فصل : فإذا تقرر ما وصفنا
nindex.php?page=treesubj&link=4963فالشروط المعتبرة في صحة السلم تعتبر من وجهين :
أحدهما : ما كانت معتبرة في المثمن ، وسنذكرها من بعد إذا تقدم شرحها .
والثاني : ما كانت معتبرة في الثمن ، وهي ثلاثة شروط متفق على بعضها ومختلف في بعضها .
أحدها :
nindex.php?page=treesubj&link=4971تسليم جميع الثمن قبل الافتراق ، فلو أخل به بطل السلم . والثاني : إلى آخر الباب ، وليس يعرف خلاف أنه لا يجوز للإمام ولا لغيره أن يسعر على الناس غير
nindex.php?page=treesubj&link=27562الأقوات ، فلا يجوز أيضا أن يسعرها مع السعة والرخص . وأما عند الغلاء وزيادة الأسعار ، فقد قال
مالك : إن للإمام أن يسعرها عليهم بسعر ، ولا يجوز لهم الزيادة عليه ، فإن خالفوه أدبهم إلا أن يمتنعوا من بيع أمتعتهم ، فلا يجبرهم على بيعها ، وذهب
الشافعي ، وأبو حنيفة ، وجمهور الفقهاء إلى أن الإمام وغيره من المسلمين سواء في أن لا يجوز لهم تسعير الأقوات على أربابها ، وهم مسلطون على بيع أموالهم ما أحبوا .
واستدل
nindex.php?page=treesubj&link=27562من أجاز التسعير برواية
سعيد بن المسيب ، عن
معمر بن أبي معمر أن
[ ص: 409 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" الجالب مرزوق ، والمحتكر ممحوق " فلما
nindex.php?page=treesubj&link=23701زجر عن الاحتكار كان للإمام الزجر عليه والنهي عنه .
وبما روي عن
عمر رضي الله عنه أنه مر
بحاطب إلى أن قال له : إما أن ترفع في السعر ، وإما أن تدخل زبيبك البيت فتبيعه كيف شئت . وبما روي عن
علي بن أبي طالب عليه السلام أنه سعر على قوم طعاما فخالفوه فحرقه عليهم من الغد .
قال : وقد قيل في
nindex.php?page=treesubj&link=28993تأويل قوله تعالى : nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=25ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم [ الحج : 25 ] لأن الإلحاد فيه هو احتكار الطعام فيه ، وقال
عمر رضي الله عنه : لا تحتكروا الطعام
بمكة ، فإن ذلك إلحاد . قال : ولأن الإمام مندوب إلى فعل المصالح ، فإذا رأى في التسعير مصلحة عند تزايد الأسعار ، جاز أن يفعله .
والدليل على
nindex.php?page=treesubj&link=27562تحريم الأسعار قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=19الله لطيف بعباده يرزق من يشاء [ الشورى : 19 ] وفي التسعير عليه إيقاع حجر عليه ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=923215لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه " .
وروى
العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن
أبي هريرة رضي الله عنه "
nindex.php?page=hadith&LINKID=923216أن رجلا جاء فقال : يا رسول الله ، سعر . فقال : بل أدعو . ثم جاءه فقال : يا رسول الله ، سعر . فقال : " بل الله يخفض ويرفع ، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة " . وروى
حماد بن سلمة ، عن
ثابت ، عن
أنس قال
nindex.php?page=hadith&LINKID=923217قال الناس يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله هو المسعر القابض ، الباسط ، الرازق ، وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ، ولا مال " .
ولأن الناس مسلطون على أملاكهم ، والتسعير عليهم إيقاع حجر في أموالهم ، وذلك غير جائز فيمن جاز أمره ، ونفذ تصرفه ، ولأن الإمام مندوب إلى النظر في مصالح الكافة ، وليس
[ ص: 410 ] نظره في مصلحة المشتري بأولى من نظره في مصلحة البائع لوفور الثمن ، وإذا تقابل الأمران وجب تفريق الفريقين في الاجتهاد لأنفسهم ، فيجتهد المشتري في الاسترخاص ، ويجتهد البائع في وفور الربح .
فأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم
" الجالب مرزوق والمحتكر ممحوق " فهذا يكون في الاحتكار ، والتسعير غير ذلك : لأن المسعر هو الذي يأتي إلى الذي يبيع متاعه فيسعره عليه ، ويقدر له الثمن فيه ، لأن لا يزيد عليه ، والمحتكر الممتنع من بيعه على أن طريق هذا الحديث الإرشاد ، فقد روي عن
سعيد بن المسيب ، وهو راوي الحديث أنه كان يحتكر الزيت ، فقيل له في ذلك ، فقال : كان
معمر يحتكر .
وأما استدلالهم بحديث
عمر رضي الله عنه فقد رواه
الشافعي تاما ، وهو أن
عمر رضي الله عنه حاسب نفسه ، ثم عاد إلى
حاطب ، فقال : إن الذي قلت ليس بعزيمة مني ، ولا قضاء ، وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد . الحديث . فكان هذا من أدل دليل على أن التسعير لا يجوز . وأما الخبر المروي عن
علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فليس بصحيح لما فيه من تحريق أموالهم ، ولا يجوز للإمام تحريقها عليهم .
وإنما المروي عنه أنه مر بسوق التمارين
بالبصرة ، فأنكر عليهم بعض باعاتهم ، وأما قولهم إن فيه مصلحة الناس في رخص أسعارهم عليه ، فهذا غلط بل فيه فساد ، وغلاء الأسعار ، لأن الجالب إذا سمع بالتسعير امتنع من الجلب فزاد السعر ، وقل الجلب والقوت ، وإذا سمع بالغلاء وتمكين الناس من بيع أموالهم كيف احتووا جلب ذلك طلبا للفضل فيه ، وإذا حصل الجلب اتسعت الأقوات ورخصت الأسعار .
فصل : فإذا ثبت أن الإمام لا يجوز له التسعير في الأقوات على الناس ، فخالف وسعرها عليهم فباع الناس أمتعتهم بما سعرها عليهم فهذا على ضربين :
أحدهما : أن يكرههم على بيعها ، ولا يمكنهم من تركها ، فهذا بيع باطل ، وعلى مشتري ذلك بالإكراه أن يرده على ما باعه ، ويسترجع ما دفعه من ثمنه ، فإن البيع مع الإكراه لا يصح ، وقال
أبو حنيفة :
nindex.php?page=treesubj&link=4433بيع المكره بالسلطان باطل ، وإن أكرهه غير السلطان ، فبيعه جائز : لأن الإكراه من غير السلطان قادر ، ودفعه ممكن . وهذا غير صحيح بل بيع المكره باطل لرواية
صالح ، وعامر ، عن شيخ من
تميم ، قال : خطبنا
علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وقال : سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يده ، ولم يؤمر بذلك . قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=237ولا تنسوا الفضل بينكم [ البقرة : 237 ] وتبايع المضطرون .
وقد
nindex.php?page=hadith&LINKID=923218نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر ، وبيع الغرر ، وبيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها ، والمكره مضطر .
[ ص: 411 ] وقد قال صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=921466 " رفع عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه " ، ولأنه عقد مكره ، فوجب أن يكون باطلا كالمكره بالسلطان ، ولأنه عقد لو أكرهه السلطان عليه لم يصح ، فوجب إذا أكرهه غير السلطان عليه أن لا يصح كالنكاح : ولأن ما أكرهه السلطان عليه أولى بالإمضاء مما أكرهه عليه غير السلطان ، لما للسلطان من حق الطاعة ، فلما أبطل ما أكرهه السلطان عليه كان بطلان ما أكرهه غير السلطان عليه أولى .
فأما الضرب الثاني : وهو أن يسعر السلطان فيبيع الناس أمتعتهم مختارين من غير إكراه ، لكنهم كارهين للسعر ، فالبيع جائز غير أننا نكره الابتياع منهم ، إلا إذا علم طيب نفوسهم به ، وإن كان البيع إذا لم يقترن به الإكراه جائزا بكل حال .
فصل : وأما
nindex.php?page=treesubj&link=27473الاحتكار والتربص بالأمتعة ، فلا يكره في غير الأقوات ، وأما الأقوات فلا يكره احتكارها ، مع سعة الأقوات ورخص الأسعار : لأن احتكارها عند الحاجة إليها .
وأما احتكارها مع الضيق ، والغلاء وشدة الحاجة إليها فمكروه محرم ، والنهي الذي قدمنا ذكره من تأويل الآية ، ونص الخبر محمول على هذا الحال ، ولو اشتراها في حال الغلاء والضيق طالبا لربحها لم يكن احتكارا ، والله أعلم .
فَصْلٌ : فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا
nindex.php?page=treesubj&link=4963فَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ تُعْتَبَرُ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : مَا كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الْمُثَمَّنِ ، وَسَنَذْكُرُهَا مِنْ بَعْدُ إِذَا تَقَدَّمَ شَرْحُهَا .
وَالثَّانِي : مَا كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الثَّمَنِ ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ مُتَّفَقٌ عَلَى بَعْضِهَا وَمُخْتَلَفٌ فِي بَعْضِهَا .
أَحَدُهَا :
nindex.php?page=treesubj&link=4971تَسْلِيمُ جَمِيعِ الثَّمَنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ، فَلَوْ أَخَلَّ بِهِ بَطَلَ السَّلَمُ . وَالثَّانِي : إِلَى آخِرِ الْبَابِ ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ خِلَافُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ وَلَا لِغَيْرِهِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ غَيْرَ
nindex.php?page=treesubj&link=27562الْأَقْوَاتِ ، فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُسَعِّرَهَا مَعَ السِّعَةِ وَالرُّخْصِ . وَأَمَّا عِنْدَ الْغَلَاءِ وَزِيَادَةِ الْأَسْعَارِ ، فَقَدْ قَالَ
مَالِكٌ : إِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُسَعِّرَهَا عَلَيْهِمْ بِسِعْرٍ ، وَلَا يَجُوزَ لَهُمُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ خَالَفُوهُ أَدَّبَهُمْ إِلَّا أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ بَيْعِ أَمْتِعَتِهِمْ ، فَلَا يُجْبِرُهُمْ عَلَى بَيْعِهَا ، وَذَهَبَ
الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ فِي أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُمْ تَسْعِيرُ الْأَقْوَاتِ عَلَى أَرْبَابِهَا ، وَهُمْ مُسَلَّطُونَ عَلَى بَيْعِ أَمْوَالِهِمْ مَا أَحَبُّوا .
وَاسْتَدَلَّ
nindex.php?page=treesubj&link=27562مَنْ أَجَازَ التَّسْعِيرَ بِرِوَايَةِ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ
مَعْمَرِ بْنِ أَبِي مَعْمَرٍ أَنَّ
[ ص: 409 ] رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
" الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ ، وَالْمُحْتَكِرُ مَمْحُوقٌ " فَلَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=23701زَجَرَ عَنِ الِاحْتِكَارِ كَانَ لِلْإِمَامِ الزَّجْرُ عَلَيْهِ وَالنَّهْيُ عَنْهُ .
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ
بِحَاطِبٍ إِلَى أَنْ قَالَ لَهُ : إِمَّا أَنْ تَرْفَعَ فِي السِّعْرِ ، وَإِمَّا أَنْ تُدْخِلَ زَبِيبَكَ الْبَيْتَ فَتَبِيعَهُ كَيْفَ شِئْتَ . وَبِمَا رُوِيَ عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ سَعَّرَ عَلَى قَوْمٍ طَعَامًا فَخَالَفُوهُ فَحَرَّقَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْغَدِ .
قَالَ : وَقَدْ قِيلَ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28993تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=25وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [ الْحَجِّ : 25 ] لِأَنَّ الْإِلْحَادَ فِيهِ هُوَ احْتِكَارُ الطَّعَامِ فِيهِ ، وَقَالَ
عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا تَحْتَكِرُوا الطَّعَامَ
بِمَكَّةَ ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِلْحَادٌ . قَالَ : وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَنْدُوبٌ إِلَى فِعْلِ الْمَصَالِحِ ، فَإِذَا رَأَى فِي التَّسْعِيرِ مَصْلَحَةٌ عِنْدَ تَزَايُدِ الْأَسْعَارِ ، جَازَ أَنْ يَفْعَلَهُ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=27562تَحْرِيمِ الْأَسْعَارِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=19اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ [ الشُّورَى : 19 ] وَفِي التَّسْعِيرِ عَلَيْهِ إِيقَاعُ حَجْرٍ عَلَيْهِ ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=923215لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ " .
وَرَوَى
الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=923216أَنَّ رَجُلًا جَاءَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، سَعِّرْ . فَقَالَ : بَلْ أَدْعُو . ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، سَعِّرْ . فَقَالَ : " بَلِ اللَّهُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عِنْدِي مَظْلَمَةٌ " . وَرَوَى
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ
ثَابِتٍ ، عَنْ
أَنَسٍ قَالَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=923217قَالَ النَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ غَلَا السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ ، الْبَاسِطُ ، الرَّازِقُ ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ ، وَلَا مَالٍ " .
وَلِأَنَّ النَّاسَ مُسَلَّطُونَ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ ، وَالتَّسْعِيرُ عَلَيْهِمْ إِيقَاعُ حَجْرٍ فِي أَمْوَالِهِمْ ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فِيمَنْ جَازَ أَمْرُهُ ، وَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَنْدُوبٌ إِلَى النَّظَرِ فِي مَصَالِحِ الْكَافَّةِ ، وَلَيْسَ
[ ص: 410 ] نَظَرُهُ فِي مَصْلَحَةِ الْمُشْتَرِي بِأَوْلَى مِنْ نَظَرِهِ فِي مَصْلَحَةِ الْبَائِعِ لِوُفُورِ الثَّمَنِ ، وَإِذَا تَقَابَلَ الْأَمْرَانِ وَجَبَ تَفْرِيقُ الْفَرِيقَيْنِ فِي الِاجْتِهَادِ لِأَنْفُسِهِمْ ، فَيَجْتَهِدُ الْمُشْتَرِي فِي الِاسْتِرْخَاصِ ، وَيَجْتَهِدُ الْبَائِعُ فِي وُفُورِ الرِّبْحِ .
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَمْحُوقٌ " فَهَذَا يَكُونُ فِي الِاحْتِكَارِ ، وَالتَّسْعِيرُ غَيْرُ ذَلِكَ : لِأَنَّ الْمُسَعِّرَ هُوَ الَّذِي يَأْتِي إِلَى الَّذِي يَبِيعُ مَتَاعَهُ فَيُسَعِّرُهُ عَلَيْهِ ، وَيُقَدِّرُ لَهُ الثَّمَنَ فِيهِ ، لِأَنْ لَا يَزِيدَ عَلَيْهِ ، وَالْمُحْتَكِرُ الْمُمْتَنِعُ مِنْ بَيْعِهِ عَلَى أَنَّ طَرِيقَ هَذَا الْحَدِيثِ الْإِرْشَادُ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يَحْتَكِرُ الزَّيْتَ ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ : كَانَ
مَعْمَرُ يَحْتَكِرُ .
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ رَوَاهُ
الشَّافِعِيُّ تَامًّا ، وَهُوَ أَنَّ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَاسَبَ نَفْسَهُ ، ثُمَّ عَادَ إِلَى
حَاطِبٍ ، فَقَالَ : إِنَّ الَّذِي قُلْتُ لَيْسَ بِعَزِيمَةٍ مِنِّي ، وَلَا قَضَاءَ ، وَإِنَمَا هُوَ شَيْءٌ أَرَدْتُ بِهِ الْخَيْرَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ . الْحَدِيثُ . فَكَانَ هَذَا مِنْ أَدَلِّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ التَّسْعِيرَ لَا يَجُوزُ . وَأَمَّا الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْرِيقِ أَمْوَالِهِمْ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَحْرِيقُهَا عَلَيْهِمْ .
وَإِنَّمَا الْمَرْوِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِسُوقِ التَّمَّارِينَ
بِالْبَصْرَةِ ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ بَعْضَ بَاعَاتِهِمْ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ فِيهِ مَصْلَحَةَ النَّاسِ فِي رُخْصِ أَسْعَارِهِمْ عَلَيْهِ ، فَهَذَا غَلَطٌ بَلْ فِيهِ فَسَادٌ ، وَغَلَاءُ الْأَسْعَارِ ، لِأَنَّ الْجَالِبَ إِذَا سَمِعَ بِالتَّسْعِيرِ امْتَنَعَ مِنَ الْجَلَبِ فَزَادَ السِّعْرُ ، وَقَلَّ الْجَلَبُ وَالْقُوتُ ، وَإِذَا سَمِعَ بِالْغَلَاءِ وَتَمْكِينِ النَّاسِ مِنْ بَيْعِ أَمْوَالِهِمْ كَيْفَ احْتَوَوا جَلَبَ ذَلِكَ طَلَبًا لِلْفَضْلِ فِيهِ ، وَإِذَا حَصَلَ الْجَلَبُ اتَّسَعَتِ الْأَقْوَاتُ وَرَخُصَتِ الْأَسْعَارُ .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّسْعِيرُ فِي الْأَقْوَاتِ عَلَى النَّاسِ ، فَخَالَفَ وَسَعَّرَهَا عَلَيْهِمْ فَبَاعَ النَّاسُ أَمْتِعَتَهُمْ بِمَا سَعَّرَهَا عَلَيْهِمْ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يُكْرِهَهُمْ عَلَى بَيْعِهَا ، وَلَا يُمَكِّنَهُمْ مِنْ تَرْكِهَا ، فَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ ، وَعَلَى مُشْتَرِي ذَلِكَ بِالْإِكْرَاهِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى مَا بَاعَهُ ، وَيَسْتَرْجِعَ مَا دَفَعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ ، فَإِنَّ الْبَيْعَ مَعَ الْإِكْرَاهِ لَا يَصِحُّ ، وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ :
nindex.php?page=treesubj&link=4433بَيْعُ الْمُكْرَهِ بِالسُّلْطَانِ بَاطِلٌ ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ ، فَبَيْعُهُ جَائِزٌ : لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ قَادِرٌ ، وَدَفْعُهُ مُمْكِنٌ . وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ بَيْعُ الْمُكْرَهِ بَاطِلٌ لِرِوَايَةِ
صَالِحٍ ، وَعَامِرٍ ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ
تَمِيمٍ ، قَالَ : خَطَبَنَا
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ ، وَقَالَ : سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=237وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [ الْبَقَرَةِ : 237 ] وَتَبَايَعَ الْمُضْطَرُّونَ .
وَقَدْ
nindex.php?page=hadith&LINKID=923218نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ ، وَبَيْعِ الْغَرَرِ ، وَبَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا ، وَالْمُكْرَهُ مُضْطَرٌّ .
[ ص: 411 ] وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=921466 " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ ، وَالنِّسْيَانُ ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ مُكْرَهٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَالْمُكْرَهِ بِالسُّلْطَانِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَوْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ ، فَوَجَبَ إِذَا أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَصِحَّ كَالنِّكَاحِ : وَلِأَنَّ مَا أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ أَوْلَى بِالْإِمْضَاءِ مِمَّا أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ غَيْرُ السُّلْطَانِ ، لِمَا لِلسُّلْطَانِ مِنْ حَقِّ الطَّاعَةِ ، فَلَمَّا أُبْطِلَ مَا أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ كَانَ بُطْلَانُ مَا أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ عَلَيْهِ أَوْلَى .
فَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يُسَعِّرَ السُّلْطَانُ فَيَبِيعَ النَّاسُ أَمْتِعَتَهُمْ مُخْتَارِينَ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ ، لَكِنَّهُمْ كَارِهِينَ لِلسِّعْرِ ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ غَيْرَ أَنَّنَا نَكْرَهُ الِابْتِيَاعَ مِنْهُمْ ، إِلَّا إِذَا عُلِمَ طِيِبُ نُفُوسِهِمْ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الْإِكْرَاهُ جَائِزًا بِكُلِّ حَالٍ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=27473الِاحْتِكَارُ وَالتَّرَبُّصُ بِالْأَمْتِعَةِ ، فَلَا يُكَرَهُ فِي غَيْرِ الْأَقْوَاتِ ، وَأَمَّا الْأَقْوَاتُ فَلَا يُكْرَهُ احْتِكَارُهَا ، مَعَ سِعَةِ الْأَقْوَاتِ وَرُخْصِ الْأَسْعَارِ : لِأَنَّ احْتِكَارَهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا .
وَأَمَّا احْتِكَارُهَا مَعَ الضِّيقِ ، وَالْغَلَاءِ وَشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا فَمَكْرُوهٌ مُحَرَّمٌ ، وَالنَّهْيُ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ ، وَنَصُّ الْخَبَرِ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الْحَالِ ، وَلَوِ اشْتَرَاهَا فِي حَالِ الْغَلَاءِ وَالضِّيقِ طَالِبًا لِرِبْحِهَا لَمْ يَكُنِ احْتِكَارًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .