الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فأما أبو حنيفة فاستدل على وقوع الفرقة باختلاف الدارين من غير توقف بقول الله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن [ الممتحنة : 10 ] فاقتضى أن تحرم عليه بالإسلام سواء أسلم بعدها أو لم يسلم : وبرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجرت إليه ، وتخلف زوجها أبو العاص بن ربيع كافرا بمكة ، ثم أسلم فردها عليه بنكاح جديد ، فدل على وقوع الفرقة باختلاف الدارين .

[ ص: 260 ] قال : ولأن اختلاف الدار بهما حكما وفعلا يوجب الفرقة بينهما قياسا على سبي أحدهما واسترقاقه .

قال : ولأن دار الحرب دار غلبة وقهر : لأن من غلب فيها على شيء ملكه ، ألا ترى لو غلب العبد سيده على نفسه صار العبد حرا ، وصار السيد له عبدا ، ولو غلبت المرأة زوجها على نفسه بطل نكاحها ، وصار الزوج لها عبدا ، فاقتضى أن تصير الزوجة بإسلامها إذا هاجرت من دار الحرب متغلبة على نفسها ، فوجب أن يبطل نكاحها .

والدليل على أن اختلاف الدارين لا يوجب وقوع الفرقة بإسلام أحد الزوجين : ما روي أن أبا سفيان بن حرب وحكيم بن حزام أسلما بمر الظهران - وهي بحلول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها واستيلائه عليها دار إسلام - وزوجتاهما على الشرك بمكة - وهي إذا ذاك دار الحرب - ثم أسلمتا بعد الفتح ، فأقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على النكاح .

فإن قيل : مر الظهران من سواد مكة ، وتابعة لها في الحكم ، فلم يكن إسلامها إلا في دار واحدة ، ففيه جوابان :

أحدهما : أن مر الظهران دار الخزاعة محازة عن حكم مكة : لأن خزاعة كانت في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت بنو بكر في حلف قريش ، ولنصرة النبي صلى الله عليه وسلم لخزاعة صار إلى قريش بمكة .

والجواب الثاني : أن مر الظهران لو كان من سواد مكة : لجاز أن ينفرد عن حكمها باستيلاء الإسلام عليها ، كما لو فتح المسلمون سواد بلد من دار الحرب ، صار ذلك السواد دار إسلام وإن كان البلد دار الحرب ، ويدل على ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة عام الفتح ، هرب صفوان بن أمية إلى الطائف ، وهرب عكرمة بن أبي جهل إلى ساحل البحر مشركين ، فأسلمت زوجاتهما بمكة ، وكانت زوجة صفوان برزة بنت مسعود بن عمرو الثقفي ، وزوجة عكرمة أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة ، وأخذتا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانا لهما ، فدخل صفوان من الطائف بالأمان ، وأقام على شركه حتى شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا ، وأعاره سلاحا ثم أسلم ، وعاد عكرمة من ساحل البحر - وقد عزم على ركوبه هربا - فأسلم ، فأقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زوجتيهما مع اختلاف الدارين بهما : لأن مكة كانت قد صارت بالفتح دار إسلام ، وكانت الطائف والساحل دار الحرب .

فإن قيل : هما من سواد مكة وفي حكمهما .

فالجواب عنه بما مضى .

ومن القياس : أنه إسلام بعد الإصابة فوجب إذا اجتمعا عليه في العدة أن لا تقع به الفرقة قياسا على اجتماع إسلامهما في دار الحرب : ولأن ما كانت البينونة به منتظرة لم يؤثر فيه اختلاف الدارين كالطلاق الرجعي ، وما كانت البينونة معجلة لم يؤثر فيه اتفاق الدارين كالطلاق الثلاث فوجب أن تكون الفرقة بالإسلام ملحقة بأحدهما .

[ ص: 261 ] فأما الجواب عن استدلالهم بالآية : فنحن نقول بموجبها : لأنها لا ترد المسلمة إلى كافر ، ولا تحل له ، ولا تمسك بعصمة كافر ، وإنما يردها إلى مسلم ، ويمسك بعصمة مسلمة .

وأما الجواب عن حديث زينب فمن وجهين :

أحدهما : ما رواه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها عليه بالنكاح الأول .

والثاني : أنه يجوز أن يكون استأنف لها نكاحا : لأنه أسلم بعد انقضاء العدة حين أسره أبو بصير الثقفي بسيف البحر من نحو الجار .

وأما قياسهم على السبي والاسترقاق فليس المعنى فيه افتراق الدارين إنما حدوث الاسترقاق ، ألا ترى أنه لو استرق أحدهما وهما في دار الحرب بطل النكاح ، ولو استرقا معا بطل النكاح ، فصار السبي مخالفا للإسلام ، وعلى أن الفرقة بالاسترقاق غير منتظرة بحال ، والفرقة بالإسلام منتظرة في حال فافترقا .

وأما الاستدلال بأنها متغلبة على بضعها فلا يصح : لأن الأعيان تملك بالتغلب دون الأبضاع ، ألا ترى أن مسلما لو غلب على بضع مشركة لم تصر زوجة ، ولم يصر زوجا ولو تغلب على رقبتها صارت ملكا .

التالي السابق


الخدمات العلمية