الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : [ القول في اشتراط الولي في عقد النكاح ]

فإن أرادت المرأة أن تنفرد بالعقد على نفسها من غير ولي ، فقد اختلف الفقهاء فيه على ستة مذاهب .

مذهب الشافعي منها : أن الولي شرط في نكاحها لا يصح العقد إلا به وليس لها أن تنفرد بالعقد على نفسها ، وإن أذن لها وليها ، سواء كانت صغيرة أو كبيرة ، شريفة أو دنية ، بكرا أو ثيبا .

وبه قال من الصحابة عمر ، وعلي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعائشة ، رضي الله عنهم .

ومن التابعين : الحسن ، وابن المسيب ، وعمر بن عبد العزيز ، وشريح ، والنخعي .

ومن الفقهاء : الأوزاعي ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، وأحمد ، وإسحاق .

وقال أبو حنيفة : إن لم يكن عليها في مالها ولاية لبلوغها وعقلها لم يكن عليها في نكاحها ولاية ، وجاز أن تنفرد بالعقد على نفسها وترده إلى من شاءت من رجل أو امرأة ، ولا اعتراض عليها من الوالي إلا أن تضع نفسها في غير كفء ، وإن كان عليها في مالها ولاية لجنون أو صغر لم تنكح نفسها إلا بولي .

قال مالك : إن كانت ذات شرف أو جمال أو مال صح نكاحها بغير ولي .

وقال داود : إن كانت بكرا لم يصح نكاحها إلا بولي ، وإن كانت ثيبا صح بغير ولي .

وقال أبو ثور : إن أذن لها وليها جاز أن تعقد على نفسها ، وإن لم يأذن لها لم يجز .

وقال أبو يوسف : تأذن لمن شاءت من الرجال في تزويجها دون النساء ، ويكون موقوفا على إجازة وليها .

فأما أبو حنيفة فاستدل بقوله تعالى : فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف [ البقرة : 234 ] فنسب النكاح إليهن ورفع الاعتراض عنهن ، وبرواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الأيم أحق بنفسها من وليها ، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها .

وبرواية نافع بن جبير وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ليس لولي مع الثيب أمر .

[ ص: 39 ] وبما روي أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أبي ونعم الأب هو زوجني بابن أخ له ليرفع بي خسيسته ، فرد نكاحها . فقالت : قد اخترت ما فعل أبي ، وإنما أردت ليعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء ، ولأن كل من جاز له التصرف في ماله جاز له التصرف في نكاحه ، كالرجل طردا والصغير عكسا .

ولأنه عقد يجوز أن يتصرف فيه الرجل ، فجاز أن تتصرف فيه المرأة كالبيع ، ولأنه عقد على منفعة فجاز أن تتولاه المرأة كالإجارة ، ولأن لما جاز تصرفها في المهر وهو بدل من العقد جاز تصرفها في العقد .

وتحريره : أن من جاز تصرفه في البدل جاز تصرفه في المبدل ، كالبالغ في الأموال طردا وكالصغير عكسا .

والدلالة على جماعتهم قوله تعالى : فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف [ البقرة : 232 ] فدلت الآية على ثبوت الولاية من وجهين :

أحدهما : نهي الأولياء عن عضلهن ، والعضل المنع في أحد التأويلين ، والتضييق في التأويل الآخر ، فلو جاز لهن التفرد بالعقد لما أثر عضل الأولياء ، ولما توجه إليهم نهي .

والثاني : قوله في سياق الآية : إذا تراضوا بينهم بالمعروف [ البقرة : 232 ] . والمعروف ما تناوله العرف بالاختيار وهو الولي وشاهدان .

فإن قيل : فالمنع من العضل إنما توجه إلى الأزواج لتقديم ذكرهم دون الأولياء الذين ليس لهم في الآية ذكر ، فمن ذلك جوابان :

أحدهما : أنه لا يجوز توجيه النهي إلى الأزواج ، لأنه إن عضل الزوج قبل العدة فحق لا يجوز أن ينهى عنه ، وإن عضل بعد العدة فهو غير مؤثر .

والثاني : أن ما روي من سبب نزولها في معقل بن يسار في أشهر القولين ، أو جابر في أضعفهما ، يوجب حمله على الأولياء دون الأزواج ، وليس ينكر أن يعود الخطاب إليهم ، وإن لم يتقدم لهم ذكر إذا دل الخطاب عليه كما قال : إن الإنسان لربه لكنود وإنه على ذلك لشهيد [ العاديات : 6 ، 7 ] يعني الله تعالى : وإنه لحب الخير لشديد [ العاديات : 8 ] . يعني الإنسان ، وقال تعالى : فانكحوهن بإذن أهلهن [ النساء : 25 ] أي أوليائهن ، فجعل إذن الأولياء شرطا في نكاحهن ، فدل على بطلانه لعدمه .

ويدل على ذلك من السنة ما رواه ابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، وعائشة ، وأنس ، وعمران بن الحصين ، وأبو موسى ، وأثبت الروايات رواية أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا نكاح إلا بولي .

[ ص: 40 ] وروى ابن عباس : لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل فكان على عمومه في كل نكاح من صغيرة وكبيرة وشريفة ودنية وبكر وثيب .

فإن قالوا : نحن نقول بموجبه ، لأن المرأة ولية نفسها فإذا زوجت نفسها كان نكاحها بولي .

فعن ذلك جوابان : أنه خطاب لا يفيد ، لعلمنا أنه لا نكاح إلا بمنكوحة ولا يتميز عن سائر العقود ، وقد خص النكاح به .

والثاني : أن قوله : لا نكاح إلا بولي يقتضي أن يكون الولي رجلا ، ولو كانت هي المراد لقال : لا نكاح إلا بولية ، ويدل عليه ما رواه الشافعي ، عن مسلم بن خالد الزنجي ، عن ابن جريج ، عن سليمان بن موسى ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، وإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن اشتجروا - أو قال : اختلفوا - فالسلطان ولي من لا ولي له .

وهذا نص في إبطال النكاح بغير ولي من غير تخصيص ولا تمييز ، واعترضوا على هذا الحديث بثلاثة أسئلة :

أحدها : أن قالوا : مدار هذا الحديث على رواية الزهري ، وقد روى ابن علية عن ابن جريج أنه قال : لقيت الزهري فسألته عنه قال : لا أعرفه . وعنه ثلاثة أجوبة :

أحدها : أنه قد رواه عن الزهري أربعة : سليمان بن موسى ، ومحمد بن إسحاق ، وجعفر بن ربيعة ، والحجاج بن أرطاة ، ورواه عن عروة ثلاثة : الزهري ، وهشام بن عروة ، وأبو الغصن ثابت بن قيس ، فلم يصح إضافة إنكاره إلى الزهري مع العدد الذي رووه عنه ، ولو صح إنكاره له لما أثر فيه مع رواية غير الزهري له عن عروة .

والثاني : ما قاله بعض أصحاب الحديث : أن الزهري أنكر سليمان بن موسى ، وقال : لا أعرفه ، وإلا فالحديث أشهر من أن ينكره الزهري ولا يعرفه ، وليس جهل المحدث بالراوي عنه مانعا من قبول روايته عنه ، ولا معرفته شرطا في صحة حديثه .

والثالث : أنه لا اعتبار بإنكار المحدث للحديث بعد روايته عنه ، وليس استدامة ذكر [ ص: 41 ] المحدث شرطا في صحة حديثه ، فإن ربيعة روى عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد ثم نسي سهيل الحديث ، فحدث به ربيعة ، وكان سهيل إذا حدث به قال : أخبرني علي عن أبي عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد .

السؤال الثاني : إن قالوا : هذا الحديث لا يصح عن عائشة فقد رويتموه عنها ، لأنها زوجت بنت أخيها عبد الرحمن وكان غائبا بالشام ، فلما قدم قال : أمثلي يقتات عليه في بناته ، فأمضى النكاح .

وقيل : إن ما روته من الحديث أثبت عند أصحاب الحديث مما روي عنها من نكاح ابنة أخيها ، وقد ذكر الدارقطني لإبطاله وجوها ، على أن الشافعي قد أفرد للجواب عنه بابا فنحن نذكره فيه .

السؤال الثالث : إن قالوا : هو محمول على من عليها من النساء ولاية بصغر أو رق ، وتلك لا يجوز نكاحها إلا بولي ، وقد روي في الخبر : إن امرأة نكحت بغير إذن مواليها ، فنكاحها باطل . فاقتضى صريح هذه الرواية حملها على الأمة ، ودليل تلك آكد ، وأن حمله على الصغيرة ، وخرجت الحرة الكبيرة في الروايتين . والجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أن على جميع النساء في النكاح ولاية ، لجواز اعتراض الأولياء على جميعهن .

والثاني : أن حمله على الصغير لا يجوز من وجهين :

أحدهما : لاستواء الصغير والصغيرة فيه ، ولانتفاء تخصيص النساء بالذكر تأثير .

والثاني : لاستواء النكاح وغيره من العقود ، فلا يبقى لتخصيص النكاح بالذكر تأثير ، وحمله على الأمة لا يجوز من وجهين :

أحدهما : لاستواء العبد والأمة فيه لم يكن لتخصيص الأمة تأثير .

والثاني : لقوله في آخر الخبر : فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له والسلطان لا يكون وليا للأمة ، وإن عضلها مواليها ، وروايتهم أنه قال : أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل . والمولى يطلق على الولي كما قال تعالى : وإني خفت الموالي من ورائي [ مريم : 5 ] . يعني الأولياء ، لأنه لم يكن عليه رق فيكون له مولى ، على أننا نستعمل الروايتين فتكون روايتنا مستعملة في الحرة ، وروايتهم مستعملة في الأمة ، فلا [ ص: 42 ] يتعارضان ، ويدل عليه ما رواه ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تنكح المرأة المرأة ، ولا تنكح المرأة نفسها والتي تنكح نفسها هي الزانية " .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح : الزوج والولي وشاهدان . ولأنه إجماع الصحابة : لأنه قول من ذكرنا من الرواة الثمانية ، وهو مروي عن عمر وعلي - رضي الله عنهما - أما علي فروى عن الشعبي ، أنه قال : لم يكن في الصحابة أشد في النكاح بغير ولي من علي بن أبي طالب ، وأما عمر فروي عنه أنه قال : لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها ، أو ذي الرأي من أهلها ، أو السلطان . وفيه تأويلان :

أحدهما : إلا بإذن وليها إن كان واحدا ، أو ذي الرأي من أهلها إن كانوا جماعة ، أو السلطان إن لم يكن لها ولي .

الثاني : بإذن وليها إن كان لها ولي ، فإن كان لم يكن لها ولي زوجها السلطان بمشورة ذي الرأي من أهلها وذوي أرحامها ، فهذا قول من ذكرنا من الصحابة ، وليس في التابعين مخالف فثبت أنه إجماع .

ويدل على ذلك من القياس هو أن كل من كان من زوائد عقد النكاح كان شرطا فيه كالشهود ، ولأن ما اختص من بين جنسه بزيادة عدد كانت الزيادة شرطا فيه ، كالشهادة في الزنا ، ولأن كل عقد صارت به المرأة فراشا لم يملكه المفترشة كالأمة ، ولأن من عقد على نفسه واعترض عليه غيره في فسخه دل على فساد عقده كالأمة والعبد إذا زوجا أنفسهما ، ولأن من منع من الوفاء معقود العقد خرج من العقد كالمحجور عليه ، ولأنه أحد طرفي الاستباحة فلم تملكه المرأة كالطلاق ، ولأن لولي المرأة قبل بلوغها حقين : حقا في طلب الكفاءة ، وحقا في طلب العقد ، فلما كان بلوغها غير مسقط لحقه في طلب الكفاءة كان غير مسقط لحقه في مباشرة العقد .

ويتحرر من اعتلاله قياسان :

أحدها : أنه أحد حقي الولي ، فلم يسقطه بلوغها كطلب الكفاءة .

والثاني : أن كل من ثبت عليها حق الولي في طلب الكفاءة ثبت عليه حقه في مباشرة العقد كالصغيرة . فأما الجواب عن استدلالهم بالآية فمن وجهين :

أحدهما : أن المراد برفع الجناح عنهن : أن لا يمنعن من النكاح ، فإذا أردنه فلا يدل على تفردهن بغير ولي ، كما لم يدل على تفردهن بغير شهود .

والثاني : أن قوله : فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف [ البقرة : 234 ] . يقتضي [ ص: 43 ] فعله على ما جرى به العرف من المعروف الحسن ، وليس من المعروف الحسن أن تنكح نفسها بغير ولي .

وأما قوله صلى الله عليه وسلم : الأيم أحق بنفسها من وليها فقد مر الجواب عنه أن لأهل اللغة في الأيم قولين :

أحدهما : التي لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا ، وإن لم تنكح قط . يقال : امرأة أيم ، إذا كانت خلية من زوج ، ورجل أيم إذا كان خليا من زوجة .

والقول الثاني : أنها لا يقال لها أيم إلا إذا نكحت ، ثم حلت بموت أو طلاق ، بكرا كانت أو ثيبا ، ومنه قول الشاعر :


فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي يد الدهر ما لم تنكحي أتأيم

فأما الأيم في هذا الخبر فالمراد بها الثيب من الخاليات الأيامى دون الأبكار لأمرين :

أحدهما : أنه قد روي : الثيب أحق بنفسها من وليها .

والثاني : أنه لما قابل الأيم بالبكر اقتضى أن تكون البكر غير الأيم ، لأن المعطوف غير المعطوف عليه ، وليس غير البكر إلا الثيب ، فلهذا عدل بالأيم عن حقيقة اللغة إلى موجب الخبر .

فإذا تقررت هذه المقدمة ، فعن الخبر ثلاثة أجوبة :

أحدها : أنها أحق بنفسها في أنها لا تجبر إن أبت ولا تمنع إن طلبت تفردها بالعقد من غير شهود .

والثاني : أنه جعل لها وليا في الموضع الذي جعلها أحق بنفسها موجب أن لا يسقط ولايته عن عقدها ، ليكون حقها في نفسها ، وحق الولي في عقدها ، فيجمع بين هذا الخبر وبين قوله لا نكاح إلا بولي في العقد .

والثالث : أن لفظة " أحق " موضوعة في اللغة للاشتراك في المستحق إذا كان حق أحدهما فيه أغلب ، كما يقال : زيد أعلم من عمرو إذا كانا عالمين وأحدهما أفضل وأعلم ، ولو كان زيد عالما وعمرو جالسا لكان كلاما مردودا : لأنه لا يصير بمثابة قوله العالم أعلم من الجاهل ، وهذا الفرد إذا كان ذلك موجبا لكل واحد منهما حق ، وحق الثيب أغلب ، فالأغلب أن يكون من جهتها الإذن والاختيار من جهة قبول الإذن في مباشرة العقد .

وأما قوله : ليس للولي مع الثيب أمر :

[ ص: 44 ] فالأمر هو الإجبار والإلزام ، وليس للولي إجبار الثيب وإلزامها ولا يقتضي ذلك أن ينفرد بالعقد دون وليها ، كما لا تنفرد به دون الشهود .

فأما حديث المرأة التي زوجها أبوها ، فرواية عكرمة بن فلان ، فإن كان مولى ابن عباس فهو مرسل الحديث ، لأنه تابعي ولم يسنده ، والمرسل ليس بحجة ، وإن كان غيره فهو مجهول ، وجهالة الراوي تمنع من قبول حديثه ، ثم لا حجة فيه لو صح : لأنه رد نكاحا انفرد به الولي ، وإنما يكون حجة لو أجاز نكاحا تفردت به المرأة .

وأما قياسهم على الرجل ، فالمعنى في الرجل ، أنه لما لم يكن للولي عليه اعتراض في الكفاءة لم يكن له في العقد عليه ولاية ، ولما كان للولي على المرأة اعتراض في الكفاءة لم تكن له في العقد عليها ولاية ، وكذا الجواب عن قياسه على عقد الإجارة أنه ليس للولي اعتراض فيه ، فلم يكن له ولاية عليه ، وليس كذلك عقد نكاحها .

وأما قياسه على المهر فعندهم أن للولي أن يعترض عليها فيه ويمنعها بأن تتزوج بأقل من مهرها ثم هو منتقض بقطع الأطراف في إبدالها من الدية ، ولا يتصرف فيها بالقطع والإباحة .

التالي السابق


الخدمات العلمية