نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية

الزيلعي - جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

صفحة جزء
[ ص: 531 ] فصل في رؤية الهلال قال ( وينبغي للناس أن يلتمسوا الهلال في اليوم التاسع والعشرين من شعبان ، فإن رأوه صاموا ، وإن غم عليهم أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما ، ثم صاموا ) لقوله صلى الله عليه وسلم { صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم الهلال [ ص: 532 ] فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما }ولأن الأصل بقاء الشهر ، فلا ينتقل عنه إلا بدليل ، ولم يوجد .


الحديث الرابع : قال عليه السلام : { صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم الهلال فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما } ، قلت : أخرجه البخاري ، ومسلم عن أبي هريرة ، واللفظ للبخاري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه ، فأفطروا ، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين }. انتهى .

وفي لفظ لهما : { فعدوا ثلاثين } ، وفي لفظ : { فأكملوا العدة } ، وفي لفظ : { فصوموا ثلاثين يوما } ، والمصنف رحمه الله احتج بهذا الحديث على أن اليوم الثلاثين من شعبان يوم شك إذا غم هلال رمضان ، وأنه لا يجوز صومه إلا تطوعا ، قال ابن الجوزي في " التحقيق " : وأصح الروايتين عن أحمد رضي الله عنه ، أنه يجب صومه بنية من رمضان ، ولا يسمى يوم شك ، قال : ويوم الشك فسره أحمد بأن يتقاعد الناس عن طلب الهلال ، أو يشهد برؤيته من يرد الحاكم شهادته ، ونقل هذا القول عن جماعة من الصحابة ، والتابعين رضي الله عنهم ، واستدل لأصحابنا ، ومن قال بقولهم ، بأربعة أحاديث : أحدها : حديث البخاري المتقدم : { فأكملوا عدة شعبان ثلاثين } ، ثم أجاب عنه بأن الإسماعيلي قال في " صحيحه " الذي خرجه على البخاري : تفرد به البخاري عن آدم عن شعبة ، فقال فيه : { فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما } ، وقد رويناه عن غندر ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وابن علية ، وعيسى بن يونس ، وشبابة ، وعاصم بن علي ، والنضر بن شميل ، ويزيد بن هارون . كلهم عن شعبة ، لم يذكر أحدا منهم : { فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما ، وإنما قالوا فيه : فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين }.

قال الإسماعيلي : فيجوز أن يكون آدم رواه على التفسير من عنده ، وإلا فليس لانفراد البخاري عنه بهذا اللفظ من بين من رواه عنه وجه ، قال ابن الجوزي رحمه الله : فعلى هذا يكون المعنى : { فإن غم عليكم رمضان فعدوا ثلاثين } ، ولا يصير لهم [ ص: 532 ] فيه حجة ، على أن أصحابنا يؤولون ما انفرد به البخاري من ذكر شعبان ، فقالوا : نحمله على ما إذا غم هلال رمضان ، وهلال شوال ، فإنا نحتاج إلى إكمال شعبان ثلاثين ، احتياطا للصوم ، فإنا وإن كنا قد صمنا يوم الثلاثين من شعبان ، فلسنا نقطع بأنه من رمضان ، ولكنا صمناه حكما ، قال : ويدل على ما قلناه شيئان : أحدهما : عود الضمير على أقرب مذكور ، وهو قوله : وأفطروا لرؤيته . الثاني : أن مسلما رواه مفسرا : إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما . انتهى كلامه . قال صاحب " التنقيح " : وما ذكره الإسماعيلي من أن آدم بن أبي إياس يجوز أن يكون رواه على التفسير من عنده للخبر ، فغير قادح من صحة الحديث ، لأن النبي عليه السلام إما أن يكون قال اللفظين ، وهو ظاهر اللفظ ، وإما أن يكون قال أحدهما وذكر الراوي اللفظ الآخر بالمعنى ، فإن اللام في قوله : { فأكملوا العدة }للعهد أي عدة الشهر والنبي عليه السلام لم يخص بالإكمال شهرا دون شهر ، إذا غم ، فلا فرق بين شعبان وغيره ، إذ لو كان شعبان غير مراد من هذا الإكمال لبينه ، لأن ذكر الإكمال عقيب قوله : صوموا وأفطروا ، فشعبان وغيره مراد من قوله : فأكملوا العدة ، فلا تكون رواية : فأكملوا عدة شعبان مخالفة لرواية : فأكملوا العدة ، بل مبينة لها . أحدهما : أطلق لفظا يقتضي العموم في الشهر ، والثاني : ذكر فردا من الأفراد ، قال : ويشهد له حديث أخرجه أبو داود ، والترمذي عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا : { لا تصوموا قبل رمضان ، صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن حال بينكم وبينه سحاب ، فكملوا العدة ثلاثين ، ولا تستقبلوا الشهر استقبالا }.

قال الترمذي : حديث حسن صحيح . ورواه ابن خزيمة ، وابن حبان في " صحيحيهما " ، ورواه أبو داود الطيالسي في " مسنده " حدثنا أبو عوانة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس : { صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن حال بينكم وبينه غمامة أو ضبابة ، فأكملوا شهر شعبان ثلاثين ، ولا تستقبلوا رمضان بصوم يوم من شعبان }. قال : وبالجملة فهذا الحديث نص في المسألة ، وهو صحيح كما قال الترمذي ، وسماك ، وثقه أبو حاتم ، وابن معين ، وروى له مسلم في " صحيحه " قال : والذي دلت عليه الأحاديث في هذه المسألة ، وهو مقتضى القواعد : أن كل شهر غم [ ص: 533 ] أكمل ثلاثين ، سواء في ذلك شعبان ، ورمضان ، وغيرهما ، وعلى هذا يكون قوله : { فإن غم عليكم ، فأكملوا العدة }راجعا إلى الجملتين ، وهما قوله : صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ، أي غم عليكم في صومكم ، أو فطركم ، هذا هو الظاهر من اللفظ ، وباقي الأحاديث تدل على ذلك ، كقوله : { فإن غم عليكم ، فأقدروا له } ، انتهى .

الحديث الثاني : أخرجه أبو داود ، والنسائي عن جرير عن منصور عن ربعي عن حذيفة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال ، أو تكملوا العدة قبله ، ثم صوموا حتى تروا الهلال ، أو تكملوا العدة قبله }انتهى . ورواه ابن حبان في " صحيحه " ، وأخرجه النسائي أيضا عن سفيان عن منصور عن ربعي عن بعض أصحاب النبي عليه السلام ، فذكره أيضا ، وأخرجه أيضا عن الحجاج بن أرطاة عن منصور عن ربعي ، فذكره عن النبي عليه السلام مرسلا ، وقال : لا أعلم أحدا من أصحاب منصور قال فيه : عن حذيفة غير جرير . انتهى .

قال ابن الجوزي : وحديث حذيفة هذا ضعفه أحمد ، ثم هو محمول على حال الصحو ، لأنه لم يذكر فيه الغيم ، أو على ما إذا غم هلال رمضان ، وهلال شوال ، كما سبق ، قال في " التنقيح " : وهذا وهم منه ، فإن أحمد إنما أراد أن الصحيح قول من قال : عن رجل من أصحاب النبي عليه السلام ، وإن تسمية حذيفة ، وهم من جرير ، فظن ابن الجوزي أن هذا تضعيف من أحمد للحديث ، وأنه مرسل ، وليس هو بمرسل ، بل متصل ، إما عن حذيفة ، وإما عن رجل من أصحاب النبي عليه السلام ، وجهالة الصحابة غير قادحة في صحة الحديث ، قال : وبالجملة فالحديث صحيح ، ورواته ثقات ، محتج بهم في الصحيح . انتهى .

الحديث الثالث : أخرجه أبو داود عن معاوية بن صالح عن عبد الله بن أبي قيس عن عائشة ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره ، ثم يصوم رمضان لرؤيته ، فإن غم عليه عد ثلاثين يوما ثم صام . انتهى .

ورواه الدارقطني [ ص: 534 ] وقال : إسناده صحيح ، قال ابن الجوزي : وهذه عصبية من الدارقطني ، كان يحيى بن سعيد لا يرضى معاوية بن صالح ، وقال أبو حاتم : لا يحتج به ، قال في " التنقيح " : ليست العصبية من الدارقطني ، وإنما العصبية منه ، فإن معاوية بن صالح ثقة صدوق ، وثقه أحمد بن حنبل ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وأبو زرعة . وقال ابن أبي حاتم : سألت أبي عنه ، فقال : حسن الحديث ، صالح الحديث . واحتج به مسلم في " صحيحه " ، ولم يرو شيئا خالف فيه الثقات ، وكون يحيى بن سعيد كان لا يرضاه ، غير قادح فيه ، فإن يحيى شرطه شديد في الرجال ، وكذلك قال : لو لم أرو إلا عمن أرضى ، ما رويت إلا عن خمسة . وقول أبي حاتم : لا يحتج به ، غير قادح أيضا ، فإنه لم يذكر السبب ، وقد تكررت هذه اللفظة منه في رجال كثيرين من أصحاب الصحيح الثقات الأثبات من غير بيان السبب ، كخالد الحذاء ، وغيره ، والله أعلم .

الحديث الرابع : روى ابن الجوزي من طريق الإمام أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي بسنده عن يعلى بن الأشدق عن عبد الله بن جراد ، قال : { أصبحنا يوم الثلاثين صياما ، وكان الشهر قد أغمي علينا ، فأتينا النبي عليه السلام ، فأصبناه مفطرا ، فقلنا : يا نبي الله صمنا اليوم ، فقال أفطروا ، إلا أن يكون رجلا يصوم هذا اليوم فليتم صومه }; لأن أفطر يوما من رمضان يتمارى فيه ، أحب إلي من أن أصوم يوما من شعبان ليس منه يعني من رمضان قال الخطيب : ففي هذا الحديث كفاية عما سواه ، وشنع ابن الجوزي على الخطيب في روايته لهذا الحديث تشنيعا كثيرا ، وقال : إنه حديث موضوع على ابن جراد ، لا أصل له ، ولا ذكره أحد من الأئمة الذين ترخصوا في ذكر الأحاديث الضعيفة ، وإنما هو نسخة يعلى بن الأشدق عن ابن جراد ، وهو نسخة موضوعة ، قال أبو زرعة : يعلى بن الأشدق ليس بشيء ، وقال ابن عدي : يعلى بن الأشدق عن عمه عبد الله بن جراد أحاديثه منكرة ، وهو وعمه غير معروفين .

وقال البخاري رحمه الله : لا يكتب حديثه ، وقال ابن حبان : لا تحل الرواية عنه انتهى . ووافقه صاحب " التنقيح " على جميع ذلك ، وأقره عليه ، والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية