الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : " ولا يفسخ نكاح حامل من زنا ، وأحب أن تمسك حتى تضع ، وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن امرأتي لا ترد يد لامس ، قال : طلقها ، قال : إني أحبها قال : فأمسكها وضرب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رجلا وامرأة في زنا ، وحرص أن يجمع بينهما فأبى الغلام .

قال الماوردي : اعلم أننا نكره للعفيف أن يتزوج بالزانية ونكره للعفيفة أن تتزوج [ ص: 189 ] بالزاني : لعموم قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها الآية [ النور : 3 ] ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : فعليك بذات الدين تربت يداك وإذا كان كذلك ، فالكلام في نكاح الزانية يشتمل على ثلاثة فصول :

أحدها : في الرجل إذا زنا بامرأة ، هل يحل له نكاحها أم لا ؟ .

والفصل الثاني : في زوجة الرجل إذا زنت ، هل يبطل نكاحها أم لا ؟ .

فأما : الفصل الأول في الرجل إذا زنا بامرأة ، فيحل له أن يتزوجها . وهو قول جمهور الصحابة والفقهاء .

وذكر عن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه والحسن البصري أنها قد حرمت عليه أبدا ، فلا يجوز أن يتزوجها بحال .

وقال أبو عبيدة وقتادة وأحمد بن حنبل وإسحاق : إن تابا من الزنا حل أن يتزوجها ، وإن لم يتوبا لم يحل .

قالوا : والتوبة أن يخلو أحدهما بصاحبه ، فلا يهم به استدلالا بقوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين [ النور : 3 ] فكان ما تقدم من المنع وتعقب من التحريم نصا لا يجوز خلافه .

ودليلنا قوله تعالى بعد ذكر المحرمات من ذوات الأنساب : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ النساء : 24 ] .

فكان على عمومه في العفيفة والزانية .

وروى ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يحرم الحرام الحلال وهذا نص : ولأنه منتشر في الصحابة بالإجماع روي ذلك عن أبي بكر وعمر وابن عمر وابن عباس وجابر ، فروي عن أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - أنه قال : إذا زنى رجل بامرأة لم يحرم عليه نكاحها .

وروي عن عمر - رضي الله عنه - أن رجلا تزوج امرأة ، وكان لها ابن عم من غيرها ولها بنت من غيره ، ففجر الغلام بالجارية وظهر بها حمل ، فلما قدم عمر مكة رفع إليه فسألهما فاعترفا ، فجلدهما عمر الحد ، وعرض أن يجمع بينهما فأبى الغلام .

وروي عن عبد الله بن عمر أنه كان له أمة وعبد فظهر بالأمة حمل ، فاتهم بها الغلام ، فسأله فأنكر ، وكان للغلام إصبع زائدة ، فقال له : إن أتت بولد له إصبع زائدة جلدتك ، فقال : نعم ، فوضعت ولدا له إصبع زائدة ، فجلده ثم زوجه بها .

وروي عن ابن عباس : أنه سئل أيتزوج الزاني بالزانية ؟ فقال : نعم ، ولو سرق رجل من كرم عنبا ، لكان يحرم عليه أن يشتريه ، فهذا قول من ذكرنا ، و لم يصح عن غيرهم خلافه ، فصار إجماعا .

فأما استدلالهم بالآية ، فقد اختلف أهل التأويل فيها على ثلاثة أقاويل :

[ ص: 190 ] أحدها : أنها نزلت مخصوصة في رجل من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها : أم مهزول من بغايا الجاهلية من ذوات الرايات ، وشرطت له أن تنفق عليه ، فأنزل الله هذه الآية فيه ، وهذا قول عبد الله بن عمرو ومجاهد .

والقول الثاني : أن المراد بالآية : أن الزاني لا يزني إلا بزانية والزانية لا يزني بها إلا زان . وهذا قول ابن عباس .

والقول الثالث : أن الولاية عامة في تحريم نكاح الزانية على العفيف ، ونكاح العفيفة على الزاني ، ثم نسخه قوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء . وهذا قول سعيد بن المسيب .

التالي السابق


الخدمات العلمية