الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " وإذا التحمت الحرب فمخوف ، فإن كان في أيدي مشركين يقتلون الأسرى فمخوف ( وقال ) في الإملاء إذا قدم من عليه قصاص غير مخوف ما لم يجرحوا ؛ لأنه يمكن أن يتركوا فيحيوا ، ( قال المزني ) الأول أشبه بقوله وقد يمكن أن يسلم من التحام الحرب ومن كل مرض مخوف " .

قال الماوردي : ذكر الشافعي هاهنا ثلاث مسائل فيمن التحم في الحرب ، فهذا ينظر ، فإن تكافأ الفريقان فمخوف عليهما ، وإن كان أحدهما أكثر عددا من الآخر فليس بمخوف على الأكثرين وهو مخوف على الأقلين .

وسواء كان القتال بين المسلمين أو مع المشركين فجعل الشافعي التحام القتال مخوفا .

والمسألة الثانية : إذا حمل المسلم أسيرا في أيدي المشركين ، فإن كانوا لا يقتلون الأسرى على عادة قد عرفت لهم في استيفائهم لمن رق أو فدى فغير مخوف ، وإن عرفوا بقتل الأسرى قال الشافعي : هو مخوف ، فجعل الأسر خوفا كالتحام القتال .

والمسألة الثالثة : من قدم للقصاص وجب عليه ، قال الشافعي : هو غير مخوف ما لم يجرح ، فلم يجعل التقديم للقصاص مخوفا ، بخلاف التحام القتال والأسير .

واختلف أصحابنا فكان أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة وأبو حامد [ ص: 325 ] المروزي وطائفة كبيرة يجمعون بين الجوابين في المسائل الثلاث ويخرجونها على قولين :

أحدهما : أن يكون مخوفا ، الحال في المسائل الثلاث لقوله تعالى : ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون [ آل عمران : 143 ] فجعل خوف القتل كخوف المرض في رؤية الموت فيهما فدل على استوائهما ، ولأن نفس المريض أسكن من هؤلاء لما يرجو من صلاح الدواء ، فكان ذلك بالخوف أحق .

والقول الثاني : أنه لا يكون مخوف الحال في هذه المسائل الثلاث ؛ لأن خوف المرض حال في جسمه ومماس لجسده ، فصار حكمه فيه مستقرا وليست حاله في هذه المسائل الثلاث كذلك ؛ لأنه يخاف من قرب أجله بحلول ما يحدث في جسده ويناله في يده ، وذلك غير حال ولا مستقر وإنما هو بمنزلة الشيخ الهرم الذي هو لعلو السن منتظر الموت في يوم بعد يوم وعطاياه من رأس ماله ، فكذلك هؤلاء .

وقال آخرون من أصحابنا : بل جواب الشافعي على ظاهره في المسائل الثلاث ، فيكون الأسر والتحام القتال خوفا ولا يكون التقديم للقصاص خوفا .

والفرق بينهما أن المشركين يرون قتل الأسرى دينا ونحلة فالعفو منهم غير موجود وليس كذلك ولي القصاص ؛ لأن ما وصف الله تعالى به المسلمين من الرأفة والرحمة وندبهم إليه من الأخذ بالعفو هو الأغلب من أحوالهم والأشبه بأحوالهم ، فكان ذلك فرقا بين الفريقين ، وقال ابن سريج : المسائل الثلاث كلها على سواء في اعتبار ما يدل عليه الحال وتشهد به الصورة من أن ينظر ، فإن كان ولي القصاص قاسيا جنفا فالأغلب من حاله التشفي وأنه ممن لا يمن ولا يعفو ، فتكون حال المقتص منه مخوفة كالأسير إذا كان في يد من لا يعفو عن أسير .

وإن كان ولي القصاص رحيما ومن الحنق والقوة بعيدا ، فالأغلب من حاله العفو وأن يكن عن قدرة ، فتكون حال المقتص منه غير مخوفة ، كالأسير إذا كان في يد من يعفو عن الأسرى .

التالي السابق


الخدمات العلمية