الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا تقرر توجيه القولين وبناؤهما فإن قيل إنه لا يمين عليها أو عليها اليمين فحلفت ، ثبت النكاح للمصدق ، وكان نكاح المكذب مردودا ، وإن قيل عليها اليمين فنكلت ، فلا يخلو حالها في النكول من أحد أمرين :

إما أن يكون الاعتراف بالثاني أو بغير اعتراف به ، فإن كان نكولها اعترافا للثاني يتقدم نكاحه لم يرد اليمين على أحد ، وقد صارت مقرة للأول ثم عدلت عنه إلى إقرارها للثاني ، فثبت نكاحها للأول بإقرارها ، ولم يقبل رجوعها عنه إلى الثاني ، وجرى مجرى قولها في الابتداء بسبق هذا لأجل هذا ، فتكون زوجة للأول بإقرارها دون الثاني كمن بيده دار ، فقال هي لزيد لا بل لعمرو ، وكانت لزيد المقر له أولا دون عمرو ، وإذا كانت بما سبق من الإقرار زوجة للأول دون الثاني ، فهل يلزمها أن تغرم للثاني مهر مثلها أم لا ؟ على قولين : كمن قال : هذه الدار لزيد بل لعمرو وكانت لزيد ، وهل يغرم قيمتها لعمرو أم لا ؟ على قولين :

أحدهما : لا يلزمها غرم المهر لاعترافهما بما لزمهما .

والقول الثاني : يلزمها غرم مهر مثلها للثاني : لأنها قد فوتت نفسها عليه بإقرارها للأول ، فعلى هذا لو مات الأول صارت بعد موته زوجة للثاني بإقرارها المتقدم كمن أقر بدار لزيد ثم أقر بها لعمرو ، كانت لزيد المقر له أولا ، فلو عادت الدار إلى المقر بابتياع أو هبة أو ميراث ، صارت لعمرو بالإقرار السابق المتقدم فكذلك هذه في مصيرها زوجة للثاني ، وعليها أن تعتد من الأول وإن كان لم يصبها بأربعة أشهر وعشر ، وإن كان قد أصابها بأكثر الأجلين من أربعة [ ص: 127 ] أشهر وعشر عدة الوفاة أو ثلاثة أقراء عدة الوطء ، وهي محرمة على الثاني في زمان عدتها من الأول ، وإن كانت زوجته ، وإن كان نكولها لغير اعتراف بل كانت على تكذيب الثاني ، وتصديق الأول رد اليمين بعد نكولها على المكذب ، فإن نكل المكذب عنها استقر نكاح الأول ، وإن حلف فقد قابل تصديق الأول يمين الكذب فيكون يمين المدعي بعد نكول المدعى عليه ، وقد اختلف قول الشافعي في يمين المدعي بعد نكول المدعى عليه ، هل يقوم مقام البينة أم مقام الإقرار ؟ على قولين :

أحدهما : أنها تقوم مقام البينة ، فعلى هذا تكون زوجة الثاني ويزول عنها نكاح الأول : كما لو أقام الثاني بينة بعد تصديقها للأول ، وهذا محكي عن أبي علي بن خيران مع بعده .

والقول الثاني : أنها تقوم مقام الإقرار ، فعلى هذا قد كان مع الأول إقرار منها ، وقد صار مع الثاني إقرار قد لزم عنها فصار إقرارين ، وقد اختلف أصحابنا فيهما هل يكون حكمهما حكم إقرارين وقعا معا : لأن يمين الثاني أوجبها نكولها عن اليمين المستحقة بالإقرار الأول ، فلم يتقدم حكم أحد الإقرارين على الآخر . وهذا قول أبي إسحاق المروزي فعلى هذا يبطل النكاحان معا : كما لو أقرت لهما في حالة واحدة .

والوجه الثاني : أنهما في حكم إقرارين مترتبين وقع أحدهما بعد الآخر : لأن يمين الثاني جعلته في حكم المقر له وهي متأخرة ، فصار الإقرار له متأخرا عن الإقرار الأول ، وهذا قول جمهور أصحابنا ، فعلى هذا تكون زوجة للأول دون الثاني ، كما لو أقرت لثان بعد أول ، وهل يرجع الثاني عليها بمهر مثلها أم لا ؟ على ما مضى من القولين ، فإن طلب الثاني في هذه الحال إحلاف الأول ؟ ففيه وجهان :

أحدهما : ليس له إحلافه : لأن المدعى عليه غيره ولو مات لم تصر زوجة للثاني : لأنها منكرة ، وإن نزلت في بعض أحوالها منزلة المقرة .

والوجه الثاني : له إحلافها ولو نزل عنها فحكم بها زوجة للثاني لأجرينا عليها أحكام المقرة من غير تبعيض فهذا حكم المسألة وما انتهت إليها أقسامها وأحكامها .

التالي السابق


الخدمات العلمية