الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الأثار

الحازمي - أبو بكر محمد بن موسى الحازمي الهمذاني

صفحة جزء
وقد اختلف الناس بعد ذلك في مسألتين :

إحداهما : جواز نسخ الكتاب بالسنة .

والثانية : جواز نسخ السنة بالكتاب .

واتفقوا على مسألتين :

إحداهما : نسخ الكتاب بالكتاب .

الثانية : جواز نسخ السنة بالسنة .

أما المسألة الأولى : في نسخ الكتاب بالسنة ، فأكثر المتأخرين ذهبوا إلى الجواز وقالوا : لا استحالة في وقوعه عقلا ، وقد دل السمع على وقوعه ، فيجب المصير إليه .

أخبرني أبو موسى الحافظ ، أخبرنا أبو علي ، أخبرنا أبو نعيم الحافظ ، أخبرنا أبو أحمد الغطريفي ، حدثنا أحمد بن موسى العدوي ، حدثنا سهيل بن سعيد ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير قال : السنة قاضية على الكتاب ، وليس الكتاب بقاض على السنة .

[ ص: 100 ] أخبرني محمد بن إبراهيم بن علي الفارسي ، أخبرنا أبو زكريا العبدي ، أخبرنا محمد بن أحمد الكاتب ، أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا الحسن بن محمد ، حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي ، حدثنا الأوزاعي عن يحيى ، قال : السنة قاضية على القرآن ، أي : تفسره .

أخبرني محمد بن عمر بن أحمد المديني ، أخبرنا الحسن بن أحمد ، أخبرنا أحمد بن عبد الله ، أخبرنا محمد بن أحمد الجرجاني ، حدثنا أحمد بن موسى بن العباس ، حدثنا أبو إسحاق الكسائي ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن الأوزاعي ، عن مكحول قال : القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن .

أخبرني محمد بن إبراهيم بن علي ، أخبرنا يحيى بن عبد الوهاب ، أخبرنا أبو طاهر بن عبد الرحيم ، حدثنا أبو الشيخ الحافظ قال : ذكر ما نسخ من القرآن بالسنة ، قول الله عز وجل : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين .

[ ص: 101 ] وقال : إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين .

فنسخ الميراث قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم .

ونسخ الوصية للوالدين والأقربين بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا وصية لوارث . [ ص: 102 ] قال : وأجمعوا أن العبد لا يرث الحر ، ولا الحر يرث العبد ، وقال تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم ونسخ ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تنكح الصغرى على الكبرى ، ولا الكبرى على الصغرى .

ونسخ أيضا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب .

[ ص: 103 ] وقال تعالى : وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا . فنسخ الله ذلك بسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - : إن كل امرأة ارتدت فلحقت بالمشركين فقد بانت من زوجها .

وإن من صار من نساء المشركين إلى المسلمين مسلمات أو مستأمنات بغير أسر ولا قهر أنهن حرائر ، وحل للمسلمين أن ينكحوهن إذا آتوهن أجورهن ، ولا عوض على أحد لأحد في ذلك ، وسقط حكم القرآن .

[ ص: 104 ] وقال تعالى : والسارق والسارقة فعم به كل سارق ، ثم نسخ من ذلك سارق الغنم ، بقوله - عليه السلام - : لا قطع على سارق الغنم ، وإن كثرت وكثرت قيمتها إذا لم يأوها المراح ، ولا قطع على سارق التمر إذا لم يأوه الجرين .

وقال - عليه السلام - : لا قطع في ثمر ولا كثر ، وقطع في قيمته معلومة .

وقال تعالى : من بعد وصية يوصي بها أو دين ، فأطلق قليل الوصية وكثيرها ، ثم نسخ ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد : الثلث ، والثلث كثير [ ص: 105 ] وقال تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا الآية ، ثم حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير .

وقال - عز وجل - : فول وجهك شطر المسجد الحرام الآية ، وصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر حيث توجهت به راحلته .

[ ص: 106 ] وقال عز وجل : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم - الآية ، وإنما أباح القصر مع الخوف ثم سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القصر في السفر بكل حال .

هذه آخر كلام أبي الشيخ ، وسيأتي ذكر حديث يحقق فيه شرط النسخ في بابه إن شاء الله تعالى .

وذهب جماعة من المتقدمين ، ونفر من المتأخرين إلى منع ذلك ، وقالوا : كما خبر الواحد لا ينسخ المتواتر مع اشتراكهما في اللوازم والتوابع ، كذلك السنة لا تنسخ القرآن ، لتباينهما في الحقائق واللواحق ، وروينا معنى ذلك عن الشافعي - رضي الله عنه - .

أخبرني الأمير أبو المحاسن محمد بن علي الفارسي ، أخبرنا زاهر بن [ ص: 107 ] طاهر النيسابوري ، أخبرنا أبو بكر البيهقي ، أخبرنا الحاكم أبو عبد الله ، أخبرنا أبو العباس ، أخبرنا الربيع قال : قال الشافعي - رضي الله عنه - : والناسخ من القرآن الأمر ينزله الله بعد الأمر يخالفه ، كما حول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، وكل منسوخ يكون حقا ما لم ينسخ ، فإذا نسخ كان الحق في ناسخه ، ولا ينسخ كتاب الله إلا كتابه ، وهكذا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينسخها إلا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

أخبرني أبو بكر الخطيب ، أخبرنا أبو زكريا العبدي ، أخبرنا محمد بن أحمد الكاتب ، أخبرنا عبد الله بن محمد الحافظ ، حدثنا عبد الله بن [ ص: 108 ] محمد بن يعقوب ، حدثنا أبو داود السجستاني قال : سمعت أحمد بن حنبل - وسئل عن حديث السنة قاضية على الكتاب - قال : لا أجترئ أن أقول فيه ، ولكن السنة تفسر القرآن ، ولا ينسخ القرآن إلا بالقرآن .

التالي السابق


الخدمات العلمية