صفحة جزء
فرع

قال : إن ذبح الشاة وشواها فلك قيمتها ، وكذلك لو لم يشوها ، وقال ابن مسلمة : إذا لم يشوها فلك أخذها مذبوحة وما نقصها الذبح . قال التلمساني : وقيل يأخذ المذبوحة بغير شيء قاله مالك ؛ لأنه لزمته القيمة فلا يأخذ غيرها ولا يأخذ بعضها وبقيتها سلعة إلا باتفاقهما على أمر جائز ، ويمتنع تراضيهما بأخذها

[ ص: 20 ] لوجوب القيمة في الذمة ؛ لأنه معاوضة عن القيمة بلحم شاة ودراهم فهي مسألة مدعوجة ودرهم ، وهذا موضع اضطربت فيه الآراء واختلفت فيه المذاهب ، وصعبت المدارك ، وكثر التشنيع حتى قال بعض الشافعية : إذا طحن القمح وعملها خبزا فجاء ربها يأخذه وهو ملك الغاصب على زعمكم ، فللغاصب مقاتلة رب الحنطة ، فإن قتل رب الحنطة فشر قتيل ، لأنه صار محاربا عندكم ، وإن قتل الغاصب فشهيد لأنه قتل دون ماله ، وهذا عكس للحقائق ، وقلب للطرائق ، ولذلك قلنا في الحنطة تزرع أو تطحن أو البيض يحضن والمعادن تعمل آنية أو يصاغ حليا أو دراهم ، أو الساجة تشق وتعمل أبوابا ، أو التراب يعمله طينا : يتملكه الغاصب شرط تغير اسمه وإبطال معظم منفعته ، ثم لا يتصرف الغاصب في شيء من ذلك حتى يؤدي إلى المالك قيمته ، وهذا حكم السرقة ، ووافقنا ( ح ) وخالفنا ( ش ) وابن حنبل في ذلك كله ، وقالا : يرد ذلك وما نقص ، وهذا هو المنقول عن أبي حنيفة ، غير أني رأيتهم في كتبهم يستثنون من هذا الأصل ذبح الشاة ، ويوافقوننا في غيره ، ويقولون فيه بأخذ الشاة إذا ذبحت بغير شيء ، أو قيمتها يوم الغصب مع الأرش ، وفي الجواهر : قال عبد الملك : له أخذ الفضة المصاغة والثوب المصبوغ والمخيط ، كما قاله ( ش ) . لنا : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أضافه قوم من الأنصار في بيوتهم فقدموا له شاة مصلية فتناول منها لقمة فجعل يمضغها فلا يسيغها فقال - عليه السلام - : إن هذه الشاة لتخبرني أنها أخذت بغير حق ، فقالوا يا رسول الله : هي لجار لنا ونحن نرضيه من ثمنها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أطعموها الأسارى ) . ولولا أن الملك حصل لهم لأمر بردها إلى مالكها . قال ابن المديني : هذا الحديث مرسل وراويه عاصم بن كليب وهو ضعيف فيما ينفرد راويه . وقد أوردوا عليه أنه يحتمل أنه - عليه السلام - فعل ذلك نظرا ‌‌ [ ص: 21 ] للمالك ليلا تفسد الشاة عليه ، فرأى أن يشد بها خلة الأسارى ويعوضه من بيت المال ، ولو ملكها الذابح لما انتزعها - عليه السلام - منه للأسارى ، والجواب : أنا لا نسلم أن مالكها كان غائبا حتى ينظر الإمام في ماله ، والأصل : عدم الغيبة ، بل أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم بالإطعام دليل ملكهم ، وإلا كان - عليه السلام - يطعمها من قبل نفسه ، وأمره لهم مع أنهم مالكون : إما لأنهم لم يدفعوا الثمن بعد كما قال ( ح ) أو كانوا فقراء لا يملكون كما قال المالكية ، أو على وجه الكراهة ؛ لأنه لا خلاف أن أكلها مكروه ، للخلاف في انتقال الملك ، ويؤكد قولنا : أن الغاصب عندهم يضمن ما نقص ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتعرض لتقويمها ليعلم ما نقصت ، فدل ذلك على أن الصدقة بها كانت لما ذكرناه ، وبالقياس على استيلاد الأب لجارية ابنه ، وأحد الشريكين الجارية المشتركة بجامع إذهاب جل المنافع ، ولأن الخشبة إذا عملت أبوابا ذهب جل مقصودها ، وزالت تلك المالية ، وحدثت مالية أخرى ، كما أن مالية الفحم تجددت وعدمت مالية الخشبة ، وهذه المالية الحادثة منسوبة لفعل الغاصب ، فينسب الملك له إحالة للحكم على سببه ، كالاصطياد بكلب الغير ، والاحتطاب بفأسه ، وكالموت بعد الجراحة يحال على الجراحة ، واتفقنا أنه لو علف دوابه الطعام فسمنت انتقل الملك في الطعام ، وكذلك هاهنا ، ثم إن نفرض الكلام في تحضين البيض وصار دجاجا ، والحنطة قصيلا ، والنواة نخلة ، فقد استهلكت الأعيان الأول ، وحدثت أعيان وصور أخرى وأحكام ، أما الأول فبالحس ، وأما الأحكام فلو حلف أن لا يأكل من هذه الأعيان لم يحنث‌‌ بهذه المتجددات ، ولأن مذهبكم يؤدي إلى أنه يغصب جمادا فيؤدي حيوانا وليس عين المغصوب ولا مثله ولا قيمته ، لأنه لو استقرض حنطة لم يرد دقيقها ، والكل باب ضمان ، فلو صح في أحدهما صح في الآخر ، وإذا ظهر الدليل في هذه الصور ظهر فيه بقية صور النزاع ؛ لأنه لا قائل بالفرق ، ولأنه قبض [ ص: 22 ] وقع في الحنطة فلا يطلب برد الدقيق ، كما لو غصبها وأتلفها أو اشتراها فطحنها ثم وجد بها عيبا فلا يفسخ العقد ، ويرد الدقيق ، احتجوا : بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ليس لعرق ظالم حق ) ولأن ملك المالك معلل بالمالية لا بالحنطة ، والطحن لم يذهب المالية ؛ ولأنه فعل لو فعله في ملكه لم يزل ملكه عنه به ، فإذا فعله الغير لم يزل ملكه ، وكما لو فعله بإذن المالك بل أولى ، لأن العدوان يناسب عدم انتقال الملك إليه ، والإذن مناسب له أكثر ، فإذا لم ينتقل بالمناسب لا ينتقل بغير المناسب ، لأن الملك نعمة ، والمعصية لا تناسب النعمة ، ولأن ذبح الغاصب عدوان ، فانضاف عدوان إلى عدوان ، فتعذرت المناسبة جدا ، ولأن الغاصب لو كان يملك بهذه الأفعال لملك البائع بها المشتري ، ( إذا فعلها قبل القبض بل أولى ؛ لأن ملك المشتري ) غير مستقر قبل القبض بخلاف ملك المغصوب منه ، ولأن ذهاب جل المنافع لو كان يزيل الملك بفعل الغاصب لأزاله بغير فعله ، كذهاب الروح ، فإنه يزيل الملك حصل بفعله أم لا ، ولأنه لم يحصل إلا تفريق الأجزاء ، فلا ينقل الملك ، كما لو غصبها مقلية فطحنها ، أو كما لو غصب رغيفا وفتته لبابا ، ولأنه لو ملك العين لملك جميع جهات التصرف عملا بالملك السالم عن معارضة الحجر ، وقد منعتم التصرف حتى يعطي القيمة .

والجواب عن الأول : أن المراد به إذا بقي اسم المغصوب ومعناه ، بدليل مسألة العلف واستيلاد جارية الابن .

عن الثاني : أنه معلل بالحنطة ومالية الحنطة ، بدليل أن من أتلف حنطة وجب عليه رد الاسم والمعنى ، ولو كان معللا بمطلق المالية كيف كانت ، سلمنا أنه معلل بالمالية ، فلم قلتم : إنه إذا فوتها بالطحن والخبز يجبر مالية الحنطة بمالية

[ ص: 23 ] الخبز ، ثم ينتقض بمن غصب عسلا وسمنا وأذابه ، أو خلط الزيت بأجود منه ، أو أردأ .

عن الثالث : النقض باستيلاد الأب جارية ابنه ، وبالعلف وخلط الزيت ، ولأنه إذا فعل ذلك في ملكه لم يمكن أن يزول الملك ، لأنه لو زال لزال الأهلية ، لأنه مصدر السبب ، ولو زال إليه لزم تحصيل الحاصل ، لأنه مالك قبل ذلك ، وهاهنا ينتقل الملك إلى غيرها لك ، فلا يلزم تحصيل الحاصل فافترقا .

عن الرابع : وهو قولكم : المعصية لا تناسب نعمة الملك فينتقض باستيلاد الأب ، وفيه ضم عدوان إلى عدوان ، فإن الأب غاصب ، ووطأه حرام ، ومع ذلك ملك أمة ابنه بذلك .

عن الخامس : أن البائع إذا قصد الغصب منعنا عدم انتقال الملك ، ثم ينتقض بالنقوض المتقدمة .

عن السادس : أن فعل الإنسان يناسب أن يتجدد له به ملكه ، أما غير فعله فلا يدخل إلا قهرا كالميراث .

عن السابع : منع الحكم ، بل ينتقل الملك في الحنطة ، وأما فت الخبز لأنه لم يذهب الاسم ومعظم المنافع .

عن الثامن : أنه مثل مسألة الرهن ، إن أيسر الراهن بالدين انفك ، وإلا فلا ، فكما أن الرهن ملك مع المنع فكذلك هاهنا ، ولذلك يرد عتق المدين مع ثبوت الملك .

تمهيد : قال صاحب المقدمات : زيادة المغصوب إن كانت من فعل الله تعالى كالصغير يكبر ، والهزيل يسمن ، أو العيب يذهب ، فليس بفوت ؛ لأنه عين ماله [ ص: 24 ] ولم يتجدد للغاصب فيه سبب يوجب التضمين ولا التمليك ، أو أحدثها الغاصب ، فإنها تنقسم في مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك قسمين : ما أحدث فيه الغاصب من ماله عيبا قائمة كالصبغ والنقض في البنيان ، أو مجرد العمل كالخياطة والنسج وطحن الحنطة ، والذي له عين قائمة : قسمان : ما تمكن إعادته على حاله كالبقعة يبنيها ، وما لا يمكن كالثوب يصبغه والجلد يدبغه والسويق يلته ، فيخير في القسم الأول بين إلزامه بإعادة البقعة على حالها ، وإزالة ملكه ، وبين إعطائه قيمة ماله فيها مقلوعا بعد أجر القلع ، إذا كان لا يتولى ذلك بنفسه ، ولا يعيده بل يستأجر عليه ، قاله محمد وابن شعبان ، وقيل : لا يحط أجرة القلع على مذهب ابن القاسم فيالمدونة ، وقاله ابن دحون ، وعلل ذلك بأن الغاصب لو هدمه لم يكن له أخذه بالقيمة بعد الهدم ، وأما القسم الثاني : فيخير في الصبغ كما تقدم ونحوه ، إلا في السويق يلت بالسمن ونحوه من الطعام ، فلا يخير لما يدخله من الربا ، بل يلزم المثل أو القيمة فيما لا مثل له ، وأما القسم الثاني من أصل التقسيم ، وهو مجرد العمل ، فهو قسمان : يسير لا ينتقل به المغصوب عن اسمه ، كعمل الخشبة أبوابا أو تابوتا ، وطحن القمح ونسج الغزل ، وصوغ الفضة حليا أو دراهم ، فيأخذ الأول معمولا بغير شيء ، لأن اليسير مغتفر ، والثاني فوت يوجب المثل أو القيمة في غير المثل يوم الغصب ، هذا أصل ابن القاسم وأشهب : يجعل البنيان أصلا لهذا كله ، ويقول : لا أجر للغاصب فيما لا يقدر على أخذه من الصبغ والرفو والدباغ والطحن وعمل التابوت ، وعن ابن القاسم : الصبغ تفويت وتتعين القيمة ، وكذلك شبع الصبغ ، وقيل يشتركان بقيمة الصبغ وقيمة الثوب ، إذا امتنعا من دفع ما يتوجه عليهما ، وأنكر هذا القول في المدونة : وقال : إن الشبهة إنما تكون فيما كان توجه بشبهه .

التالي السابق


الخدمات العلمية