الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
461 [ ص: 223 ] ( 5 ) باب ما جاء في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - .

436 - ذكر فيه مالك حديث أبي هريرة ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " صلاة في مسجدي هذا ، خير من ألف صلاة فيما سواه . إلا المسجد الحرام " .


[ ص: 224 ] 10221 - ورواه عن زيد بن رباح ، وعبيد الله بن أبي عبد الله ، عن أبي عبد الله سلمان الأغر ، عن أبي هريرة .

10222 - وهو حديث رواه عن أبي هريرة جماعة ، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه كثيرة قد ذكرت كثيرا منها في " التمهيد " .

[ ص: 225 ] 10223 - وأجمعوا على صحته ، واختلفوا في تأويله ، فكان عبد الله بن نافع الزبيري - صاحب مالك - في ما روى يحيى بن يحيى عنه أنه سأله عن معنى هذا الحديث فقال : معناه أن الصلاة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة إلا المسجد الحرام فإن الصلاة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من الصلاة فيه بدون ألف صلاة .

10224 - وهذا التأويل على بعده ومخالفة أكثر أهل العلم له فيه لا حظ له في اللسان العربي ; لأنه لا يقوم في اللسان إلا بقرينة وبيان ولا بيان ولا دليل لمن تأول تأويل ابن نافع يشهد له .

10225 - وأهل العربية يقولون : إذا قلت اليمن أفضل من جميع البلاد بألف درجة إلا العراق جاز أن يكون العراق مساويا لليمن وفاضلا ومفضولا ، فإذا كان مساويا فقد علم مقدار فضله ، وإذا كان فاضلا أو مفضولا فمطلق في الفضل لا يعلم كم مقدار المفاضلة بينهما إلا بقرينة ودليل على عدة درجات ، فإن أيده على تلك أو ناقضه عنه فيحتاج إلى الإتيان بها .

10226 - قال أبو عمر : قد علمنا أنه لم يحمل ابن نافع على ما تأوله في حديث النبي ، صلى الله عليه وسلم : " صلاة في مسجدي هذا . . . " إلا ما كان يذهب إليه هو وشيخه مالك من تفضيل المدينة على مكة وتفضيل مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - على المسجد الحرام .

10227 - وتفضيل المدينة على مكة أو مكة على المدينة مسألة قد اختلف فيها أهل العلم .

[ ص: 226 ] 10228 - وذكر أبو يحيى زكريا بن يحيى الساجي ، قال : اختلف الناس في تفضيل مكة على المدينة .

10229 - فقال مالك وكثير من المدنيين : المدينة أفضل من مكة .

10230 - وقال الشافعي : مكة خير البقاع .

10231 - وهو قول عطاء بن أبي رباح والمكيين وأهل الكوفة أجمعين .

10232 - قال : واختلف أهل البصرة في ذلك فطائفة قالوا : مكة . وطائفة قالوا : المدينة .

10233 - وقال عامة أهل الأثر : الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمائة صلاة ، ومن الصلاة في سائر المساجد بمائة ألف صلاة ، والصلاة في مسجد الرسول أفضل من سائر المساجد بألف صلاة .

10234 - قد أوضحنا المعنى في تأويل عبد الله بن نافع ، وذكرنا ما نزعت إليه الفرق من الآثار في هذه المسألة ، إذ لا مدخل فيها للنظر ، إنما تعرف الفضائل في مثل ذلك بالتوقيف لا بالاستنباط والاجتهاد ، وأتينا بما روينا في ذلك مبسوطا في " التمهيد " ، والحمد لله .

10235 - وأحسن حديث روي في ذلك ما رواه حماد بن زيد وغيره ، عن حبيب المعلم ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن عبد الله بن الزبير ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد [ ص: 227 ] إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة " .

10236 - وقد ذكرنا إسناده من طرق في " التمهيد " .

10237 - وقال ابن أبي خيثمة : سمعت يحيى بن معين يقول : حبيب المعلم ثقة .

10238 - وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سمعت أبي يقول : حبيب المعلم ثقة .

10239 - وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : ما أصح حديثه .

10240 - وسئل أبو زرعة الرازي عن حبيب المعلم ; فقال : بصري ثقة .

[ ص: 228 ] 10241 - قال أبو عمر : سائر الإسناد لا يحتاج إلى القول فيه .

10242 - وقد روي من حديث ابن عمر ، وحديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل حديث ابن الزبير هذا سواء .

10243 - وقد ذكرت الطرق بذلك في " التمهيد " .

10244 - وذكر البزار ، قال : حدثنا إبراهيم بن جميل ، قال : حدثنا محمد بن يزيد بن شداد ، قال : حدثنا سعيد بن سالم القداح ، قال : حدثنا سعيد بن بشر ، عن إسماعيل بن عبيد الله ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة ، وفي مسجدي ألف صلاة ، وفي مسجد بيت المقدس خمس مائة صلاة " .

10245 - قال أبو بكر البزار : هذا حديث حسن .

10246 - حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا حامد بن يحيى ، وأحمد بن سلمة بن الضحاك ، قالا : حدثنا [ ص: 229 ] سفيان بن عيينة ، قال : حدثنا الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام " .

10247 - قال سفيان : فيرون أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن مائة ألف صلاة في غيره .

10248 - قال ابن وضاح : حدثنا أحمد بن عمر بن السرح ، قال : سمعت ابن وهب يقول : ما رأيت أعلم بتفسير هذا الحديث من سفيان بن عيينة .

10249 - قال أبو عمر : من جعل قول ابن عيينة حجة في تأويل قول النبي ، صلى الله عليه وسلم : " أوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة " . أنه مالك بن أنس ، وقوله أيضا : كانوا يرونه مالك بن أنس .

[ ص: 230 ] 10250 - وقوله يلزمه أن يجعل قوله " فيرون أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنها تفضله بمائة [ ص: 231 ] صلاة " حجة أيضا في هذا . وهذا شيء لا ينفك منه منصف .

10251 - وقد روينا عن عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي الدرداء ، وجابر بن عبد الله : أنهم كانوا يفضلون مكة [ ص: 232 ] ومسجدها ، وإذا لم يكن بد من التقليد فهم أولى أن يقلدوا من غيرهم الذين جاءوا بعدهم .

10252 - وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك في " التمهيد " .

10253 - وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة في مسجد المدينة .

10254 - قال معمر : وقد سمعت أيوب يحدث عن أبي العالية ، عن عبد الله بن الزبير مثل قول قتادة .

10255 - وقال عبد الله بن حبيب ، عن مطرف ، وعن أصبغ ، عن ابن وهب : أنهما كانا يذهبان إلى تفضيل الصلاة في المسجد الحرام على الصلاة في مسجد النبي ، صلى الله عليه وسلم .

10256 - فهؤلاء أصحاب مالك قد اختلفوا في ذلك ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية