صفحة جزء
[ ص: 390 ] فصل

اختلاف البائع والمشتري

اختلفا في الثمن أو المبيع فأيهما أقام البينة فهو أولى ، وإن أقاما البينة فالمثبتة للزيادة أولى ، فإن لم تكن لهما بينة يقال للبائع : إما أن تسلم ما ادعاه المشتري من المبيع وإلا فسخنا البيع; ويقال للمشتري : إما أن تسلم ما ادعاه البائع من الثمن وإلا فسخنا البيع ، فإن لم يتراضيا يتحالفان ويفسخ البيع ويبدأ بيمين البائع ولو كان البيع مقايضة بدأ بأيهما شاء; ومن نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه ، وإن اختلفا في الأجل أو شرط الخيار ، أو استيفاء بعض الثمن لم يتحالفا ، والقول قول المنكر ، وإن اختلفا بعد هلاك المبيع لم يتحالفا ، والقول قول المشتري ، وإن اختلفا بعد هلاك بعض المبيع لم يتحالفا إلا أن يرضى البائع بترك حصة الهالك ، وإن اختلفا في الإجارة قبل استيفاء شيء من المنفعة في البدل أو في المبدل يتحالفان ويترادان; وإن اختلفا بعد استيفاء جميع المنفعة لم يتحالفا والقول للمستأجر; وإن اختلفا بعد استيفاء بعض المنافع يتحالفان ، ويفسخ العقد فيما بقي ، والقول فيما مضى قول المستأجر; وإن اختلفا بعد الإقالة تحالفا وعاد البيع; وإن اختلفا في المهر فأيهما أقام البينة قبلت ، وإن أقاما فبينة المرأة ، فإن لم يكن لهما بينة تحالفا فأيهما نكل قضي عليه ، وإذا تحالفا يحكم مهر المثل ، فإن كان مثل ما قالت أو أكثر قضي بقولها ، وإن كان مثل ما قال أو أقل قضي بقوله ، وإن كان أقل مما قالت وأكثر مما قال قضي بمهر المثل ، وإناختلفا في متاع البيت فما يصلح للنساء فللمرأة ، وما يصلح للرجال فللرجل ; وإن مات أحدهما واختلفت ورثته مع الآخر ، فما يصلح لهما فللباقي ، وإن اختلفا في قدر الكتابة لم يتحالفا .


فصل

( اختلفا في الثمن أو المبيع فأيهما أقام البينة فهو أولى ) لأن كل واحد منهما مدع وقد ترجحت دعواه بالبينة .

( وإن أقاما البينة فالمثبتة للزيادة أولى ) لأن البينات للإثبات ، فمهما كانت أكثر إثباتا كانت أقوى فتترجح على الأخرى ، وإن كان الاختلاف في الثمن والبيع جميعا فبينة البائع في الثمن أولى ؛ لأنها أكثر إثباتا ، وبينة المشتري في المبيع أولى ؛ لأنها أكثر إثباتا .

( فإن لم تكن لهما بينة يقال للبائع : إما أن تسلم ما ادعاه المشتري من المبيع وإلا فسخنا البيع; ويقال للمشتري : إما أن تسلم ما ادعاه البائع من الثمن وإلا فسخنا البيع ) لأنهما قد لا يختاران الفسخ ، فإذا علما بذلك تراضيا ، فترتفع المنازعة وهو المقصود .

( فإن لم يتراضيا يتحالفان ويفسخ البيع ) ويحلف الحاكم كل واحد منهما على دعوى صاحبه . قال - عليه الصلاة والسلام - : " إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا " فيحلف البائع بالله ما باعه بألف كما يدعيه المشتري ، ويحلف المشتري بالله ما اشتراه بألفين كما ادعاه البائع ، فإذا تحالفا قال لهما القاضي : ما تريدان ؟ فإن لم يطلبا الفسخ تركهما حتى يصطلحا على شيء ، وإن طلبا الفسخ أو أحدهما فسخ ، لأنه لما لم يتعين الثمن ولا المبيع صار مجهولا فيفسخ قطعا للمنازعة ، ولا ينفسخ بنفوس التحالف حتى يتفاسخا أو يفسخ القاضي .

قال : ( ويبدأ بيمين البائع ) في قول أبي يوسف الأول وهو رواية عن أبي حنيفة . قال عليه [ ص: 391 ] الصلاة والسلام : " إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع " وأقل فائدته تقديم قوله . وقوله الآخر وهو قول محمد ، ورواية عن أبي حنيفة يبدأ بيمين المشتري ، لأن البائع يطالبه بتسليم الثمن أولا وهو ينكر ، وهو لا يطالب البائع بتسليم المبيع للحال .

قال : ( ولو كان البيع مقايضة ) أو صرفا . ( بدأ بأيهما شاء ) لاستوائهما في الإنكار; ولو اختلفا في الثمن والمبيع جميعا يبدأ بيمين من بدأ الدعوى ؛ لأنهما استويا في الإنكار فيترجح بالبداية وإن ادعيا معا يبدأ القاضي بأيهما شاء ، وإن شاء أقرع بينهما; ولو اختلفا في جنس العقد فقال أحدهما بيعا وقال الآخر هبة ، أو في جنس الثمن فقال أحدهما دراهم ، والآخر دنانير يتحالفان عند محمد وهو المختار ؛ لأن وصف الثمن وجنسه بمنزلة القدر ؛ لأن الثمن دين ، وإنما يعرف بجنسه ووصفه ، ولا وجود له بدونهما ، ولا كذلك الأجل ، فإنه ليس بوصف ؛ لأن الثمن يبقى بعد مضيه وقالا : لا يتحالفان ؛ لأن نص التحالف ورد على خلاف القياس فيقتصر على مورده وهو الاختلاف في المبيع أو الثمن ، وجوابه ما مر .

قال : ( ومن نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه ) لما تقدم في القضاء بالنكول .

قال : ( وإن اختلفا في الأجل أو شرط الخيار ، أو استيفاء بعض الثمن لم يتحالفا ) لأنه اختلاف في غير المعقود عليه ؛ لأن العقد لا يختل بعدمه ، بخلاف الاختلاف في القدر ؛ لأنه لا بقاء للعقد بدونه .

( والقول قول المنكر ) لأنه ينكر الشرط فكان القول قوله .

قال : ( وإن اختلفا بعد هلاك المبيع لم يتحالفا ) عند أبي حنيفة وأبي يوسف .

( والقول قول المشتري ) لأنه منكر . وقال محمد : يتحالفان ويفسخ البيع على قيمة الهالك [ ص: 392 ] وعلى هذا إذا خرج المبيع عن ملك المشتري أو صار بحال يمنع الفسخ بأن ازداد زيادة متصلة أو منفصلة . لمحمد أن كل واحد منهما يدعي عقدا غير ما يدعيه الآخر وصاحبه ينكر فيتحالفان كما إذا كانت قائمة ؛ لأن القيمة بمنزلة العين عند عدمها . ولهما أن اليمين حجة المنكر حقيقة بالنص والبائع ليس بمنكر ؛ لأن المشتري ليس بمدع ؛ لأن السلعة سلمت له ملكا ويدا ، وإذا لم يكن البائع منكرا لا يمين عليه ، والشرع ورد به حال قيام العين لفائدة الفسخ ، ولا فسخ بعدها لعدم بقاء العقد ، وأيهما أقام البينة قضى بها ، وإن أقاما فبينة البائع ، وإن ماتا أو أحدهما واختلفت الورثة فلا تحالف ؛ لأنهما ليسا متبايعين فلا يتناولهما النص .

قال : ( وإن اختلفا بعد هلاك بعض المبيع لم يتحالفا إلا أن يرضى البائع بترك حصة الهالك ) وقال أبو يوسف : يتحالفان في الحي وينفسخ البيع فيه ، والقول في قيمة الهالك قول المشتري . وقال محمد : يتحالفان عليهما وينفسخ البيع في الحي وقيمة الهالك وعلى هذا إذا انتقص أو جنى عليه المشتري أو باع المشتري أحد العبدين . لمحمد أن هلاك السلعة لا يمنع التحالف عنده لما مر ، فهلاك البعض أولى . ولأبي يوسف أن المبيع إذا كان قائما يتحالفان ، وإن كان هالكا لا يتحالفان ، فإذا هلك نصفه وبقي نصفه يعطى كل نصف حكمه .

ولأبي حنيفة أن النص ورد حال قيام السلعة ، بخلاف القياس فلا يقاس عليه غيره ، إلا أنه إذا رضي بترك حصة الهالك يصير الهالك كأن لم يكن وكأن العقد لم يرد إلا على الباقي; ومن المشايخ من قال على قوله أبي حنيفة يأخذ من ثمن الهالك ما أقر به المشتري دون الزيادة . وذكر محمد في الجامع قول أبي يوسف مع قوله وهو الصحيح ، فيحلف المشتري بالله ما اشتريتهما بألفين ، فإن نكل لزمه ، وإن حلف يحلف البائع ما بعتهما بألف ، فإن حلف يفسد العقد في القائم ويرد المشتري حصة الهالك من الثمن الذي أقر به ، ويقسم الثمن على قدر قيمتهما يوم القبض; وإن اختلفا في قيمة الهالك يوم القبض فالقول للبائع ؛ لأنه ينكر زيادة السقوط بعد اتفاقهما على الثمن ، وأيهما أقام البينة قبلت ، وإن أقاما فبينة البائع ؛ لأنها أكثر إثباتا ؛ لأنها تثبت الزيادة في قيمة الهالك .

قال : ( وإن اختلفا في الإجارة قبل استيفاء شيء من المنفعة في البدل أو في المبدل يتحالفان ويترادان ) لأن الإجارة قبل استيفاء المنفعة نظير المبيع قبل القبض; فإن اختلفا في الأجرة بدئ بيمين المستأجر ؛ لأنه منكر ، وإن اختلفا في المنفعة بدئ بيمين المؤجر ، وأيهما أقام البينة قبلت; [ ص: 393 ] وإن أقاما فبينة المستأجر إن كان الاختلاف في المنفعة ، وإن كان في الأجر فبينة الأجر ، وإن كان فيهما قضى بالبينتين ، كما إذا قال أحدهما شهرا بعشرة ، والآخر شهرين بخمسة يقضي بشهرين بعشر .

( وإن اختلفا بعد استيفاء جميع المنفعة لم يتحالفا ) بالإجماع .

( والقول للمستأجر ) لأنه منكر ، وهذا على قولهما ظاهر . وأما على قول محمد فهو إنما يفسخ في الهالك فيرد القيمة ، والهالك هنا لا قيمة له على تقدير الفسخ ؛ لأن المنافع لا تتقوم بنفسها بل بالعقد ، فلو تحالفا وفسخ العقد تبين أنه لا عقد فيرجع على موضوعه بالنقض .

( وإن اختلفا بعد استيفاء بعض المنافع يتحالفان ، ويفسخ العقد فيه بقي والقول فيه مضى قول المستأجر ) ؛ لأن الإجارة عندنا تنعقد شيئا فشيئا ، فما مضى صار كالهالك وما بقي لم ينعقد ، بخلاف البيع فإنه ينعقد جملة واحدة .

قال : ( وإن اختلفا بعد الإقالة تحالفا وعاد البيع ) ومعناه : اختلفا فبل القبض; أما إذا قبض البائع المبيع بعد الإقالة ثم اختلفا لم يتحالفا عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد ، وهذا على قول من يقول : إن الإقالة بيع لا إشكال إنما الإشكال على أنها فسخ ، إلا أنا نقول إنما أثبتنا التحالف فيها قبل القبض ؛ لأن القياس يوافقه ؛ لأن البائع يدعي زيادة الثمن ، والمشتري ينكره ، والمشتري يدعي وجوب تسليم المبيع بما نقد والبائع ينكره ، فكل واحد منهما منكر فيحلف ، فكان التحالف على مقتضى القياس قبل القبض ، فأثبتنا التحالف قبل القبض بالقياس لا بالنص ولا كذلك بعد القبض ، فإنه على خلاف القياس ؛ لأن المبيع يسلم للمشتري ، فلا يدعي شيئا فلا يكون البائع منكرا .

قال : ( وإن اختلفا في المهر فأيهما أقام البينة قبلت ، وإن أقاما فبينة المرأة ) لأنها أكثر إثباتا .

( فإن لم يكن لهما بينة تحالفا ، فأيهما نكل قضى عليه; وإذا تحالفا ) لا يفسخ النكاح ؛ لأن أثر التحالف في انعدام التسمية ، وذلك لا يمنع صحة النكاح بدليل صحته بدون التسمية ، بخلاف البيع على ما عرف . لكن

[ ص: 394 ] ( يحكم مهر المثل ، فإن كان مثل ما قالت أو أكثر قضى بقولها ) لأن الظاهر شاهد لها .

( وإن كان مثل ما قال أو أقل قضى بقوله ، وإن كان أقل مما قالت وأكثر مما قال قضى بمهر المثل ) ؛ لأنه لم تثبت الزيادة على مهر المثل نظرا إلى يمينه ، ولا الحطيطة منه نظرا إلى يمينها ، فإذا سقطت التسمية بالتحالف اعتبر مهر المثل كما إذا لم توجد التسمية حقيقة ، ويبدأ بيمين الزوج كما في المشتري ؛ لأنه منكر ، وإن طلقها قبل الدخول بها ثم اختلفا فالقول قوله في نصف المهر; وذكر في الجامع الكبير بحكم متعة مثلها وهو قياس قولهما . وقال أبو يوسف : القول قول الزوج قبل الطلاق وبعده ، إلا أن يأتي بشيء يسير يكذبه الظاهر ، وهو ما لا يصح مهرا لها ، وقيل ما دون العشرة ، والأول أحسن . ولهما أن الظاهر يشهد من يشهد له مهر المثل نظرا إلى المعتاد وإلى إنكار الأولياء وتعبيرهم بدون ذلك ، والقول في الدعوى قول من يشهد له الظاهر فيصار إليه .

قال : ( وإن اختلفا في متاع البيت فما يصلح للنساء ) كالمقنعة والدولاب وأشباهه . ( فللمرأة ) بشهادة الظاهر .

( وما يصلح للرجال ) كالعمامة والقلنسوة ونحوه . ( فللرجل ) وما يصلح لهما كالأواني والبسط ونحوها فللرجل أيضا ؛ لأن المرأة والبيت في يد الرجل ، فكانت اليد شاهدة بالملك ، لأن الملك باليد لا أنه عارضه ما هو أقوى منه وهو ما يختص بها .

( وإن مات أحدهما واختلفت ورثته مع الآخر فما يصلح لهما فللباقي ) ؛ لأن اليد للحي لا للميت .

وقال محمد : ما يصلح لهما لورثة الزوج بعد موته لقيامهم مقامه ، وسواء اختلفا حالة قيام النكاح أو بعد الفرقة . وقال أبو يوسف : يدفع إلى المرأة ما يجهز به مثلها والباقي للزوج مع يمينه ؛ لأن الظاهر أنها تأتي بالجهاز وهذا أقوى من ظاهر الزوج فيبطله ، وما وراءه لا يعارض يد [ ص: 539 ] الزوج فيكون له ، والطلاق والموت سواء ؛ لأن الورثة تقوم مقامه ، وإن كان أحد الزوجين مملوكا فالكل للحر حالة الحياة ؛ لأن يده أقوى ، وللحي بعد الموت ؛ لأنه لا معارض ليده . وقال أبو يوسف ومحمد : المأذون والمكاتب بمنزلة الحر ؛ لأن لهما يدا في الخصومات وغيرها .

قال : ( وإن اختلفا في قدر الكتابة لم يتحالفا ) وقالا : يتحالفان وتفسخ الكتابة لأنه عقد معاوضة ، والمولى يدعي بدلا زائدا والمكاتب ينكر ، والمكاتب يدعي استحقاق العبد عند أداء ما يدعيه من القدر والمولى ينكره فيتحالفان كالبيع .

ولأبي حنيفة أن البدل مقابل في الحال بفك الحجر وهو سالم للعبد ، وإنما يصير مقابلا للعتق عند الأداء ، فكان اختلافا في قدر البدل لا غير ، فلا يتحالفان ، ويكون القول للمكاتب لأنه منكر للزيادة .

فصل في دعوى النسب

اعلم أن الدعوى ثلاثة : دعوة استيلاد ، ودعوة تحرير وهي دعوة الملك ودعوة شبهة الملك .

فالأولى أن يدعي نسب ولد علق في ملكه يقينا كما إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر ، ويصح في الملك وغير الملك كما إذا باعه ، ويستند إلى وقت العلوق احتيالا لثبوت النسب تصحيحا لدعواه ، ويوجب فسخ ما جرى من العقود كبيعه أم الولد إن كان الولد محلا للنسب ، ويجعل معترفا بالوطء من وقت العلوق ، وأمومية الولد لا تتبع النسب ؛ لأن المقصود ثبوت النسب لا أمومية الولد وهو تبع له ، ألا ترى أنها تضاف إليه فيقال أم ولده ، وتستفيد العتق من جهته ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " أعتقها ولدها " ولهذا ثبتت له حقيقة الحرية ولها حق الحرية .

والثانية أن يدعي نسب ولد علق في غير ملكه فيصح في الملك خاصة ، ولا يجب فسخ العقد ويعتق إن أمكن وإلا فلا .

والثالثة أن يدعي ولد جارية ولده ، فيصح بناء على ولايته على ولده من وقت العلوق إلى وقت الدعوى ، شرط صحة هذه الدعوى قيام ولاية تملك الجارية من وقت العلوق إلى وقت الدعوة ؛ لأنه يملكها بالاستيلاد مقتضى للوطء السابق ، ثم الأولى أولى لأنها تستند إلى وقت [ ص: 396 ] العلوق ، والثانية تقتصر على الحال ، والثانية أولى من الثالثة ؛ لأن التحرير متى صح من الابن بطلت ولاية الأب للتمليك لفوات الشرط .

جئنا إلى مسائل الكتاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية