الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي - رضي الله عنه - : " وإن تعدى فيها ثم ردها في موضعها فهلكت ضمن لخروجه بالتعدي من الأمانة " .

قال الماوردي : اعلم أن التعدي الذي يجب به ضمان الوديعة فعلى سبعة أقسام :

أحدها : التفريط في الحرز ، ذلك مثل أن يضعها في غير حرز ، أو يكون قد وضعها في [ ص: 362 ] حرز ثم أخرجها إلى ما ليس بحرز ، أو يكون قد أعلم بمكانها من أهله من لا يؤمن عليها ، فهذا وما أشبهه من التفريط عدوان يجب به الضمان .

والقسم الثاني : الاستعمال ، مثل أن يستودعه ثوبا فيلبسه ، أو دابة فيركبها ، أو بساطا فيفترشه ، فهذا وما شاكله عدوان يجب به الضمان .

والقسم الثالث : خلطها بغيرها وذلك ضربان :

أحدهما : أن يخلطها بمال نفسه ، كما لو أودع دراهم فخلطها بدراهم حتى لم تتميز ، فهذا عدوان يوجب الضمان ، وكذلك لو خلطها بدراهم غير المودع أيضا .

والضرب الثاني : أن يخلطها بمال المودع ، كأنه أودع وديعتين من جنس واحد فخلط إحداهما بالأخرى ، ففي تعديه وضمانه بذلك وجهان أصحهما يضمنها ؛ لأن مالكها لما ميزها لم يرض بخلطها ، ولكن لو خلطها بما يتميز منها ، مثل أن يخلط دراهم بدنانير لم يضمن إلا أن يكون خلط الدراهم بالدنانير قد نقص قيمته من الدنانير فيضمن قدر النقصان .

والقسم الرابع : الخيانة وهو أن يخرجها ليبيعها أو لينفقها ، فهذا عدوان يجب به الضمان ، وكذلك لو جحدها .

والقسم الخامس : التعرف لها ، مثل أن تكون دراهم فيزنها أو يعدها ، أو ثيابا فيعرف طولها وعرضها ، ففي تعديه وضمانه بذلك وجهان :

أحدهما : يضمن ؛ لأنه نوع من التصرف .

والثاني : لا يضمن ؛ لأنه قد ربما أراد به فضل الاحتياط .

والقسم السادس : التصرف في بعض ما استظهر به المودع في حرزها وذلك ضربان :

أحدهما : أن يكون منيعا بالقفل الذي يفتحه ، فهذا عدوان يجب به الضمان .

والثاني : أن يكون غير منيع كالختم يكسره ، والشداد يحله ، ففي ضمانه بذلك وجهان أصحهما يضمن ، لما فيه من هتك الحرز ؛ ولذلك قال عمر - رضي الله عنه - - لشريح : طينة خير من طينة ، يعني أن طينة الختم تنفي التهمة .

والقسم السابع : أن ينوي الخيانة والتعدي ، فقد كان أبو العباس بن سريج يرى أن ذلك موجب لضمانها ويجعل النية فيها كالفعل في وجوب الضمان ، استدلالا بأن النية في تملك اللقطة يقوم مقام التصرف في ثبوت الملك ، فكذلك في ضمان الوديعة ، والذي عليه جمهور أصحابنا أنه لا يضمنها بالنية ؛ لأن النية إنما تراعى في حقوق الله تعالى لا في حقوق الآدميين ، ولو جاز أن يصير متعديا بالنية لجاز أن يصير خائنا وسارقا بالنية ، ولأن النية ما أثرت في حرزها فلم تؤثر في ضمانها ، غير أنه يأثم بها ، فأما اللقطة فمع النية في تملكها علم ظاهر وهو انقضاء حق التعريف ، وإن كان من أصحابنا من لم يجعله مالكا مع النية إلا [ ص: 363 ] بالتصرف ، وقال أبو حامد المروروذي : يجعله مالكا مع النية إلا بالتصرف ، فإن نوى حبسها لنفسه وإن لم يردها على ربها ضمنها وإن نوى أن يخرجها من حرزها إخراج عدوان لم يضمنها وهذا أصح .

والفرق بينهما : أنه إذا نوى ألا يردها أمسكها لنفسه فضمنها ، وإذا نوى أن يخرجها فقد أمسكها لمالكها فلم يضمنها .

التالي السابق


الخدمات العلمية