الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
229 200 - وهذا الحديث رواه مالك في هذا الباب عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله أنه قال : دخل رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد يوم الجمعة وعمر يخطب ، وذكر الحديث .


[ ص: 25 ] 5701 - ولم يقل : إنه عثمان ، وصح أنه عثمان من طرق كثيرة لهذا الحديث ، وقد ذكرتها في " التمهيد " وذكرنا هناك من وصل الحديث وأسنده ، ومن قطعه وأرسله ، وما فيه من المعاني والتوجيهات ، [ ص: 26 ] والحمد لله .

[ ص: 27 ] [ ص: 28 ] [ ص: 29 ] 5702 - وقول عمر في هذا الحديث : الوضوء أيضا ، وقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل مثل قوله - عليه السلام - في حديث ابن شهاب ، عن ابن السباق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في جمعة من الجمع : " يا معشر المسلمين ، إن هذا يوم قد جعله الله عيدا فاغتسلوا " .

5703 - وقد ذكرنا الحديث فيما مضى من هذا الكتاب ، وذلك في باب السواك .

5704 - وذكرنا في " التمهيد " أن عمر أول من تسمى بأمير المؤمنين ، وأوردنا الخبر بذلك ، وما كان سببه هناك .

5705 - وفي حديث ابن شهاب هذا من الفقه أيضا : شهود الفضلاء السوق ، وطلبهم الرزق بالتجارة ، وفيه أن السوق يوم الجمعة لم يكن الناس يمنعون منه إلا في وقت النداء ; لقوله تعالى : " إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله " ( الآية : 9 من سورة الجمعة ) .

5706 - ومن الدليل أيضا على أن الأمر بالغسل للجمعة ليس على الوجوب ما روته عائشة ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأبو سعيد في الوجه الذي من أجله أمروا بالغسل يوم الجمعة أول ما أمروا به .

5707 - وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك في " التمهيد " فمن ذلك أن يحيى بن سعيد الأنصاري قال : سألت عمرة عن غسل الجمعة ، فذكرت أنها سمعت عائشة تقول : كان الناس عمال أنفسهم يروحون بهيئتهم فقيل لهم : لو [ ص: 30 ] اغتسلتم .

5708 - وروى إسماعيل بن أمية ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : كان الناس يغدون في أعمالهم ، فإذا كانت الجمعة جاءوا وعليهم ثياب درنة وألوانها متغيرة ، قال فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " من جاء منكم الجمعة فليغتسل ، ويتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته " .

[ ص: 31 ] 5709 - وفي " " الموطأ " " لمالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه كان لا يروح إلى الجمعة إلا ادهن وتطيب ، إلا أن يكون حراما ، ولم يذكر غسلا .

5710 - وروى الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو ، عن عكرمة : أن ناسا من أهل العراق جاءوا فقالوا : يا ابن عباس ، الغسل يوم الجمعة واجب ؟ قال : لا ، ولكنه أطهر وأطيب ، وخير لمن اغتسل ، ومن لم يغتسل فلا حرج ، وسأخبركم كيف بدء الغسل :

كان الناس مجهودين ، يلبسون الصوف ، ويعملون على ظهورهم ، وكان مسجدهم ضيقا متقارب السقف ، إنما هو عريش ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم حار وقد عرق الناس في ذلك الصوف حتى ثارت منهم رياح ، آذى بذلك بعضهم بعضا ، فلما وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الريح قال : " أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا " ثم جاء الله بالخير ، ولبسوا غير الصوف ، وكفوا العمل ، ووسع مسجدهم ، وذهب الذي كان يؤذي به بعضهم بعضا من العرق .

5711 - وقد تقدم عن أبي سعيد أنه قرنه بالسواك والطيب يوم الجمعة .

5712 - وفي إجماع الجمهور من علماء المسلمين على سقوط وجوب الغسل يوم الجمعة وجوب فرض لاتفاقهم على أن من شهد الجمعة بغير غسل أجزأته الجمعة - ما يغني عن كل قول .

[ ص: 32 ] 5713 - إلا أنهم اختلفوا : هل غسل الجمعة سنة مسنونة للأمة ، أم هو استحباب وفضل ، أم كان لعلة فارتفعت وليس بسنة ؟

5714 - فذهب مالك والثوري وجماعة من أهل العلم أن غسل الجمعة سنة مؤكدة ; لأنها قد عمل بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده والمسلمون ، واستحبوها ، وندبوا إليها . وهذا سبيل السنن المؤكدة .

5715 - ومن حجتهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالغسل للجمعة بقوله : " من جاء منكم الجمعة فليغتسل " .

5716 - وبما ذكرنا من الآثار بلفظ الأمر والوجوب فيما تقدم من هذا الباب .

5717 - ثم جاءت الآثار المذكورة بجواز شهوده بغير غسل ، وبأنه أفضل إن اغتسل ، يدل على أن ذلك أمر سنة لا فرض .

5718 - وروى ابن وهب ، عن مالك أنه سئل عن غسل الجمعة واجب هو ؟ قال : هو سنة ومعروف ، قيل له : إنه في الحديث واجب ، قال : ليس كل ما جاء في الحديث يكون كذلك .

5719 - وروى أشهب عن مالك أنه سئل عن غسل الجمعة أواجب هو ؟ قال : هو حسن ، وليس بواجب .

5720 - وهذه الرواية عن مالك تدل على أنه مستحب ، وذلك عندهم دون منزلة السنة ، إلا أن رواية ابن وهب عنه أنه سنة عليه أكثر أصحابه : ابن عبد [ ص: 33 ] الحكم ، وغيره .

5721 - وقد قال ابن القاسم فيمن أتى الجمعة ولم يغتسل : فإنه يخرج من المسجد إذا كان الوقت واسعا ، ثم يغتسل . وقاله ابن كنانة .

قال ابن كنانة : إنما ترك عمر رد عثمان للغسل لضيق الوقت ، ولو كان فيه سعة لرده حتى يغتسل .

5723 - ذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : سألت عطاء قلت له : الغسل واجب يوم الجمعة ؟ قال : نعم ، ومن تركه فليس بآثم .

5724 - وقد ذكرنا في " التمهيد " حديث الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " من توضأ فأحسن الوضوء ، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة ، وزيادة ثلاثة أيام ، ومن مس الحصى فقد لغا "

5725 - وهذا حديث ثابت عن النبي - عليه السلام - ليس فيه إلا الوضوء للجمعة دون غسل . رواه أبو معاوية وجماعة من أصحاب الأعمش عن الأعمش هكذا .

[ ص: 34 ] 5726 - وذكر عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن مسعر ، عن وبرة ، عن همام بن الحارث ، عن ابن مسعود قال : الغسل يوم الجمعة سنة .

5727 - وكان الشافعي يقول : إنه سنة ، ويحتج في تفسير لفظ الحديث في وجوبه بحديث عائشة : كان الناس عمال أنفسهم . الحديث ، وبحديث سمرة : ومن اغتسل فالغسل أفضل . وقد ذكرناهما ، وما كان في معناهما فيما تقدم من هذا الباب .

5728 - وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن غسل الجمعة ليس بواجب وجوب سنة ، ولكنه مستحب مرغب فيه كالطيب والسواك .

5729 - وقال بعضهم : الطيب يغني عنه ، واحتجوا بأنه كان لعلة قد زالت على ما بينا في الآثار عن عائشة وابن عمر وابن عباس وغيرهم .

5730 - وقد ذكرنا في " التمهيد " عن القاسم بن محمد : أنهم ذكروا غسل الجمعة عند عائشة فقالت : إنما كان الناس يسكنون العالية فيحضرون الجمعة وبهم وسخ ، فإذا أصابهم الروح سطعت أرواحهم ، فتأذى بهم الناس ، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " أولا تغتسلون " .

5731 - وذكر عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال : كانوا لا يرون غسلا واجبا إلا غسل الجنابة ، وكانوا يستحبون غسل الجمعة .

5732 - وقال عبد الكريم بن مالك الجزري : الطيب يجزئ من الغسل يوم الجمعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية