الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : والأصل في إحلال القراض وإباحته عموم قول الله عز وجل ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ، [ البقرة : 198 ] ، وفي القراض ابتغاء فضل وطلب نماء .

وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض وفي القراض رزق بعضهم من بعض .

وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ضارب لخديجة بأموالها إلى الشام وأنفذت معه خديجة عبدا [ ص: 306 ] لها يقال له ميسرة ، وروى أبو الجارود عن حبيب بن يسار عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : كان العباس إذا دفع مالا مضاربة اشترط على صاحبه أن لا يسلك به بحرا ، ولا ينزل به واديا ، ولا يشتري به ذات كبد رطبة فإن فعل ذلك فهو ضامن فرفع شرطه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجازه .

وروى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم - قدما في جيش العراق ، وقد تسلفا من أبي موسى الأشعري مالا اشتريا به متاعا فربحا فيه بالمدينة ربحا كثيرا فقال لهما عمر : أكل الجيش تسلف مثل هذا ؟ فقالا : لا ، فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كأني بكما ، وقد قال أبو موسى : إنكما ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما بمال المسلمين ، ردا المال ، والربح ، فقال عبيد الله : أرأيت يا أمير المؤمنين لو تلف المال كنا نضمنه ؟ قال : نعم ، قال : فربحه لنا إذن ، فتوقف عمر ، فقال له بعض جلسائه : لو جعلته قراضا يا أمير المؤمنين يعني في مشاطرتهما على الربح كمشاطرته في القراض ففعل .

وعلى هذا الأثر اعتمد الشافعي لاشتهاره وانعقاد الإجماع له .

ووجه الاستدلال منه مختلف بين أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه : أحدها أن وجه الاستدلال به قول الجليس لو جعلته قراضا وإقرار عمر له على صحة هذا القول فكانا معا دليلين على صحة القراض ، ولو علم عمر فساده لرد قوله فلم يكن ما فعله معهما قراضا لا صحيحا ولا فاسدا ، ولكن استطابا طهارة أنفسهما بما أخذه من ربحهما لاسترابته بالحال واتهامه أبا موسى بالميل ؛ لأنهما ابنا أمير المؤمنين ، الأمر الذي ينفر منه الإمام العادل وتأباه طبيعة الإسلام .

والوجه الثاني : أن عمر أجرى عليه في الربح حكم القراض الفاسد ؛ لأنهما عملا على أن يكون الربح لهما ، ولم يكن قد تقدم في المال عقد يصح حملهما عليه فأخذ منهما جميع الربح وعاوضهما على العمل بأجرة المثل ، وقدره بنصف الربح فرده عليهما أجرة ، وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي .

والوجه الثالث : أن عمر - رضي الله عنه - أجرى عليهما في الربح حكم القراض الصحيح وإن لم يتقدم معهما عقد ؛ لأنه كان من الأمور العامة فاتسع حكمه عن العقود الخاصة ، فلما رأى المال لغيرهما ، والعمل منهما ، ولم يرهما متعديين فيه ، جعل ذلك عقد قراض صحيح ، [ ص: 307 ] وهذا ذكره أبو علي بن أبي هريرة . فعلى هذا الوجه يكون القول والفعل معا دليلا مع ما رواه الشافعي عن عمر - رضي الله عنه - أنه دفع مالا قراضا على النصف ، وروى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده أن عثمان - رضي الله عنه - دفع إليه مالا قراضا على النصف .

ثم دليل جوازه من طريق المعنى أنه لما جاءت السنة بالمساقاة وهي عمل في محل يستوجب به شطر ثمرها اقتضى جواز القراض بالمال ليعمل فيه به ببعض ربحه ، فكانت السنة في المساقاة دليلا على جواز القراض ، وكان الإجماع على صحة القراض دليلا على جواز المساقاة ، ولأن فيهما رفقا بين عجز عن التصرف من أرباب الأموال ومعونة لمن عدم المال من ذوي الأعمال لما يعود على الفريقين من نفعهما ويشتركان فيه من ربحهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية