فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ ص: 75 ] [ تعاليق الصحيحين ] ( و ) كذا ( لهما ) في صحيحيهما ( بلا سند ) أصلا ، أو كامل ; حيث أضيف لبعض رواته إما الصحابي أو التابعي فمن دونه ، مع قطع السند مما يليهما ( أشيا ) بالقصر للضرورة ; كأن يقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو قال ابن عباس ، أو عكرمة ، أو الزهري والجمع بالنظر إليهما معا ; إذ ليس عند مسلم بعد المقدمة مما لم يوصله فيه سوى موضع واحد ، والحكم في ذلك مختلف .

( فإن يجزم ) المعلق منهما بنسبته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو غيره ممن أضافه إليه ( فصحح ) أيها الطالب إضافته لمن نسب إليه ; فإنه لن يستجيز إطلاقه إلا وقد صح عنده عنه ، ولا التفات لمن نقض هذه القاعدة ، بل هي صحيحة مطردة ، لكن مع عدم التزام كونه على شرطه .

( أو ) لم يأت المعلق بالجزم ، بل ( ورد ممرضا فلا ) تحكم له بالصحة عنده عن المضاف إليه ، بمجرد هذه الصيغة ; لعدم إفادتها ذلك ، وحينئذ فلا ينتقد بما وقع بها مع وصله له في موضع آخر من كتابه .

على أن شيخنا - وهو من أئمة الاستقراء خصوصا في هذا النوع - أفاد أنه لا يتفق له مثل ذلك ، إلا حيث علقه بالمعنى ، أو اختصره ، وجزم بأن ما يأتي به بصيغة التمريض - أي : فيما عداه - مشعر بضعفه عنده إلى من علقه عنه ; لعلة خفية فيه ، وقد لا تكون قادحة ، ولذلك فيه ما هو حسن ، بل وصحيح عند بعض الأئمة ، بل رواه مسلم في صحيحه ، وما قاله هو التحقيق ، وإن أوهم صنيع ابن كثير خلافه .

( ولكن ) حيث تجردت ، فإيراد صاحب الصحيح للمعلق الضعيف كذلك في أثناء صحيحه ( يشعر بصحة الأصل له ) إشعارا يؤنس به ، ويركن إليه .

وألفاظ التمريض كثيرة ( كيذكر ) ويروى وروي ، ويقال ، وقيل ، [ ونحوها ، [ ص: 76 ] واستغنى بالإشارة إلى بعضها عن أمثلة الجزم ; كذكر ، وزاد ، وروى ، وقال ] وغيرها لوضوحه ، حتى نقل النووي اتفاق محققي المحدثين وغيرهم على اعتبارهما كذلك ، وأنه لا ينبغي الجزم بشيء ضعيف ; لأنها صيغة تقتضي صحته عن المضاف إليه ، فلا ينبغي أن تطلق إلا فيما صح .

قال : " وقد أهمل ذلك كثير من المصنفين من الفقهاء وغيرهم ، واشتد إنكار البيهقي على من خالف ذلك ، وهو تساهل قبيح جدا من فاعله ; إذ يقول في الصحيح : يذكر ويروى ، وفي الضعيف قال : وروى ، وهذا قلب للمعاني ، وحيد عن الصواب .

قال : وقد اعتنى البخاري ، رحمه الله ، باعتبار هاتين الصيغتين ، وإعطائهما حكمهما في صحيحه ; فيقول في الترجمة الواحدة بعض كلامه بتمريض ، وبعضه بجزم ، واعيا لما ذكرنا ، وهذا مشعر بتحريه وورعه " . انتهى . وسيأتي المسألة في التنبيهات التي بآخر المقلوب .

والحاصل أن المجزوم به يحكم بصحته ابتداء ، وما لعله يكون كذلك من الممرض إنما يحكم عليه بها بعد النظر ; لوجود الأقسام الثلاثة فيه فافترقا ، وإذا حكمت للمجزوم به بالصحة ، فانظر فيمن أبرز من رجاله ، تجد مراتبه مختلفة ; فتارة تلتحق بشرطه ، وتارة تتقاعد عن ذلك .

وهو إما أن يكون حسنا صالحا للحجة ; كالمعلق عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ، رفعه : الله أحق أن يستحيى منه من الناس ، فهو حسن مشهور عن بهز ، أخرجه أصحاب السنن ، بل ويكون صحيحا عند غيره .

وقد يكون ضعيفا ، لكن لا من جهة قدح في رجاله ، بل من جهة انقطاع يسير في إسناده ; كالمعلق عن طاوس : قال : قال معاذ : فإن إسناده [ ص: 77 ] إلى طاوس صحيح ، إلا أنه لم يسمعه من معاذ ، وحينئذ فإطلاق الحكم بصحتها ممن يفعله من الفقهاء ليس بجيد .

والأسباب في تعليق ما هو ملتحق بشرطه : إما التكرار ، أو أنه أسند معناه في الباب ، ولو من طريق آخر ، فنبه عليه بالتعليق اختصارا ، أو أنه لم يسمعه ممن يثق به بقيد العلو ، أو مطلقا ، وهو معروف من جهة الثقات عن المضاف إليه ، أو سمعه لكن في حالة المذاكرة ، فقصد بذلك الفرق بين ما يأخذه عن مشائخه في حالة التحديث أو المذاكرة احتياطا .

وفي المتقاعد عن شرطه : إما كونه في معرض المتابعة ، أو الاستشهاد المتسامح في إيراده مطلقا ، فضلا عن التعليق ، أو أنه نبه به على موضع يوهم تعليل الرواية التي على شرطه ، أو غير ذلك في الطرفين .

وبما تقدم تأيد حمل قول البخاري : " ما أدخلت في كتابي إلا ما صح " على مقصوده به ، وهو الأحاديث الصحيحة المسندة ، دون التعاليق والآثار الموقوفة على الصحابة فمن بعدهم ، والأحاديث المترجم بها ونحو ذلك .

وظهر افتراق ما لم يكن بطريق القصد في الحكم عن غيره واستثنائه من إفادة العلم ( وإن يكن أول الإسناد ) - بوصل الهمزة - من جهة صاحب الصحيح مثلا كشيخه فمن فوقه ( حذف ) وأضيف لمن بعد المحذوف مما هو في البخاري كثير ، كما تقدم ( مع صيغة الجزم ) أي : مع الإتيان بها ، بل والتمريض عند جماعة ممن تأخر عن ابن الصلاح ; كالنووي والمزي في أطرافه مما تقدم حكمه في كليهما .

( فتعليقا عرف ) أي : عرف بالتعليق بين أئمة هذا الشأن ; كالحميدي ، والدارقطني ، بل كان [ ص: 78 ] أول من وجد في كلامه ، وهو مأخوذ من تعليق الجدار ، والطلاق ونحوه ، لما يشترك فيه الجميع من قطع الاتصال .

واستبعد شيخنا أخذه من تعليق الجدار ، وأنه من الطلاق وغيره أقرب ، وشيخه البلقيني على خلافه ، ولا يشترط في تسميته تعليقا بقاء أحد من رجال السند ، بل ( ولو ) حذف من أوله ( إلى آخره ) واقتصر على الرسول في المرفوع ، أو على الصحابي في الموقوف - كان تعليقا ، حكاه ابن الصلاح عن بعضهم وأقره .

ولم يذكره المزي في أطرافه ، بل ولا ما اقتصر فيه على الصحابي مع كونه مرفوعا ، وكان يلزمه بخلاف ما لو سقط البعض من أثنائه أو من آخره ، لاختصاصه بألقاب غيره ; كالعضل والقطع والإرسال .

وهل يلتحق بذلك ما يحذف فيه جميع الإسناد ، مع عدم الإضافة لقائل ; كقول البخاري في صحيحه : " وكانت أم الدرداء تجلس في الصلاة جلسة الرجل ، وكانت فقيهة " وهو عنده في تأريخه الصغير ، وعند غيره عن مكحول ؟ الظاهر نعم ، وحكمه من غير ملتزمي الصحة الانقطاع ، ولذا ذكره ابن الصلاح رابع التفريعات التالية للمنقطع ، ومن ملتزميها ما تقدم قريبا .

[ ما رواه المحدث عن شيخه بـ " قال " ] ( أما ) المصنف ( الذي لشيخه عزا ) ما أورده ( بـ " قال " ) وزاد ونحوهما ( فكـ ) إسناد ( ذي عنعنة ) فيشترط للحكم باتصاله شيئان : لقي الراوي لمن عنعن عنه ، وسلامته من التدليس ، كما سيأتي في بابه .

وأمثلة هذه الصيغة كثيرة ( كخبر المعازف ) بالمهملة والزاء والفاء ; وهي آلات [ ص: 79 ] الملاهي ، المروي عن أبي عامر ، أو أبي مالك الأشعري مرفوعا في الإعلام بمن يكون في أمته يستحلها ، ويستحل الحر - بالمهملتين وكسر الأولى مع التخفيف - يعني الزنا ، فإنه اسم لفرج المرأة ، والحرير .

فإن البخاري أورده في الأشربة من صحيحه بقوله : " قال هشام بن عمار : ثنا صدقة بن خالد ، ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر " وساقه سندا ومتنا ، فهشام أحد شيوخ البخاري ، حدث عنه بأحاديث حصرها صاحب ( الزهرة ) في أربعة ، ولم يصف البخاري أحد بالتدليس ، وحينئذ فلا يكون تعليقا ، خلافا للحميدي في مثله ، وإن صوبه ابن دقيق العيد مع حكمه بصحته عن قائله .

وعلى الحكم بكونه تعليقا مشى المزي في أطرافه ، ولم يقل : إن حكمه الانقطاع ، ولكن قد حكم عبد الحق وابن العربي السني بعدم اتصاله .

وقال الذهبي : ( حكمه الانقطاع ) ، ونحوه قول أبي نعيم : ( أخرجه البخاري بلا رواية ) ، وهو مقتضى كلام ابن منده ; حيث صرح بأن " قال " تدليس ، فالصواب الاتصال عند ابن الصلاح ومن تبعه ، فلا تعول على خلافه .

( ولا تصغ لابن حزم ) الحافظ أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد ، المنسوب هنا لجد أبيه الأندلسي القرطبي الظاهري ( المخالف ) في أمور كثيرة ، نشأت عن غلطه [ ص: 80 ] وجموده على الظاهر ، مع سعة حفظه وسيلان ذهنه ، كما وصفه حجة الإسلام الغزالي .

وقول العز بن عبد السلام : " ما رأيت في كتب الإسلام مثل كتابه " المحلى " ، و " المغني " لابن قدامة " إلى غير ذلك ، وكانت وفاته في شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة ( 456هـ ) عن اثنتين وسبعين سنة .

حيث حكم بعدم اتصاله أيضا ، مع تصريحه في موضع آخر ; بأن العدل الراوي إذا روى عمن أدركه من العدول ، فهو على اللقاء والسماع ، سواء قال : أنا أو ثنا أو عن فلان ، أو قال فلان ، فكل ذلك محمول منه على السماع وهو تناقض ، بل وما اكتفى حتى صرح لأجل تقرير مذهبه الفاسد في إباحة الملاهي بوضعه مع كل ما في الباب ، وأخطأ فقد صححه ابن حبان وغيره من الأئمة .

وقد وقع لي من حديث عشرة من أصحاب هشام عنه ، بل ولم ينفرد به كل من هشام وصدقة وابن جابر .

ثم إنه كان الحامل لهم على الحكم بالانقطاع ما يوجد للبخاري من ذلك مرويا في موضع آخر من ذلك الشيخ بعينه بالواسطة مرة ، وتصريحه بعدم سماعه له منه أخرى ، ولا حجة لهم فيه ، فقد وقع له إيراد بعض الأحاديث عن بعض شيوخه بـ " قال " في موضع ، وبالتصريح في آخر .

وحينئذ فكل ما يجيء عنه بهذه الصيغة محتمل للسماع وعدمه ، بل وسماعه محتمل لأن يكون في حالة المذاكرة أو غيرها ، ولا يسوغ مع الاحتمال الجزم بالانقطاع ، بل ولا الاتصال أيضا ; لتصريح الخطيب - كما سيأتي - بأنها لا تحمل [ ص: 81 ] على السماع إلا ممن عرف من عادته أنه لا يطلقها إلا فيما سمعه ، نعم قال ما حاصله : إن من سلك الاحتياط في رواية ما لم يسمعه بالإجازة أو غيرها من الجهات الموثوق بها - يعني كالمناولة - فحديثه محتج به ، وإن لم يصرح بالسماع ، بناء على الأصل في تصحيح الإجازة . انتهى .

وهذا يقتضي أن يكون في حكم الموصول ، لكن قال أبو نعيم في المستخرج عقب حديث قال فيه البخاري : " كتب إلي محمد بن بشار " : إنه لا يعلم له في كتابه حديثا بالإجازة ، يعني عن شيوخه غيره .

وتوسط بعض متأخري المغاربة ، فوسم الوارد بـ " قال " بالتعليق المتصل من حيث الظاهر المنفصل من حيث المعنى ، لكنه أدرج معها " قال لي " ونحوها مما هو متصل جزما ، ونوزع فيه ، كما سيأتي في أول أقسام التحمل إن شاء الله .

وبالجملة فالمختار الذي لا محيد عنه - كما قاله شيخنا - أن حكم " قال " في الشيوخ مثل غيرها من التعاليق المجزومة .

التالي السابق


الخدمات العلمية