نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية

الزيلعي - جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

صفحة جزء
[ ص: 523 - 525 ] كتاب الصيام قال رحمه الله : ( الصوم ضربان : واجب ، ونفل ، والواجب ضربان : منه ما يتعلق بزمان بعينه كصوم رمضان والنذر المعين فيجوز صومه بنية من الليل ، وإن لم ينو حتى أصبح أجزأته النية ما بينه وبين الزوال ) وقال الشافعي رضي الله عنه : لا يجزيه . اعلم أن صوم رمضان فريضة لقوله تعالى{ كتب عليكم الصيام }وعلى فرضيته انعقد الإجماع ، ولهذا يكفر جاحده والمنذور واجب ، لقوله تعالى{ وليوفوا نذورهم }وسبب الأول الشهر ، ولهذا يضاف إليه ، ويتكرر بتكرره ، وكل يوم سبب لوجوب صومه ; وسبب الثاني النذر ، والنية من شرطه ، وسنبينه ونفسره إن شاء الله تعالى ، وجه قوله في الخلافية قوله عليه الصلاة والسلام { لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل }ولأنه لما فسد الجزء الأول لفقد النية فسد الثاني ، ضرورة أنه لا يتجزأ ، بخلاف النفل ; لأنه متجزئ عنده . [ ص: 526 - 527 ] لنا قوله صلى الله عليه وسلم بعدما شهد الأعرابي برؤية الهلال { ألا من أكل فلا يأكلن بقية يومه ، ومن لم يأكل فليصم }وما رواه محمول على نفي [ ص: 528 ] الفضيلة والكمال ، أو معناه لم ينو أنه صوم من الليل ولأنه يوم صوم فيتوقف الإمساك في أوله على النية المتأخرة المقترنة بأكثره كالنفل ، وهذا ; لأن الصوم ركن واحد ممتد ، والنية لتعيينه لله تعالى ، فتترجح بالكثرة جنبة الوجود ، بخلاف الصلاة والحج ; لأن لهما أركانا فيشترط قرانها بالعقد على أدائهما ، وبخلاف القضاء ; لأنه يتوقف على صوم ذلك اليوم وهو النفل ، وبخلاف ما بعد الزوال ; لأنه لم يوجد اقترانها بالأكثر فترجحت جنبة الفوات ، ثم قال في المختصر : ما بينه وبين الزوال ; وفي الجامع الصغير : قبل نصف النهار ، وهو الأصح ; لأنه لا بد من وجود النية في أكثر النهار ، ونصفه من وقت طلوع الفجر إلى وقت الضحوة الكبرى ، لا إلى وقت الزوال ، فتشترط النية قبلها لتتحقق في الأكثر ، ولا فرق بين المسافر والمقيم عندنا ، خلافا لزفر رحمه الله ; لأنه لا تفصيل فيما ذكرنا من الدليل ، وهذا الضرب من الصوم يتأدى بمطلق النية ، وبنية النفل ، وبنية واجب آخر .

وقال الشافعي رحمه الله : في نية النفل عابث ، وفي مطلقها له قولان ; لأنه بنية النفل معرض عن الفرض ، فلا يكون له الفرض ، ولنا أن الفرض متعين فيه فيصاب بأصل النية كالمتوحد في الدار يصاب باسم جنسه ، وإذا نوى النفل أو واجبا آخر فقد نوى أصل الصوم وزيادة جهة ، وقد لغت الجهة فبقي الأصل وهو كاف . ولا فرق بين المسافر والمقيم والصحيح والسقيم عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله; لأن الرخصة كي لا تلزم المعذور مشقة ، فإذا تحملها التحق بغير المعذور ، وعند أبي حنيفة رحمه الله إذا صام المريض والمسافر بنية واجب آخر يقع عنه ; لأنه شغل الوقت بالأهم ، لتحتمه للحال ، وتخيره في صوم رمضان إلى إدراك العدة ، وعنه في نية التطوع روايتان . والفرق على إحداهما أنه ما صرف الوقت إلى الأهم . قال ( والضرب الثاني ما يثبت في الذمة كقضاء شهر رمضان ، والنذر المطلق ، وصوم الكفارة ، فلا يجوز إلا بنية من الليل ) ; لأنه غير معين ، ولا بد من التعيين من الابتداء .


[ ص: 524 - 525 ] كتاب الصوم

الحديث الأول : قال عليه السلام : { لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل } ، قلت : روى أصحاب السنن الأربعة من حديث عبد الله بن عمر عن أخته حفصة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له }انتهى .

بلفظ أبي داود ، والترمذي . ولفظ ابن ماجه : { لا صيام لمن لم يفرضه من الليل } ، وجمع النسائي بين اللفظين ، أخرجه أبو داود عن ابن لهيعة ، ويحيى بن أيوب عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن الزهري عن سالم عن أبيه عن حفصة ، فذكره ، قال أبو داود : ورواه الليث ، وإسحاق بن حازم عن عبد الله بن أبي بكر مثله . ووقفه على حفصة : [ ص: 526 ] معمر ، والزبيدي ، وابن عيينة ، ويونس الأيلي عن الزهري انتهى . " حديث الليث ، عند الطبراني في " معجمه " ، وحديث إسحاق ، عند ابن ماجه " ، وأخرجه الترمذي عن يحيى بن أيوب عن عبد الله بن أبي بكر به ، وقال : هذا حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه ، وقد روي عن نافع عن ابن عمر قوله : وهو أصح . انتهى .

وأخرجه ابن ماجه عن إسحاق بن حازم عن عبد الله بن أبي بكر عن سالم ، لم يذكر بينهما الزهري ، وبالطريقين رواه النسائي ، وقال النسائي : الصواب عندي موقوف . انتهى .

ورواه الحاكم في " كتاب الأربعين " عن يحيى بن أيوب به ، وقال : حديث صحيح على شرط الشيخين ، والزيادة عندهما من الثقة مقبولة انتهى .

ورواه الدارقطني ، ثم البيهقي في " سننهما " ، قال الدارقطني : رفعه عبد الله بن أبي بكر عن الزهري وهو من الثقات الرفعاء ، ورواه معمر عن الزهري فوقفه ، وتابعه الزبيدي ، وعبد الرحمن بن إسحاق ، وجماعة انتهى .

وقال البيهقي : عبد الله بن أبي بكر أقام إسناده ورفعه ، وهو من الثقات الأثبات . انتهى .

وقال النسائي في " سننه الكبرى " : ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة ، ثم ساقه عن عبد الله بن أبي بكر عن الزهري به مرفوعا .

وعن عبد الله بن أبي بكر عن سالم به مرفوعا ، ثم أخرجه عن عبد الرزاق أنا ابن جريج عن الزهري به أيضا مرفوعا ، قال : وحديث ابن جريج هذا غير محفوظ ، ثم أخرجه عن عبيد الله عن الزهري عن سالم عن أبيه عن حفصة مرفوعا ، ثم أخرجه عن ابن وهب : أخبرني يونس عن الزهري أخبرني حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن حفصة موقوفا ، ثم أخرجه عن ابن المبارك أنا معمر عن الزهري عن حمزة بن عبد الله به موقوفا ، ثم أخرجه عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن حمزة به موقوفا ، قال النسائي : والصواب عندنا موقوف ، ولم يصح رفعه ; لأن يحيى بن أيوب ليس بذاك القوي ، وقد أرسله مالك رضي الله عنه ، ثم أخرجه عن مالك عن الزهري عن عائشة ، وحفصة موقوفا ، ورواه مالك أيضا عن نافع عن ابن عمر . قوله : ثم أخرجه كذلك ، ثم أخرجه عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر موقوفا . انتهى . ولم يروه مالك في " الموطأ " إلا كذلك ، مالك عن نافع عن ابن عمر ، فذكره مالك عن ابن شهاب عن عائشة ، وحفصة مثل ذلك . انتهى .

وقال [ ص: 527 ] ابن أبي حاتم : سألت أبي عن حديث رواه إسحاق بن حازم عن عبد الله بن أبي بكر عن سالم عن أبيه عن حفصة مرفوعا : { لا صيام لمن لم ينو من الليل } ، ورواه يحيى بن أيوب عن عبد الله بن أبي بكر عن الزهري عن سالم عن أبيه عن حفصة مرفوعا ، قلت له : أيهما أصح ؟ قال : لا أدري ; لأن عبد الله بن أبي بكر أدرك سالما ، وروى عنه ، ولا أدري سمع هذا الحديث منه ، أو سمعه من الزهري عن سالم ، وقد روي هذا عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن حفصة قولها ، وهو عندي أشبه . انتهى .

{ حديث آخر } : أخرجه الدارقطني في " سننه " عن روح بن الفرج عن عبد الله بن عباد ثنا المفضل بن فضالة حدثني يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي عليه السلام ، قال : { من لم يبيت الصيام قبل الفجر ، فلا صيام له }انتهى .

قال الدارقطني : تفرد به عبد الله بن عباد عن المفضل بهذا الإسناد ، وكلهم ثقات ، انتهى .

وأقره البيهقي على ذلك في " سننه " ، وفي " خلافياته " ، وفي ذلك نظر ، فإن عبد الله بن عباد غير مشهور ، ويحيى بن أيوب ليس بالقوي ، وقال ابن حبان : عبد الله بن عباد البصري يقلب الأخبار ، روى عن المفضل بن فضالة عن يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة حديث : من لم يبيت الصيام ، وهذا مقلوب إنما هو عن يحيى بن أيوب عن عبد الله بن أبي بكر عن الزهري عن سالم عن أبيه عن حفصة ، روى عنه روح بن الفرج نسخة موضوعة . انتهى . { حديث آخر } : أخرجه الدارقطني أيضا عن الواقدي ثنا محمد بن هلال عن أبيه أنه سمع ميمونة بنت سعد تقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { من أجمع الصوم من الليل فليصم ، ومن أصبح ولم يجمعه ، فلا يصم }. انتهى ، وأعله ابن الجوزي في " التحقيق " بالواقدي .

الحديث الثاني : روي أنه عليه السلام ، قال بعدما شهد الأعرابي برؤية الهلال : [ ص: 528 ] { ألا من أكل فلا يأكل بقية يومه ، ومن لم يأكل فليصم } ، قلت : حديث غريب ، وذكره ابن الجوزي في " التحقيق " وقال : إن هذا حديث لا يعرف ، وإنما المعروف أنه شهد عنده [ ص: 529 ] برؤية الهلال ، فأمر أن ينادى في الناس : أن تصوموا غدا ، وقد رواه الدارقطني بلفظ صريح : { أن أعرابيا جاء ليلة شهر رمضان } ، فذكر الحديث ، وفي لفظ أبي يعلى الموصلي ، قال : { أبصرت الهلال الليلة }الحديث ، وحديث ابن عباس ليس بصريح ، ولكن فيه احتمال ، أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : { جاء أعرابي إلى النبي عليه السلام ، فقال : إني رأيت الهلال }.

قال : الحسن في حديثه { يعني رمضان فقال : أتشهد أن لا إله إلا الله ؟ قال : نعم ، قال : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم ، قال : يا بلال أذن في الناس : فيصوموا }انتهى . قال الترمذي : هذا حديث فيه اختلاف ، وقد روي عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا . انتهى .

ورواه النسائي مرسلا ، ومسندا ، وذكر أن المرسل أولى بالصواب . وأن سماكا إذا تفرد بشيء لم يكن حجة ; لأنه كان يلقن فيتلقن . انتهى .

ورواه مسندا ابن حبان في " صحيحه " ، والحاكم في " المستدرك " ، وقال : حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه ، وقد احتج البخاري بعكرمة ، ومسلم بسماك . انتهى .

قال ابن حبان : ومن زعم أن هذا الخبر تفرد به سماك ، وأن رفعه غير محفوظ ، فهو مردود بحديث ابن عمر ، قال { تراءى الناس الهلال ، فرأيته ، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصام ، وأمر الناس بصيامه }. انتهى . وسيأتي بقية الكلام في حديث شهادة الواحد . ومن أحاديث الباب : ما أخرجه البخاري ، ومسلم عن سلمة بن الأكوع أنه عليه السلام { أمر رجلا من أسلم : أن أذن في الناس : أن من أكل فليصم بقية يومه ، ومن لم يكن أكل فليصم ، فإن اليوم يوم عاشوراء }. انتهى . قال الطحاوي : فيه دليل على أن من تعين عليه صوم يوم ، ولم ينو ليلا أنه يجزئه نهارا قبل الزوال ، قال ابن الجوزي في " التحقيق " [ ص: 530 ] لم يكن صوم عاشوراء واجبا ، فله حكم النافلة ، يدل عليه ما أخرجاه في " الصحيحين " عن معاوية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { هذا يوم عاشوراء ، ولم يفرض علينا صيامه ، فمن شاء منكم أن يصوم فليصم ، فإني صائم ، فصام الناس } ، قال : وبدليل أنه لم يأمر من أكل بالقضاء . انتهى . قال صاحب " التنقيح " : والجواب أن حديث معاوية معناه : ليس مكتوبا عليكم الآن ، أو لم يكتب عليكم بعد أن فرض رمضان ، قال : وهذا ظاهر ، فإن معاوية من مسلمة الفتح ، وهو إنما سمعه من النبي عليه السلام بعدما أسلم ، في سنة تسع ، أو عشر ، بعد أن نسخ صوم عاشوراء برمضان ، ورمضان فرض في السنة الثانية ، ونسخ عاشوراء برمضان في " الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنهاقالت : { كان يوم عاشوراء يوما يصومه قريش في الجاهلية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه ، فلما قدم المدينة صامه ، وأمر بصيامه : فلما فرض رمضان ، قال : من شاء صامه ، ومن شاء تركه }انتهى .

قال : وأما ترك الأمر لقضائه : فإن من لم يدرك اليوم بكماله لا يلزمه قضاؤه ، كما قيل فيمن بلغ أو أسلم في أثناء يوم من رمضان ، على أنه قد روي الأمر بالقضاء في حديث غريب ، أخرجه أبو داود في " سننه " عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عبد الرحمن بن مسلمة عن عمه : { أن أسلم أتت النبي عليه السلام ، فقال : صمتم يومكم هذا ؟ قالوا : لا ، قال : فأتموا بقية يومكم واقضوه } ، قال أبو داود : يعني عاشوراء انتهى .

وهذا حديث مختلف في إسناده ومتنه ، وفي صحته نظر ، انتهى كلامه .

التالي السابق


الخدمات العلمية