الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " قالت عائشة - رضي الله عنها - : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء ، قال : كأنها تعني اللاتي حظرهن عليه " .

قال الماوردي : قد ذكرنا في حظر الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في طلاق نسائه بعد تخييرهن ، وتحريم النكاح عليهن ، فأما تحريم طلاقهن فقد كان باقيا عليه إلى أن قبضه الله تعالى إليه ، وما كان من طلاقه لحفصة واسترجاعها وإزماعه طلاق سودة حتى وهبت يومها لعائشة ، فإنما كان قبل التخيير ، وأما تحريم النكاح فقد اختلف في ثبوت حكمه ونسخه ، فزعم بعض أهل العراق : أن تحريم النكاح عليه كان ثابتا إلى أن قبضه الله تعالى إليه بدلالة أشياء .

أحدهما : قوله تعالى : لا يحل لك النساء من بعد [ الأحزاب : 52 ] وكان هذا على الأبد .

والثاني : أن الله تعالى جعله مقابلة على اختيارهن على طريق الجزاء ، فلم يجز أن يتعقبه رجوع .

والثالث : أنه لما كان تحريم طلاقهن باقيا وجب أن يكون تحريم النكاح عليهن باقيا : لأنهما جميعا جزاء .

وذهب الشافعي إلى أن تحريم النكاح عليهن نسخ حين اتسعت الفتوح ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما مات حتى أحل له النساء ، وهذا قول عائشة وأبي بن كعب ، والدليل قوله [ ص: 14 ] تعالى : ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك الآية [ الأحزاب : 50 ] .

والإحلال يقضي عدم الحظر ، ولم يحظر على النبي صلى الله عليه وسلم النكاح قبل التخيير ، فدل على أن الإحلال والإباحة بعد حظر التخيير .

فإن قيل : فهذا الإحلال إنما يوجه إلى نسائه اللاتي خيرهن واخترنه - وهذا قول مجاهد - قيل : لا يصح من وجهين :

أحدهما : أنهن قد كن حلاله قبل نزول هذه الآية بإحلالهن .

والثاني : أنه قال فيها : وبنات عمك وبنات عماتك [ الأحزاب : 50 ] ولم يكن في نسائه المتخيرات أحد من بنات عمه ولا من بنات عماته .

فإن قيل : فهذه الآية متقدمة في التلاوة على قوله تعالى : لا يحل لك النساء من بعد ولا يجوز أن يكون المتقدم ناسخا للمتأخر .

قيل : هي وإن كانت متقدمة في التلاوة فهي متأخرة في التنزيل ، فجاز النسخ بها كما أن قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [ البقرة : 234 ] ناسخ لقوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول [ البقرة : 240 ] وهي متقدمة في التلاوة ، لكنها متأخرة في التنزيل .

فإن قيل : فهلا قدمت تلاوة ما تأخر تنزيله ؟ .

قيل : لأن جبريل عليه السلام كان إذا نزل على رسول صلى الله عليه وسلم بآية من القرآن أمره أن يضعها في موضع كذا .

فإن قيل : فلم أمره بتقديم تلاوة ما تأخر تنزيله .

قيل : لسبق القارئ إلى معرفة حكمه حتى إن لم يعرف حكم ما بعده من المنسوخ أجزأه .

ويدل على نسخ الحظر أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم اصطفى صفية بنت حيي من سبي خيبر سنة ثمان ، فأعتقها وتزوجها ، وذلك بعد التخيير ، فقد قالت عائشة وأبي بن كعب : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أبيح له النساء ، وهما بذلك أعرف : ولأن علة الحظر الضيق والشدة ، فإذا زالت زال موجبها ، وقد فتح الله تعالى على رسوله حتى وسع على نسائه ، وأجرى لكل واحدة منهن ثمانين صاعا من تمر وأربعين صاعا من شعير سوى الهدايا والألطاف ، وأما الاستدلال بالآية فقد ذكرنا وجه نسخها ، وأما الجزاء وهو مشروط بحال الضيق والشدة ، وأما الطلاق فالفرق بينه وبين التزويج عليهن أن في طلاقهن قطعا لعصمتهن ، ويخرجن به أن يكون من أزواجه في الآخرة ، وليس في التزويج عليهن قطع لعصمتهن فافترقا والله أعلم .

فإذا ثبت نسخ الحظر مما ذكرنا فقد اختلف أصحابنا في الإباحة ، هل هي عامة في جميع النساء أو مقصورة على المسميات في الآية . إذا هاجرن معه على وجهين :

أحدهما : أن الإباحة مقصورة على المسميات من بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله [ ص: 15 ] وبنات خالاته اللاتي هاجرن معه ، وهذا قول أبي بن كعب لرواية أبي صالح عن أم هانئ ، قالت : نزلت هذه الآية فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني فنهي عني : لأني لم أهاجر .

والوجه الثاني : وهو أظهرهما أن الإباحة عامة في جميع النساء : لأنه تزوج بعدها صفية ، وليست من المسميات فيها ، ولأن الإباحة رفعت ما تقدمها من الحظر ، ولأنه في استباحة النساء أوسع حكما من جميع أمته ، فلم يجز أن يقصر عنهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية