الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " قالت عائشة - رضي الله عنها - : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء ، قال : كأنها تعني اللاتي حظرهن عليه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : قد ذكرنا في حظر الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في طلاق نسائه بعد تخييرهن ، وتحريم النكاح عليهن ، فأما تحريم طلاقهن فقد كان باقيا عليه إلى أن قبضه الله تعالى إليه ، وما كان من طلاقه لحفصة واسترجاعها وإزماعه طلاق سودة حتى وهبت يومها لعائشة ، فإنما كان قبل التخيير ، وأما تحريم النكاح فقد اختلف في ثبوت حكمه ونسخه ، فزعم بعض أهل العراق : أن تحريم النكاح عليه كان ثابتا إلى أن قبضه الله تعالى إليه بدلالة أشياء .

                                                                                                                                            أحدهما : قوله تعالى : لا يحل لك النساء من بعد [ الأحزاب : 52 ] وكان هذا على الأبد .

                                                                                                                                            والثاني : أن الله تعالى جعله مقابلة على اختيارهن على طريق الجزاء ، فلم يجز أن يتعقبه رجوع .

                                                                                                                                            والثالث : أنه لما كان تحريم طلاقهن باقيا وجب أن يكون تحريم النكاح عليهن باقيا : لأنهما جميعا جزاء .

                                                                                                                                            وذهب الشافعي إلى أن تحريم النكاح عليهن نسخ حين اتسعت الفتوح ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما مات حتى أحل له النساء ، وهذا قول عائشة وأبي بن كعب ، والدليل قوله [ ص: 14 ] تعالى : ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك الآية [ الأحزاب : 50 ] .

                                                                                                                                            والإحلال يقضي عدم الحظر ، ولم يحظر على النبي صلى الله عليه وسلم النكاح قبل التخيير ، فدل على أن الإحلال والإباحة بعد حظر التخيير .

                                                                                                                                            فإن قيل : فهذا الإحلال إنما يوجه إلى نسائه اللاتي خيرهن واخترنه - وهذا قول مجاهد - قيل : لا يصح من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنهن قد كن حلاله قبل نزول هذه الآية بإحلالهن .

                                                                                                                                            والثاني : أنه قال فيها : وبنات عمك وبنات عماتك [ الأحزاب : 50 ] ولم يكن في نسائه المتخيرات أحد من بنات عمه ولا من بنات عماته .

                                                                                                                                            فإن قيل : فهذه الآية متقدمة في التلاوة على قوله تعالى : لا يحل لك النساء من بعد ولا يجوز أن يكون المتقدم ناسخا للمتأخر .

                                                                                                                                            قيل : هي وإن كانت متقدمة في التلاوة فهي متأخرة في التنزيل ، فجاز النسخ بها كما أن قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [ البقرة : 234 ] ناسخ لقوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول [ البقرة : 240 ] وهي متقدمة في التلاوة ، لكنها متأخرة في التنزيل .

                                                                                                                                            فإن قيل : فهلا قدمت تلاوة ما تأخر تنزيله ؟ .

                                                                                                                                            قيل : لأن جبريل عليه السلام كان إذا نزل على رسول صلى الله عليه وسلم بآية من القرآن أمره أن يضعها في موضع كذا .

                                                                                                                                            فإن قيل : فلم أمره بتقديم تلاوة ما تأخر تنزيله .

                                                                                                                                            قيل : لسبق القارئ إلى معرفة حكمه حتى إن لم يعرف حكم ما بعده من المنسوخ أجزأه .

                                                                                                                                            ويدل على نسخ الحظر أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم اصطفى صفية بنت حيي من سبي خيبر سنة ثمان ، فأعتقها وتزوجها ، وذلك بعد التخيير ، فقد قالت عائشة وأبي بن كعب : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أبيح له النساء ، وهما بذلك أعرف : ولأن علة الحظر الضيق والشدة ، فإذا زالت زال موجبها ، وقد فتح الله تعالى على رسوله حتى وسع على نسائه ، وأجرى لكل واحدة منهن ثمانين صاعا من تمر وأربعين صاعا من شعير سوى الهدايا والألطاف ، وأما الاستدلال بالآية فقد ذكرنا وجه نسخها ، وأما الجزاء وهو مشروط بحال الضيق والشدة ، وأما الطلاق فالفرق بينه وبين التزويج عليهن أن في طلاقهن قطعا لعصمتهن ، ويخرجن به أن يكون من أزواجه في الآخرة ، وليس في التزويج عليهن قطع لعصمتهن فافترقا والله أعلم .

                                                                                                                                            فإذا ثبت نسخ الحظر مما ذكرنا فقد اختلف أصحابنا في الإباحة ، هل هي عامة في جميع النساء أو مقصورة على المسميات في الآية . إذا هاجرن معه على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الإباحة مقصورة على المسميات من بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله [ ص: 15 ] وبنات خالاته اللاتي هاجرن معه ، وهذا قول أبي بن كعب لرواية أبي صالح عن أم هانئ ، قالت : نزلت هذه الآية فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني فنهي عني : لأني لم أهاجر .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو أظهرهما أن الإباحة عامة في جميع النساء : لأنه تزوج بعدها صفية ، وليست من المسميات فيها ، ولأن الإباحة رفعت ما تقدمها من الحظر ، ولأنه في استباحة النساء أوسع حكما من جميع أمته ، فلم يجز أن يقصر عنهم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية