صفحة جزء
ثم إن العلو المطلوب في رواية الحديث على أقسام خمسة‏ :

أولها‏ : القرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسناد نظيف غير ضعيف ، وذلك من أجل أنواع العلو‏ ، وقد روينا عن ‏محمد بن أسلم الطوسي‏ [ ص: 257 ] الزاهد العالم رضي الله عنه أنه قال‏ : " قرب الإسناد قرب أو قربة إلى الله عز وجل " . ‏

وهذا كما قال ; لأن قرب الإسناد قرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والقرب إليه قرب إلى الله عز وجل . ‏

الثاني‏ : وهو الذي ذكره الحاكم ‏أبو عبد الله الحافظ‏ ‏‏ ، القرب من إمام من أئمة الحديث ، وإن كثر العدد من ذلك الإمام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا وجد ذلك في إسناد وصف بالعلو ، نظرا إلى قربه من ذلك الإمام وإن لم يكن عاليا بالنسبة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وكلام الحاكم يوهم أن القرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعد من العلو المطلوب أصلا‏ . ‏

وهذا غلط من قائله ; لأن القرب منه - صلى الله عليه وسلم - بإسناد نظيف غير ضعيف أولى بذلك‏ . ‏

ولا ينازع في هذا من له مسكة من معرفة ، وكأن الحاكم أراد بكلامه ذلك إثبات العلو للإسناد بقربه من إمام ، وإن لم يكن قريبا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والإنكار على من يراعي في [ ص: 258 ] ذلك مجرد قرب الإسناد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان إسنادا ضعيفا ، ولهذا مثل ذلك بحديث ‏أبي هدبة‏ ، و‏دينار‏ ، و‏‏الأشج‏ ، وأشباههم ، والله أعلم‏‏‏‏ . ‏

الثالث‏ : العلو بالنسبة إلى رواية الصحيحين ، أو أحدهما ، أو غيرهما من الكتب المعروفة المعتمدة ، وذلك ما اشتهر آخرا من الموافقات ، والأبدال ، والمساواة ، والمصافحة‏ ، وقد كثر اعتناء المحدثين المتأخرين بهذا النوع‏ ، وممن وجدت هذا النوع في كلامه ‏أبو بكر الخطيب الحافظ‏ وبعض شيوخه ، و‏أبو نصر بن ماكولا‏ ، و‏أبو عبد الله الحميدي ، وغيرهم من طبقتهم ، وممن جاء بعدهم‏‏ ، ( والله أعلم‏‏‏ ) .

أما الموافقة‏ : فهي أن يقع لك الحديث عن شيخ مسلم فيه - مثلا - عاليا ، بعدد أقل من العدد الذي يقع لك به ذلك الحديث عن ذلك الشيخ إذا رويته عن مسلم عنه‏ . ‏

وأما البدل‏ : فمثل أن يقع لك هذا العلو عن شيخ غير شيخ مسلم ، [ ص: 259 ] هو مثل شيخ مسلم في ذلك الحديث‏ . ‏

وقد يرد البدل إلى الموافقة ، فيقال فيما ذكرناه‏ إنه موافقة عالية في شيخ شيخ مسلم ، ولو لم يكن ذلك عاليا فهو أيضا موافقة ، وبدل ، لكن لا يطلق عليه اسم الموافقة ، والبدل لعدم الالتفات إليه‏ . ‏

وأما المساواة : فهي - في أعصارنا - أن يقل العدد في إسنادك لا إلى شيخ مسلم ، وأمثاله ، ولا إلى شيخ شيخه ، بل إلى من هو أبعد من ذلك كالصحابي ، أو من قاربه ، وربما كان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحيث يقع بينك وبين الصحابي - مثلا - من العدد مثل ما وقع من العدد بين مسلم ، وبين ذلك الصحابي ، فتكون بذلك مساويا لمسلم مثلا في قرب الإسناد وعدد رجاله‏ . ‏

وأما المصافحة‏ : فهي أن تقع هذه المساواة التي وصفناها لشيخك لا لك ، فيقع ذلك لك مصافحة ، إذ تكون كأنك لقيت مسلما في ذلك الحديث وصافحته به لكونك قد لقيت شيخك المساوي لمسلم‏ . ‏

فإن كانت المساواة لشيخ شيخك كانت المصافحة لشيخك ، فتقول‏ : كأن شيخي سمع مسلما وصافحه‏ . ‏

وإن كانت المساواة لشيخ شيخ شيخك ، فالمصافحة لشيخ شيخك ، فتقول فيها‏ : كأن شيخ شيخي سمع مسلما ، وصافحه‏ . ‏ ولك أن لا تذكر لك في ذلك نسبة ، بل تقول‏ : كأن فلانا سمعه من مسلم ، من غير أن تقول فيه‏ ( ‏شيخي‏ ) ، أو ( ‏شيخ شيخي‏ ) ‏‏ . ‏

ثم لا يخفى على المتأمل‏ : أن في المساواة ، والمصافحة الواقعتين لك [ ص: 260 ] لا يلتقي إسنادك ، وإسناد مسلم - أو نحوه - إلا بعيدا عن شيخ مسلم ، فيلتقيان في الصحابي ، أو قريبا منه‏ ، فإن كانت المصافحة التي تذكرها ليست لك ، بل لمن فوقك من رجال إسنادك ، أمكن التقاء الإسنادين فيها في شيخ مسلم ، أو أشباهه ، وداخلت المصافحة حينئذ الموافقة ، فإن معنى الموافقة راجع إلى مساواة ومصافحة مخصوصة ، إذ حاصلها‏ : أن بعض من تقدم من رواة إسنادك العالي ساوى أو صافح مسلما ، أو البخاري ، لكونه سمع ممن سمع من شيخهما ، مع تأخر طبقته عن طبقتهما‏ . ‏

ويوجد في كثير من العوالي المخرجة لمن تكلم أولا في هذا النوع ، وطبقتهم المصافحات مع الموافقات ، والأبدال لما ذكرناه‏ . ‏

ثم اعلم‏ أن هذا النوع من العلو علو تابع لنزول ، إذ لولا نزول ذلك الإمام في إسناده لم تعل أنت في إسنادك‏ . ‏

وكنت قد قرأت بمرو على شيخنا المكثر ‏أبي المظفر عبد الرحيم بن الحافظ‏ المصنف ‏أبي سعد السمعاني‏ رحمهما الله ، في أربعي‏ ‏أبي البركات الفراوي‏ حديثا ادعى فيه أنه كأنه سمعه هو أو شيخه من ‏البخاري‏ ، فقال الشيخ ‏أبو المظفر : " ليس لك بعال ، ولكنه ‏للبخاري‏ نازل‏ " . ‏ وهذا حسن لطيف ، يخدش وجه هذا النوع من العلو ، والله أعلم‏‏‏‏ . ‏

[ ص: 261 ] الرابع‏ : من أنواع العلو : العلو المستفاد من تقدم وفاة الراوي‏ : مثاله ‏ما أرويه عن شيخ ، أخبرني به عن واحد ، عن البيهقي الحافظ ، عن الحاكم أبي عبد الله الحافظ‏ أعلى من روايتي لذلك ‏عن شيخ ، أخبرني به عن واحد ، عن أبي بكر بن خلف ، عن الحاكم‏ ، وإن تساوى الإسنادان في العدد ، لتقدم وفاة البيهقي على وفاة ابن خلف ; لأن‏ ‏البيهقي‏ مات سنة ثمان وخمسين وأربعمائة ، ومات ‏ابن خلف‏ سنة سبع وثمانين وأربعمائة‏ . ‏

روينا عن ‏أبي يعلى الخليل بن عبد الله الخليلي‏ الحافظ رحمه الله ، قال‏ : " قد يكون الإسناد يعلو على غيره بتقدم موت راويه ، وإن كانا متساويين في العدد‏ " . ‏ ومثل ذلك من حديث نفسه بمثل ما ذكرناه‏ . ‏

ثم إن هذا كلام في العلو المنبني على تقدم الوفاة ، المستفاد من نسبة شيخ إلى شيخ ، وقياس راو براو‏ . ‏

أما العلو المستفاد من مجرد تقدم وفاة شيخك من غير نظر إلى قياسه براو آخر ، فقد حده بعض أهل هذا الشأن بخمسين سنة . ‏ [ ص: 262 ] وذلك ما رويناه عن أبي علي‏ الحافظ النيسابوري قال‏ : سمعت ‏أحمد بن عمير الدمشقي‏ - وكان من أركان الحديث - يقول‏ : إسناد خمسين سنة من موت الشيخ إسناد علو‏ ، وفيما نروي عن ‏أبي عبد الله بن منده الحافظ‏ ، قال‏ : " إذا مر على الإسناد ثلاثون سنة فهو عال‏ " . ‏ وهذا أوسع من الأول ، والله أعلم‏‏‏‏ . ‏

الخامس‏ : العلو المستفاد من تقدم السماع‏ . ‏

أنبئنا عن محمد بن ناصر الحافظ ، عن محمد بن طاهر الحافظ ، قال‏ : " من العلو تقدم السماع‏ " . ‏

قلت‏ : وكثير من هذا يدخل في النوع المذكور قبله ، وفيه ما لا يدخل في ذلك ، بل يمتاز عنه‏ . ‏ مثل أن يسمع شخصان من شيخ واحد ، وسماع أحدهما من ستين سنة مثلا ، وسماع الآخر من أربعين سنة . ‏ فإذا تساوى السند إليهما في العدد‏ ، فالإسناد إلى الأول الذي تقدم سماعه أعلى‏ . ‏

فهذه أنواع العلو على الاستقصاء والإيضاح الشافي ، ولله سبحانه وتعالى الحمد كله‏ . ‏

[ ص: 263 ] وأما ما رويناه عن ‏الحافظ أبي الطاهر السلفي‏ - رحمه الله - من قوله في أبيات له‏ :


بل علو الحديث بين أولي الحفـ ـظ والإتقان صحة الإسناد



وما رويناه عن‏ ‏الوزير نظام الملك من قوله : " ‏عندي أن الحديث العالي ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن بلغت رواته مائة‏ " ، فهذا ونحوه ليس من قبيل العلو المتعارف إطلاقه بين أهل الحديث ، وإنما هو علو من حيث المعنى فحسب ، والله أعلم‏‏‏‏ . ‏

التالي السابق


الخدمات العلمية