدا لما فيها من الدلالة على صدق القيافة وكان يقال : إن من علوم العرب ثلاثة : السيافة ، والعيافة ، والقيافة . فأما السيافة : فهي شم تراب الأرض ليعلم بها الاستقامة على الطريق ، أو الخروج منها قال المعري :

أودي فليت الحادثات كفاف مال المسيف وعنبر المستاف

و " المستاف " هو هذا القاص ، وأما العيافة : فهي زجر الطير ، والطيرة والتفاؤل بهما ، وما قارب ذلك وأما السانح والبارح : ففي الوحش ، وفي الحديث " العيافة والطرق : من الجبت " وهو الرمي بالحصا ، وأما القيافة : فهي ما نحن فيه ، وهو اعتبار الأشباه لإلحاق الأنساب .

التالي السابق


الخدمات العلمية