فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
معرفة الثقات والضعفاء

979 - واعن بعلم الجرح والتعديل فإنه المرقاة للتفصيل      980 - بين الصحيح والسقيم واحذر
من غرض فالجرح أي خطر      981 - ومع ذا فالنصح حق ولقد
أحسن يحيى في جوابه وسد      982 - لأن يكونوا خصماء لي أحب
من كون خصمي المصطفى إذ لم أذب      983 - وربما رد كلام الجارح
كالنسائي في أحمد بن صالح      984 - فربما كان لجرح مخرج
غطى عليه السخط حين يحرج

( معرفة الثقات والضعفاء ) وكان الأنسب أن يضم لمراتب الجرح والتعديل [ ص: 348 ] مع القول في اشتراط بيان سببهما أو أحدهما ، وكون المعتمد عدمه من العالم بأسبابهما ، وفي التعديل على الإبهام والبدعة التي يجرح بها ، وما أشبه ذلك مما تقدم في موضع واحد .

( واعن ) أي : اجعل أيها الطالب من عنايتك الاهتمام ( بعلم الجرح ) أي : التجريح ( والتعديل ) في الرواة ، فهو من أهم أنواع الحديث وأعلاها وأنفعها ; ( فإنه المرقاة ) بكسر الميم تشبيها له بالآلة التي يعمل بها وبفتحها ، الدرجة ، ( للتفصيل بين الصحيح ) من الحديث ( والسقيم ) وفي كل منهما تصانيف كثيرة ، ففي الضعفاء ليحيى بن معين وأبي زرعة الرازي وللبخاري في كبير وصغير ، والنسائي وأبي حفص الفلاس ، ولأبي أحمد بن عدي في كامله ، وهو أكمل الكتب المصنفة قبله وأجلها ، ولكنه توسع لذكر كل من تكلم فيه وإن كان ثقة ; ولذا لا يحسن أن يقال : الكامل . للناقصين ، وذيل عليه أبو الفضل ابن طاهر في تكملة الكامل ، ولأبي جعفر العقيلي وهو مفيد ، وأبي حاتم بن حبان وأبي الحسن الدارقطني وأبي زكريا الساجي ، وأبي عبد الله الحاكم وأبي الفتح الأزدي وأبي علي بن السكن وأبي الفرج بن الجوزي ، واختصره الذهبي ، بل وذيل عليه في تصنيفين وجمع معظمهما في ميزانه فجاء كتابا نفيسا عليه معول من جاء بعده ، مع أنه تبع ابن عدي في إيراد كل من تكلم فيه ولو كان ثقة ، ولكنه التزم أن لا يذكر أحدا من الصحابة ولا الأئمة المتبوعين ، وقد ذيل عليه المصنف في مجلد ، والتقط شيخنا منه من ليس في تهذيب الكمال وضم إليه ما فاته من الرواة والتتمات ، مع انتقاد وتحقيق في كتاب سماه ( لسان الميزان ) مما كتبته وأخذته عنه وعم النفع به ، بل له كتابان آخران هما ( تقويم اللسان ) و ( تحرير الميزان ) ، كما أن للذهبي في الضعفاء مختصرا سماه ( المغني ) ، وآخر سماه ( الضعفاء والمتروكين ) ، وذيل عليه والتقط بعضهم من الضعفاء الوضاعين فقط ، وبعضهم المدلسين كما مضى في بابيهما ، وبعضهم المختلطين [ ص: 349 ] كما سيأتي بعد .

وفي الثقات لأبي حاتم بن حبان وهو أحفلها ، لكنه يدرج فيهم من زالت جهالة عينه ، بل ومن لم يرو عنه إلا واحد ، ولم يظهر فيه جرح كما سلف في الصحيح الزائد على الصحيحين ، وفي مجهول العين أيضا ، وذلك غير كاف في التوثيق عند الجمهور ، وربما يذكر فيهم من أدخله في الضعفاء ; إما سهوا أو غير ذلك .

ونحوه تخريج الحاكم في مستدركه لجماعة ، وحكمه على الأسانيد الذين هم فيها بالصحة ، مع ذكر إياهم في كتابه في ( الضعفاء ) ، وقطع بترك الرواية عنهم والمنع من الاحتجاج بهم ; لأنه ثبت عنده جرحهم ، وللعجلي وابن شاهين ، وأبي العرب التميمي ، ومن المتأخرين الشمس محمد بن أيبك السروجي لكنه لم يكمل ، وجد منه الأحمدون فقط في مجلد ، وأفرد شيخنا الثقات ممن ليس في التهذيب وما كمل أيضا وللذهبي معرفة الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد إلى غيرها من الكتب المشتملة على الثقات والضعفاء جميعا ; كتاريخ أبي بكر بن أبي خيثمة ، وهو كثير الفوائد ، و ( الطبقات ) لابن سعد ، و ( التمييز ) للنسائي وغيرها مما ذكر بعضه في آداب الطالب ، وللعماد ابن كثير ( التكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل ) ، جمع فيه بين تهذيب المزي وميزان الذهبي مع زيادات وقال : إنه من أنفع شيء للفقيه البارع ، وكذا المحدث ، فهذه مظان الثقات والضعفاء غالبا ، ومن مظان الثقات التصانيف في الصحيح بعد الشيخين ، وكذا من خرج على كتابيهما ; فإنه يستفاد منها الكثير مما لم يذكر في الكتب المشار إليها ، وربما يستفاد مما يوجد في بعض الأسانيد توثيق بعض الرواة ; كأن يقول الراوي المعتمد : حدثني فلان وكان ثقة . يعني وما أشبهه ، أشار إلى ذلك ابن [ ص: 350 ] دقيق العيد .

( واحذر ) أيها المتصدي لذلك ، المقتفي فيه أثر من تقدم ( من غرض ) أو هوى يحملك كل منهما على التحامل والانحراف وترك الإنصاف أو الإطراء والافتراء ، فذلك شر الأمور التي تدخل على القائم بذلك الآفة منها ، والمتقدمون سالمون منه غالبا منزهون عنه ; لوفور ديانتهم ، بخلاف المتأخرين فإنه ربما يقع ذلك في تواريخهم ، وهو مجانب لأهل الدين وطرائقهم .

( فالجرح ) والتعديل خطر ; لأنك إن عدلت بغير تثبت كنت كالمثبت حكما ليس بثابت ، فيخشى عليك أن تدخل في زمرة من روى حديثا وهو يظن أنه كذب ، وإن جرحت بغير تحرز أقدمت على الطعن في مسلم بريء من ذلك ، ووسمته بميسم سوء يبقى عليه عاره أبدا ، وهو في الجرح بخصوصه ، ( أي خطر ) بفتح المعجمة ثم المهملة من قولهم : خاطر بنفسه ; أي : أشرف على هلاكها ; فإن فيه مع حق الله ورسوله حق آدمي ، وربما يناله إذا كان بالهوى ومجانبة الاستواء الضرر في الدنيا قبل الآخرة ، والمقت بين الناس ، والمنافرة ، كما اتفق لأبي شامة ; فإنه كان مع كونه عالما راسخا في العلم مقرئا محدثا نحويا يكتب الخط المليح المتقن مع التواضع والانطراح ، والتصانيف العدة - كثير الوقيعة في العلماء والصلحاء وأكابر الناس والطعن عليهم والتنقص لهم وذكر مساويهم ، وكونه عند نفسه عظيما فصار ساقطا من أعين كثير من الناس ممن علم منه ذلك وتكلموا فيه ، وأدى ذلك إلى امتحانه بدخول رجلين جليلين عليه داره في صورة مستفتين فضرباه ضربا مبرحا إلى أن عيل صبره ولم يغثه أحد .

[ ص: 351 ] ونحوه ما اتفق لبعض العصريين ، ممن لم يبلغ في العلم مبلغ الذي قبله بيقين ; فإنه أكثر الوقيعة في الناس بدون تدبر ولا قياس ، فأبعد عن البلد وتزايد به الألم والنكد ، ومع ذلك فما كف حتى ثقل على الكافة وما خف ، وارتقى لحجة الإسلام ; فضلا عمن يليه من الأئمة والأعلام ، فلم يلبث أن مات وما اشتفى من تلك النكايات ، والله تعالى يقينا شرور أنفسنا وحصائد ألسنتنا .

ولما في الجرح من الخطر ، لما جيء للتقي ابن دقيق العيد بالمحضر المكتتب في التقي ابن بنت الأعز ; ليكتب فيه ، امتنع منها أشد امتناع مع ما كان بينهما من العداوة الشديدة ، بل وأغلظ عليهم في الكلام ، وقال : ما يحل لي أن اكتب فيه . ورده ، فتزايدت جلالته بذلك وعد في وفور ديانته وأمانته ، وانتفع ابن بنت الأعز بذلك ، وكيف لا ، والتقي هو القائل مما أحسن فيه : أعراض المسلمين حفرة من حفر النار ، وقف على شفيرها طائفتان من الناس : المحدثون والحكام . ونحوه قول بعضهم : من أراد بي سوءا جعله الله محدثا أو قاضيا .

التالي السابق


الخدمات العلمية