الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا تقرر ما وصفنا فالشروط المعتبرة في صحة السلم تعتبر من وجهين :

أحدهما : ما كانت معتبرة في المثمن ، وسنذكرها من بعد إذا تقدم شرحها .

والثاني : ما كانت معتبرة في الثمن ، وهي ثلاثة شروط متفق على بعضها ومختلف في بعضها .

أحدها : تسليم جميع الثمن قبل الافتراق ، فلو أخل به بطل السلم . والثاني : إلى آخر الباب ، وليس يعرف خلاف أنه لا يجوز للإمام ولا لغيره أن يسعر على الناس غير الأقوات ، فلا يجوز أيضا أن يسعرها مع السعة والرخص . وأما عند الغلاء وزيادة الأسعار ، فقد قال مالك : إن للإمام أن يسعرها عليهم بسعر ، ولا يجوز لهم الزيادة عليه ، فإن خالفوه أدبهم إلا أن يمتنعوا من بيع أمتعتهم ، فلا يجبرهم على بيعها ، وذهب الشافعي ، وأبو حنيفة ، وجمهور الفقهاء إلى أن الإمام وغيره من المسلمين سواء في أن لا يجوز لهم تسعير الأقوات على أربابها ، وهم مسلطون على بيع أموالهم ما أحبوا .

واستدل من أجاز التسعير برواية سعيد بن المسيب ، عن معمر بن أبي معمر أن [ ص: 409 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الجالب مرزوق ، والمحتكر ممحوق " فلما زجر عن الاحتكار كان للإمام الزجر عليه والنهي عنه .

وبما روي عن عمر رضي الله عنه أنه مر بحاطب إلى أن قال له : إما أن ترفع في السعر ، وإما أن تدخل زبيبك البيت فتبيعه كيف شئت . وبما روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه سعر على قوم طعاما فخالفوه فحرقه عليهم من الغد .

قال : وقد قيل في تأويل قوله تعالى : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم [ الحج : 25 ] لأن الإلحاد فيه هو احتكار الطعام فيه ، وقال عمر رضي الله عنه : لا تحتكروا الطعام بمكة ، فإن ذلك إلحاد . قال : ولأن الإمام مندوب إلى فعل المصالح ، فإذا رأى في التسعير مصلحة عند تزايد الأسعار ، جاز أن يفعله .

والدليل على تحريم الأسعار قوله تعالى : الله لطيف بعباده يرزق من يشاء [ الشورى : 19 ] وفي التسعير عليه إيقاع حجر عليه ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه " .

وروى العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه " أن رجلا جاء فقال : يا رسول الله ، سعر . فقال : بل أدعو . ثم جاءه فقال : يا رسول الله ، سعر . فقال : " بل الله يخفض ويرفع ، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة " . وروى حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس قال قال الناس يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله هو المسعر القابض ، الباسط ، الرازق ، وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ، ولا مال " .

ولأن الناس مسلطون على أملاكهم ، والتسعير عليهم إيقاع حجر في أموالهم ، وذلك غير جائز فيمن جاز أمره ، ونفذ تصرفه ، ولأن الإمام مندوب إلى النظر في مصالح الكافة ، وليس [ ص: 410 ] نظره في مصلحة المشتري بأولى من نظره في مصلحة البائع لوفور الثمن ، وإذا تقابل الأمران وجب تفريق الفريقين في الاجتهاد لأنفسهم ، فيجتهد المشتري في الاسترخاص ، ويجتهد البائع في وفور الربح .

فأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم " الجالب مرزوق والمحتكر ممحوق " فهذا يكون في الاحتكار ، والتسعير غير ذلك : لأن المسعر هو الذي يأتي إلى الذي يبيع متاعه فيسعره عليه ، ويقدر له الثمن فيه ، لأن لا يزيد عليه ، والمحتكر الممتنع من بيعه على أن طريق هذا الحديث الإرشاد ، فقد روي عن سعيد بن المسيب ، وهو راوي الحديث أنه كان يحتكر الزيت ، فقيل له في ذلك ، فقال : كان معمر يحتكر .

وأما استدلالهم بحديث عمر رضي الله عنه فقد رواه الشافعي تاما ، وهو أن عمر رضي الله عنه حاسب نفسه ، ثم عاد إلى حاطب ، فقال : إن الذي قلت ليس بعزيمة مني ، ولا قضاء ، وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد . الحديث . فكان هذا من أدل دليل على أن التسعير لا يجوز . وأما الخبر المروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فليس بصحيح لما فيه من تحريق أموالهم ، ولا يجوز للإمام تحريقها عليهم .

وإنما المروي عنه أنه مر بسوق التمارين بالبصرة ، فأنكر عليهم بعض باعاتهم ، وأما قولهم إن فيه مصلحة الناس في رخص أسعارهم عليه ، فهذا غلط بل فيه فساد ، وغلاء الأسعار ، لأن الجالب إذا سمع بالتسعير امتنع من الجلب فزاد السعر ، وقل الجلب والقوت ، وإذا سمع بالغلاء وتمكين الناس من بيع أموالهم كيف احتووا جلب ذلك طلبا للفضل فيه ، وإذا حصل الجلب اتسعت الأقوات ورخصت الأسعار .

فصل : فإذا ثبت أن الإمام لا يجوز له التسعير في الأقوات على الناس ، فخالف وسعرها عليهم فباع الناس أمتعتهم بما سعرها عليهم فهذا على ضربين :

أحدهما : أن يكرههم على بيعها ، ولا يمكنهم من تركها ، فهذا بيع باطل ، وعلى مشتري ذلك بالإكراه أن يرده على ما باعه ، ويسترجع ما دفعه من ثمنه ، فإن البيع مع الإكراه لا يصح ، وقال أبو حنيفة : بيع المكره بالسلطان باطل ، وإن أكرهه غير السلطان ، فبيعه جائز : لأن الإكراه من غير السلطان قادر ، ودفعه ممكن . وهذا غير صحيح بل بيع المكره باطل لرواية صالح ، وعامر ، عن شيخ من تميم ، قال : خطبنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وقال : سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يده ، ولم يؤمر بذلك . قال الله تعالى : ولا تنسوا الفضل بينكم [ البقرة : 237 ] وتبايع المضطرون .

وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر ، وبيع الغرر ، وبيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها ، والمكره مضطر .

[ ص: 411 ] وقد قال صلى الله عليه وسلم " رفع عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه " ، ولأنه عقد مكره ، فوجب أن يكون باطلا كالمكره بالسلطان ، ولأنه عقد لو أكرهه السلطان عليه لم يصح ، فوجب إذا أكرهه غير السلطان عليه أن لا يصح كالنكاح : ولأن ما أكرهه السلطان عليه أولى بالإمضاء مما أكرهه عليه غير السلطان ، لما للسلطان من حق الطاعة ، فلما أبطل ما أكرهه السلطان عليه كان بطلان ما أكرهه غير السلطان عليه أولى .

فأما الضرب الثاني : وهو أن يسعر السلطان فيبيع الناس أمتعتهم مختارين من غير إكراه ، لكنهم كارهين للسعر ، فالبيع جائز غير أننا نكره الابتياع منهم ، إلا إذا علم طيب نفوسهم به ، وإن كان البيع إذا لم يقترن به الإكراه جائزا بكل حال .

فصل : وأما الاحتكار والتربص بالأمتعة ، فلا يكره في غير الأقوات ، وأما الأقوات فلا يكره احتكارها ، مع سعة الأقوات ورخص الأسعار : لأن احتكارها عند الحاجة إليها .

وأما احتكارها مع الضيق ، والغلاء وشدة الحاجة إليها فمكروه محرم ، والنهي الذي قدمنا ذكره من تأويل الآية ، ونص الخبر محمول على هذا الحال ، ولو اشتراها في حال الغلاء والضيق طالبا لربحها لم يكن احتكارا ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية