صفحة جزء
[ ص: 145 ] الباب الرابع

في النزاع

إذا قال المأمور ببيع الرهن من قبل السلطان : سلمت الثمن للمرتهن ، وجحد المرتهن ضمن المأمور ; لأن الأصل عدم القبض . ولو قال المأمور : بعت بمائة ، وسلمتها له ، وقال المرتهن : باع بخمسين ، وقبضتها ضمن المأمور خمسين بإقراره كمأمور يدفع مائة فيقول لم أقبض إلا خمسين ضمن الخمسين . قال التونسي : إذا غرم المأمور خمسين لا يكون المرتهن أحق بها ; لأنها ليست رهنا ، ولو قال : لا أدري بكم باع إلا أنه لم يقبض إلا خمسين ، وحلف ، وأغرم العدل الخمسين الأخرى لكان أحق بها من الغرماء . قال ابن يونس : ولو كان المرتهن هو الآمر بالبيع لصدق المأمور مع يمينه في دفعه للمرتهن ; لأن الوكيل على البيع مصدق في دفع الثمن للآمر ، وقال أشهب : لا يضمن المأمور الخمسين الباقية للمرتهن لاعترافه أنه باع بخمسين ، بل الراهن . قال اللخمي : إنما يصدق العدل إذا لم يأت بما لا يشبه .

فرع

في الكتاب : إن قال الراهن : لم يحل الأجل صدق ; لأن الأصل عدم حلوله إذا أتى بما يشبه ، وإلا فلا . وإذا قال المبتاع بعد فوت السلعة عنده الثمن مؤجل ، وقال البائع حال صدق المبتاع في الأجل القريب دون البعيد . قاله مالك . وقال ابن القاسم : لا يصدق في الأجل ، ويؤخذ بما أقر به حالا ; لأن الأصل عدم التأجيل إلا أن يقر بأكثر مما ادعاه البائع ، فلا يكون للبائع إلا ما ادعى . قال التونسي : اختلافهم بعد فوات المبيع كاختلافهم في قلة الثمن ، يصدق المطلوب . وكذلك ينبغي إذا ادعى البائع الحلول أن يصدق المشتري بعد الفوت ، وإن رأي ابن القاسم [ ص: 146 ] أن الحلول هو الغالب في البياعات ففيه نظر ، بل إن كان للسلعة عادة اتبعت ولا يمكن الاختلاف حينئذ . قال ابن يونس قال أشهب : يصدق المرتهن في حلول الأجل كما إذا قال حالا .

فرع

في الكتاب : دينك مائتان رهنك بإحداهما وقضى إحداهما وقال : هي التي بالرهن ، وقلت : الأخرى قسمت بين المائتين ، قام الغرماء أم لا . قال ابن يونس : يريد بعد التحالف إذا ادعى البيان . وقال أشهب : يصدق المقتضي لأنه مدعى عليه ، وقيل : إن كانتا مؤجلتين صدق الدافع لأنه يقول إنما قصدت تعجيل المائة لأخذ الرهن ، بخلاف الحمالة تقسم على الحقين حالين أو مؤجلين لأنه ليس نسبة المقتضي إلى أحدهما أولى من الآخر . وفي الموازية : إنما تصح القسمة بين الحقين إذا لم يحلا أو حلا ، وإلا صدق معين الحال مع يمينه ، كان المرتهن أو الراهن . فإن ادعى كل واحد البيان قسم بعد أيمانهما أو نكولهما ، وإلا قدم الحالف . وقال ( ش ) يصدق الراهن مع يمينه لأنه أخبر ببينته .

قاعدة : المدعي من كان قوله على خلاف عرف أو أصل كان طالبا أو مطلوبا ، فالطالب من زيد دينا مدع لأن الأصل براءة ذمته ، والمطلوب برد الوديعة وقد قبضها ببينة وهو يقول رددتها بغير بينة مدع وإن كان مطلوبا ؛ لأن " العرف " يقتضي أن من قبض ببينة لا يرد إلا ببينة . والمطالب بتركة الأيتام من الأوصياء وهو يدعي إنفاقها عليهم في مدة لم تشهد العادة بمثلها - مدع ؛ لأنه على خلاف العرف . والمدعى عليه من كان قوله على وفق أصل أو عرف ، وهو مقابل من تقدم في المثل السابقة . وهذه القاعدة أصلها قوله عليه السلام " البينة على من ادعى واليمين على من أنكر " فهذا ضابط قوله عليه السلام " من ادعى " من هو ، وعلى هذه [ ص: 147 ] القاعدة تخرج مسائل هذا الباب . ومن الفقهاء من يقول المدعى عليه هو أقرب المتداعيين سببا ، والمدعي أبعدهما ، وهو معنى ما تقدم .

فرع

في الكتاب : إذا اختلفا في مبلغ الدين فالرهن شاهد للمرتهن خلافا للأئمة .

لنا : أن الله جعله بدلا من الشاهد بقوله ( ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة ) والكاتب الشاهد عن أئمة التفسير ، وبدل الشيء يقوم مقامه ، فيقوم الرهن مقام الشاهد فيشهد وهو المطلوب .

احتجوا : بأن الأصل براءة ذمة الراهن .

جوابه : أن هذا الأصل معارض بظاهر حال الراهن من وجهين ، أحدهما من جهة البدلية كما تقدم ، والثاني من جهة الغالب في الناس أنهم لا يتوثقون إلا بما يساوي الحق .

قاعدة : البدل في الشريعة خمسة أقسام : يبدل الفعل من الفعل في محله وذاته كمسح الجبيرة مع الغسل . ومن خصائص هذا القسم المساواة في المحل ; وبدل الفعل من الفعل في المشروعية كبدل الجمعة من الظهر ، ومن خصائص هذا القسم أن البدل أفضل ولا يعدل إلى المبدل إلا بعد تعذر البدل ، بخلاف جميع الأقسام في هاتين الخاصيتين ; وبدل في بعض الأحكام كالتيمم مع الوضوء يباح به بعض ما يباح بالوضوء ، وترتفع الجنابة بالماء دون التيمم ، وإنما تباح به صلاة وتباح بالوضوء صلوات ; وبدل في كل الأحكام كخصال الكفارة فإن جميع ما يترتب على هذه الخصلة يترتب على الأخرى باعتبار السبب الموجب ; وبدل في بعض الأحوال كالعزم بدل من تعجيل الصلاة ، وحالات الصلاة التعجيل والتأخير والتوسط . فظهر أن البدل لا يلزم أن يقوم مقام المبدل مطلقا ، بل في الوجه الذي جعل بدلا فيه ، فحينئذ لا يتم قول الأصحاب إن الرهن إذا جعل بدل الشاهد يقوم مقامه في الشهادة ، بل إنما يلزم ذلك إذا كان البدل يقوم مقام المبدل مطلقا حتى يندرج هذا الوجه في العموم . فللخصم أن يقوم مقامه في بعض [ ص: 148 ] أحكامه ، وهو التوثق ، ولم تتعين الشهادة ; لأن البدل أعم كما تقدم . ولا يتم أيضا قول الفقهاء البدل يقوم مقام المبدل مطلقا لما قد تقرر ، بل في الوجه الذي جعل بدلا فيه . فهذه القاعدة لا بد من تحقيقها في المقام فعليها مدار بحثها مع الفرق ، وهي عشرة .

تفريع : في الكتاب : إن كانت قيمته يوم الحكم لا يوم الرهن مثل دعوى المرتهن فأكثر صدق مع يمينه . وإن تصادقا أن قيمته يوم التراهن أقل من ذلك ، فزاد سوقه لم ينظر إلى قيمته الآن ; لأن الشاهد إنما يعتبر وجوده وقت الشهادة ، ويصدق الراهن فيما زاد على قيمته الآن مع يمينه على دعواه ، ويبرأ من الزيادة ، وإن قلت رهنت في مائة دينار ، وقال : هي لك علي ، وإنما رهنت في خمسين صدقت في قيمة الرهن ، فإن كانت خمسين له تعجيلها ، وأخذ رهنه ; لأن الأصل عدم ارتهان في الزائد ، فإن ضاع عندك ، واختلفتما في قيمته تواصفتماه ، وتصدق في الصفة مع يمينك ; لأنك غارم ثم تقوم تلك الصفة ، فإن اختلفتما صدقت في مبلغ قيمة تلك الصفة .

في التنبيهات : يريد بتصديقك في الصفة إذا ادعيت ضياعه ثم يختلف في قيامه ، ينظر للقيمة يوم الحكم عند ابن القاسم ، وفي ضياعه يوم القبض ، وقال غيره : إنما ينظر في الحالين يوم القبض ; لأنه يوم الرضا بالتوثق ، وقد تختلف الأسواق بعد هذا ، وفي الموازية : متى ثبت هلاكه ببينة ، وهو مما لا يضمن لا يشهد لك ، ولا يلزم الراهن إلا ما أقر به ; لأنه لا يشهد إلا عند قيامه ، وظاهر قوله في الموازية وغيرها أنه إنما يشهد على نفسه لا على الذمة ، وأن حقه إنما يكون في عين الرهن ، وهو خلاف قول عبد الوهاب ، وتأويل بعضهم على الكتاب أنه شاهد على الذمة يشهد في قيامه ، وتلفه كإقراره . واختلف هل يلزم الراهن حلف أم لا ؟ والحلف أصح ، ولم يختلف في أيمانهما معا إذا كانت قيمته دون ما ادعاه ، وفوق ما أقر به الراهن ، وسكت في الكتاب عن يمين المرتهن ، وبينه مالك في الموطأ ، فقال : يحلف المرتهن على ما ادعى من دين ، ويخير الراهن بين إعطاء ذلك وأخذ رهنه ، أو يحلف وتبطل عنه الزيادة ، فإن نكل لزمه قول المرتهن . وقال محمد : يخير المرتهن بين حلفه على دعواه ، وعلى قيمة الرهن ، وقيل : إنما يحلف المرتهن على الرهن إذا شهدت [ ص: 149 ] له على غيره : كما لو ادعى عشرين ، وشهد له شاهد بخمسة عشر ، فإنه يحلف مع شاهده . قال صاحب النكت : وفساد هذا القول أنه لو حلف على عشرين ، فوجب له أخذ خمسة عشر ، ويجبره المطلوب على الخمسة الزائدة ، فنكل المطلوب أليس ترد اليمين على الراهن فيصير يحلف مرتين على دعوى واحدة ، وهو غير مستقيم . وقيل : يحلف على جميع دعواه ، وإن كانت قيمة الرهن أقل ، وإنما يصدق المرتهن في قيمة الرهن يوم الحكم لا يوم الرهن ; لأن الرهن بيد المرتهن كالشاهد ، وإنما قام بشهادته عند الحكم ، فوجب النظر إليها يوم الحاجة ، فأما إذا ضاع فيوم القبض ; لأنه كشاهد شهد ثم ذهب فينظر إلى شهادته حين أدائها .

قال التونسي : إنما يكون شاهدا إذا لم يفت ، فإن فات وهو لا ضمان فيه على المرتهن لم يشهد ; لأنه إنما يشهد على نفسه لا على ذمة الراهن . واختلف إذا كان على يدي عدل هل يكون شاهدا أم لا ، ففي الموازية : شهد على يدي المرتهن ، أو غيره ، ولو اختلفا في جنس الدين لشهد بما يبلغ قيمته كقوله : هو عندي بمائة دينار ، ويقول الراهن في مائة إردب قمحا قرضا ، وكانت أقل صدق المرتهن مع يمينه . فلو قال الراهن في مائة ، وقلت في مائة وخمسين ، والقيمة مائة ؛ حلف ، وقيل للراهن : ادفع مائة وخمسين ، وخذ رهنك ، أو احلف ، وابرأ .

وإن كان الدين مائة وعشرين بيدي المرتهن ، فحلف على مائة وخمسين ، وإن شاء حلف على مائة وعشرين ، وانفك ما زاد على القيمة . ولا سبيل للراهن على الرهن حتى يحلف على المائة والخمسين ، فإن حلفا جميعا لم يكن الرهن إلا في قيمته لتساويهما ، وكذلك إن نكلا جميعا لعدم المرجح لما زاد على القيمة .

وفي الموازية : له دين بكتاب لم يذكر فيه الرهن ، فقال : له عندي هذا الرهن بمائة أخرى غير المكتوبة ، وقال الراهن : بل بها ، فعن ابن القاسم يصدق الراهن ; لأنه لو قال : هو وديعة صدق ، وفيه خلاف عن ابن القاسم ، وقد قال : إذا وجد الرهن في التركة ، وقال الوارث : لا علم لي في كم رهن ، وهو يسوي خمسة ، وقال الراهن في دينار ؛ يصدق الراهن ، ولا يكون إقراره بالرهينة دليلا على أنه في قيمته . وإذا رهنته بحضرة بينة ثم قال المرتهن : جاءني الراهن بعد ذلك ، وأخذ مني غير الذي [ ص: 150 ] أعطيته بحضرة البينة والرهن يسوي ما قال - لم يصدق ولا يشهد الرهن له . وإذا هلك الرهن ببينة لم يشهد قيمته ; لأنه إنما يشهد على نفسه . وإذا ادعيت رد الرهن لم تصدق ، أخذته ببينة أم لا . وإذا دفعت الرهن وقمت بالدين فقال الراهن : دفعت إليه الدين - صدق الراهن مع يمينه ، وقيل : إن قام بالقرب صدق وإلا فلا ، قال : والأصوب تصديقه مطلقا ; لأن الظاهر من رد الوثيقة أخذ الدين . وعلى القول الثاني لو اختلفا في طول المدة صدق المرتهن مع يمينه ; لأن قيامه عليه كحلول الأجل ، قاله سحنون .

ولو قلت : رهنني بعشرة . وقال : بل بعته منك بعشرة ، قال أصبغ : صدق المرتهن إن أراد صاحبه بقوله : قبضت العشرة ثمن الثوب ، وقال الذي هو بيده : بل هو رهن عندي في العشرة التي دفعت إليك ; لأن الأصل عدم الشراء ، ولم يصدق الراهن أن الذي أخذ ثمن . فإن قال البائع : لم أنتقد ، وقال الآخر : دفعت إليك السلف فلا يصدق أحدهما ، وترد السلعة لصاحبها ; لأن أحدهما يدعي سلفا ، والآخر يدعي شغل ذمة ، والأصل عدمها فيحلف ويبرأ . وقال أصبغ : إذا قال رب الثوب : رهنته بخمسة وقال الذي هو في يديه : رهن عندي بعشرة صدق مدعي الرهن مع يمينه . وإن اختلفا هل هو رهن أو وديعة صدق ربه ; لأن الأصل براءة ذمته ولم يقر بدخوله في الضمان . وعن ابن القاسم : لو شرطت وضعه على يد أمين فادعى المرتهن ضياعه ، وصدقة الأمين وأنكرت وضعه على يد الأمين ، فإن كان الموضوع على يده عدلا فلا ضمان . وقال أصبغ : يضمن حتى تشهد البينة أنه دفعه للأمين ، والرهن يكون بما فيه إذا ضاع ولم يعرف له قيمة ولا صفة ; لأن الأصل عدم الغرم من الجهتين . وروى أشهب : يجعل من أدنى الرهون .

قال ابن يونس : إنما اعتبرت القيمة يوم الحكم ; لأنه يومئذ يستوجب بيعه للوفية ، وقال عبد الوهاب : لأن العادة جارية بمساواة الرهن الدين أو مقاربته يوم يقضى له ببيعه . وإذا كانت القيمة مثل دعوى المرتهن فأكثر - حلف وحده ، أو [ ص: 151 ] مثل دعوى الراهن - حلف وحده ; لأن يمين المرتهن لا ينفعه ، أو أكثر من قول الراهن وأقل من الآخر - فههنا يتحالفان ، ويبدأ المرتهن لرجحانه بالشهادة . قال محمد : ويقبل قول المرتهن في الصفة بعد الضياع وإن كانت يسيرة ، وعند أشهب : إلا أن يتبين كذبه لقلتها جدا . ولو كان الدين ألفا فجاء به فأخرج المرتهن رهنا يساوي مائة فقال الراهن : رهني يساوي ألفا صدق مع يمينه ; لأنه الأشبه ، فإذا حلف سقط عنه من الدين قيمة الرهن ، قاله أصبغ . وقال أشهب ، وابن القاسم : بل المرتهن ، وإن لم يسو إلا درهما كما لو قال : لم يرهني شيئا .

قال اللخمي : قال مالك : إذا هلك وتصادقا على الدين وهو عشرة وقال الراهن : القيمة عشرة ، وقال المرتهن : خمسة . صدق المرتهن ، وهذا يؤيد أن الرهن في أقل من الدين أو أكثر . وإنما كان قول المرتهن لموضع الحوز ، وقال ابن حبيب : ذلك إلا أن يأتي بما لا يشبه ، وقال أصبغ : يصدق الراهن بناء على أن الرهن شهد على الذمة . فإن اختلفا في القضاء صدق المرتهن إذا لم يسلم الرهن ، ويصدق الراهن إن طال ، واختلفت إذا قرب . وفي الجواهر : لا يشهد الرهن إلا على نفسه لا على ذمة الراهن . ولا يشهد ما هلك في ضمان الراهن ، وما تلف بيد المرتهن وضمنه شهدت قيمته . وما قامت بينة بهلاكه مما يغاب عليه لا يشهد على القول بسقوط الضمان ; لأنه لا يشهد على ذمة الراهن ، والذي على يد أمين يشهد عند محمد كما لو كان على يده ; لأنه وكيله ، وخالف أصبغ لأنه غير مرتهن عليه ، وتعتبر القيمة يوم الحكم إن كان باقيا وإلا فيوم القبض ، قاله ابن القاسم ، وعنه يوم الضياع ; لأنه يوم الضمان ، وعنه يوم الرهان ; لأنه يوم وضع اليد . قال صاحب الاستذكار : قال مالك : إذا اتفقا على الحق واختلفا في قيمة الرهن الهالك حلف المرتهن على صفته التي وصفها فتقوم ، فإن زادت القيمة على الدين رد الفضل ، أو نقصت أخذ الفضل ، أو ساوت تقاصا . قال : وهذا على أصله في ضمان ما يغاب عليه . ويرجع عند ( ش ) بجميع حقه مطلقا لعدم الضمان ، وعند ( ح ) يضمن بما فيه فلا تراد ولا تحالف .

التالي السابق


الخدمات العلمية