مسألة : قال
الشافعي - رحمه الله تعالى - : " وإذا التحمت الحرب فمخوف ، فإن كان في أيدي مشركين يقتلون الأسرى فمخوف ( وقال ) في الإملاء إذا قدم من عليه قصاص غير مخوف ما لم يجرحوا ؛ لأنه يمكن أن يتركوا فيحيوا ، ( قال
المزني ) الأول أشبه بقوله وقد يمكن أن يسلم من التحام الحرب ومن كل مرض مخوف " .
قال
الماوردي : ذكر
الشافعي هاهنا ثلاث مسائل فيمن التحم في الحرب ، فهذا ينظر ، فإن تكافأ الفريقان فمخوف عليهما ، وإن كان أحدهما أكثر عددا من الآخر فليس بمخوف على الأكثرين وهو مخوف على الأقلين .
وسواء كان القتال بين المسلمين أو مع المشركين فجعل
الشافعي التحام القتال مخوفا .
والمسألة الثانية : إذا حمل المسلم أسيرا في أيدي المشركين ، فإن كانوا لا يقتلون الأسرى على عادة قد عرفت لهم في استيفائهم لمن رق أو فدى فغير مخوف ، وإن عرفوا بقتل الأسرى قال
الشافعي : هو مخوف ، فجعل الأسر خوفا كالتحام القتال .
والمسألة الثالثة : من قدم للقصاص وجب عليه ، قال
الشافعي : هو غير مخوف ما لم يجرح ، فلم يجعل التقديم للقصاص مخوفا ، بخلاف التحام القتال والأسير .
واختلف أصحابنا فكان
أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة وأبو حامد [ ص: 325 ] المروزي وطائفة كبيرة يجمعون بين الجوابين في المسائل الثلاث ويخرجونها على قولين :
أحدهما : أن يكون مخوفا ، الحال في المسائل الثلاث لقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=143ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون [ آل عمران : 143 ] فجعل
nindex.php?page=treesubj&link=7353خوف القتل كخوف المرض في رؤية الموت فيهما فدل على استوائهما ، ولأن نفس المريض أسكن من هؤلاء لما يرجو من صلاح الدواء ، فكان ذلك بالخوف أحق .
والقول الثاني : أنه لا يكون مخوف الحال في هذه المسائل الثلاث ؛ لأن خوف المرض حال في جسمه ومماس لجسده ، فصار حكمه فيه مستقرا وليست حاله في هذه المسائل الثلاث كذلك ؛ لأنه يخاف من قرب أجله بحلول ما يحدث في جسده ويناله في يده ، وذلك غير حال ولا مستقر وإنما هو بمنزلة الشيخ الهرم الذي هو لعلو السن منتظر الموت في يوم بعد يوم وعطاياه من رأس ماله ، فكذلك هؤلاء .
وقال آخرون من أصحابنا : بل جواب
الشافعي على ظاهره في المسائل الثلاث ، فيكون الأسر والتحام القتال خوفا ولا يكون التقديم للقصاص خوفا .
والفرق بينهما أن المشركين يرون قتل الأسرى دينا ونحلة فالعفو منهم غير موجود وليس كذلك ولي القصاص ؛ لأن ما وصف الله تعالى به المسلمين من الرأفة والرحمة وندبهم إليه من الأخذ بالعفو هو الأغلب من أحوالهم والأشبه بأحوالهم ، فكان ذلك فرقا بين الفريقين ، وقال
ابن سريج : المسائل الثلاث كلها على سواء في اعتبار ما يدل عليه الحال وتشهد به الصورة من أن ينظر ، فإن كان ولي القصاص قاسيا جنفا فالأغلب من حاله التشفي وأنه ممن لا يمن ولا يعفو ، فتكون حال المقتص منه مخوفة كالأسير إذا كان في يد من لا يعفو عن أسير .
وإن كان ولي القصاص رحيما ومن الحنق والقوة بعيدا ، فالأغلب من حاله العفو وأن يكن عن قدرة ، فتكون حال المقتص منه غير مخوفة ، كالأسير إذا كان في يد من يعفو عن الأسرى .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ
الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " وَإِذَا الْتَحَمَتِ الْحَرْبُ فَمَخُوفٌ ، فَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِي مُشْرِكِينَ يَقْتُلُونَ الْأَسْرَى فَمَخُوفٌ ( وَقَالَ ) فِي الْإِمْلَاءِ إِذَا قَدِمَ مَنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ غَيْرَ مَخُوفٍ مَا لَمْ يَجْرَحُوا ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُتْرَكُوا فَيَحْيَوْا ، ( قَالَ
الْمُزَنِيُّ ) الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَسْلَمَ مِنَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ وَمِنْ كُلِّ مَرَضٍ مَخُوفٍ " .
قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ : ذَكَرَ
الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا ثَلَاثَ مَسَائِلَ فِيمَنِ الْتَحَمَ فِي الْحَرْبِ ، فَهَذَا يُنْظَرُ ، فَإِنْ تَكَافَأَ الْفَرِيقَانِ فَمَخُوفٌ عَلَيْهِمَا ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ عَدَدًا مِنَ الْآخَرِ فَلَيْسَ بِمَخُوفٍ عَلَى الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ مَخُوفٌ عَلَى الْأَقَلِّينَ .
وَسَوَاءٌ كَانَ الْقِتَالُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَجَعَلَ
الشَّافِعِيُّ الْتِحَامَ الْقِتَالِ مَخُوفًا .
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إِذَا حُمِلَ الْمُسْلِمُ أَسِيرًا فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ ، فَإِنْ كَانُوا لَا يَقْتُلُونَ الْأَسْرَى عَلَى عَادَةٍ قَدْ عُرِفَتْ لَهُمْ فِي اسْتِيفَائِهِمْ لِمَنْ رَقَّ أَوْ فَدَى فَغَيْرُ مَخُوفٍ ، وَإِنْ عُرِفُوا بِقَتْلِ الْأَسْرَى قَالَ
الشَّافِعِيُّ : هُوَ مَخُوفٌ ، فَجَعَلَ الْأَسْرَ خَوْفًا كَالْتِحَامِ الْقِتَالِ .
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : مَنْ قَدِمَ لِلْقِصَاصِ وَجَبَ عَلَيْهِ ، قَالَ
الشَّافِعِيُّ : هُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ مَا لَمْ يُجْرَحْ ، فَلَمْ يَجْعَلِ التَّقْدِيمَ لِلْقِصَاصِ مَخُوفًا ، بِخِلَافِ الْتِحَامِ الْقِتَالِ وَالْأَسِيرِ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ
أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبُو حَامِدٍ [ ص: 325 ] الْمَرْوَزِيُّ وَطَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ وَيُخْرِجُونَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَخُوفًا ، الْحَالَ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=143وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [ آلِ عِمْرَانَ : 143 ] فَجَعَلَ
nindex.php?page=treesubj&link=7353خَوْفَ الْقَتْلِ كَخَوْفِ الْمَرَضِ فِي رُؤْيَةِ الْمَوْتِ فِيهِمَا فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَائِهِمَا ، وَلِأَنَّ نَفْسَ الْمَرِيضِ أَسْكَنُ مِنْ هَؤُلَاءِ لِمَا يَرْجُو مِنْ صَلَاحِ الدَّوَاءِ ، فَكَانَ ذَلِكَ بِالْخَوْفِ أَحَقَّ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَخُوفَ الْحَالِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّ خَوْفَ الْمَرَضِ حَالٌّ فِي جِسْمِهِ وَمُمَاسٌّ لِجَسَدِهِ ، فَصَارَ حُكْمُهُ فِيهِ مُسْتَقِرًّا وَلَيْسَتْ حَالُهُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ مِنْ قُرْبِ أَجَلِهِ بِحُلُولِ مَا يَحْدُثُ فِي جَسَدِهِ وَيَنَالُهُ فِي يَدِهِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ حَالٍ وَلَا مُسْتَقِرٍّ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْخِ الْهَرِمِ الَّذِي هُوَ لِعُلُوِّ السِّنِّ مُنْتَظِرُ الْمَوْتِ فِي يَوْمٍ بَعْدَ يَوْمٍ وَعَطَايَاهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ .
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا : بَلْ جَوَابُ
الشَّافِعِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ ، فَيَكُونُ الْأَسْرُ وَالْتِحَامُ الْقِتَالِ خَوْفًا وَلَا يَكُونُ التَّقْدِيمُ لِلْقِصَاصِ خَوْفًا .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَرَوْنَ قَتْلَ الْأَسْرَى دِينًا وَنِحْلَةً فَالْعَفْوُ مِنْهُمْ غَيْرُ مَوْجُودٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلِيُّ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ مَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَنَدَبَهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْأَخْذِ بِالْعَفْوِ هُوَ الْأَغْلَبُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَالْأَشْبَهُ بِأَحْوَالِهِمْ ، فَكَانَ ذَلِكَ فَرْقًا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ ، وَقَالَ
ابْنُ سُرَيْجٍ : الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ كُلُّهَا عَلَى سَوَاءٍ فِي اعْتِبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَالُ وَتَشْهَدُ بِهِ الصُّورَةُ مِنْ أَنْ يُنْظَرَ ، فَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الْقِصَاصُ قَاسِيًا جَنِفًا فَالْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ التَّشَفِّي وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَمُنُّ وَلَا يَعْفُو ، فَتَكُونُ حَالُ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ مَخُوفَةً كَالْأَسِيرِ إِذَا كَانَ فِي يَدِ مَنْ لَا يَعْفُو عَنْ أَسِيرٍ .
وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الْقِصَاصِ رَحِيمًا وَمِنَ الْحَنَقِ وَالْقُوَّةِ بَعِيدًا ، فَالْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ الْعَفْوُ وَأَنْ يَكُنْ عَنْ قُدْرَةٍ ، فَتَكُونُ حَالُ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ غَيْرَ مَخُوفَةٍ ، كَالْأَسِيرِ إِذَا كَانَ فِي يَدِ مَنْ يَعْفُو عَنِ الْأَسْرَى .