الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فأما أبو حنيفة فاستدل على وقوع الفرقة باختلاف الدارين من غير توقف بقول الله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن [ الممتحنة : 10 ] فاقتضى أن تحرم عليه بالإسلام سواء أسلم بعدها أو لم يسلم : وبرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجرت إليه ، وتخلف زوجها أبو العاص بن ربيع كافرا بمكة ، ثم أسلم فردها عليه بنكاح جديد ، فدل على وقوع الفرقة باختلاف الدارين .

                                                                                                                                            [ ص: 260 ] قال : ولأن اختلاف الدار بهما حكما وفعلا يوجب الفرقة بينهما قياسا على سبي أحدهما واسترقاقه .

                                                                                                                                            قال : ولأن دار الحرب دار غلبة وقهر : لأن من غلب فيها على شيء ملكه ، ألا ترى لو غلب العبد سيده على نفسه صار العبد حرا ، وصار السيد له عبدا ، ولو غلبت المرأة زوجها على نفسه بطل نكاحها ، وصار الزوج لها عبدا ، فاقتضى أن تصير الزوجة بإسلامها إذا هاجرت من دار الحرب متغلبة على نفسها ، فوجب أن يبطل نكاحها .

                                                                                                                                            والدليل على أن اختلاف الدارين لا يوجب وقوع الفرقة بإسلام أحد الزوجين : ما روي أن أبا سفيان بن حرب وحكيم بن حزام أسلما بمر الظهران - وهي بحلول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها واستيلائه عليها دار إسلام - وزوجتاهما على الشرك بمكة - وهي إذا ذاك دار الحرب - ثم أسلمتا بعد الفتح ، فأقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على النكاح .

                                                                                                                                            فإن قيل : مر الظهران من سواد مكة ، وتابعة لها في الحكم ، فلم يكن إسلامها إلا في دار واحدة ، ففيه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن مر الظهران دار الخزاعة محازة عن حكم مكة : لأن خزاعة كانت في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت بنو بكر في حلف قريش ، ولنصرة النبي صلى الله عليه وسلم لخزاعة صار إلى قريش بمكة .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أن مر الظهران لو كان من سواد مكة : لجاز أن ينفرد عن حكمها باستيلاء الإسلام عليها ، كما لو فتح المسلمون سواد بلد من دار الحرب ، صار ذلك السواد دار إسلام وإن كان البلد دار الحرب ، ويدل على ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة عام الفتح ، هرب صفوان بن أمية إلى الطائف ، وهرب عكرمة بن أبي جهل إلى ساحل البحر مشركين ، فأسلمت زوجاتهما بمكة ، وكانت زوجة صفوان برزة بنت مسعود بن عمرو الثقفي ، وزوجة عكرمة أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة ، وأخذتا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانا لهما ، فدخل صفوان من الطائف بالأمان ، وأقام على شركه حتى شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا ، وأعاره سلاحا ثم أسلم ، وعاد عكرمة من ساحل البحر - وقد عزم على ركوبه هربا - فأسلم ، فأقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زوجتيهما مع اختلاف الدارين بهما : لأن مكة كانت قد صارت بالفتح دار إسلام ، وكانت الطائف والساحل دار الحرب .

                                                                                                                                            فإن قيل : هما من سواد مكة وفي حكمهما .

                                                                                                                                            فالجواب عنه بما مضى .

                                                                                                                                            ومن القياس : أنه إسلام بعد الإصابة فوجب إذا اجتمعا عليه في العدة أن لا تقع به الفرقة قياسا على اجتماع إسلامهما في دار الحرب : ولأن ما كانت البينونة به منتظرة لم يؤثر فيه اختلاف الدارين كالطلاق الرجعي ، وما كانت البينونة معجلة لم يؤثر فيه اتفاق الدارين كالطلاق الثلاث فوجب أن تكون الفرقة بالإسلام ملحقة بأحدهما .

                                                                                                                                            [ ص: 261 ] فأما الجواب عن استدلالهم بالآية : فنحن نقول بموجبها : لأنها لا ترد المسلمة إلى كافر ، ولا تحل له ، ولا تمسك بعصمة كافر ، وإنما يردها إلى مسلم ، ويمسك بعصمة مسلمة .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن حديث زينب فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : ما رواه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها عليه بالنكاح الأول .

                                                                                                                                            والثاني : أنه يجوز أن يكون استأنف لها نكاحا : لأنه أسلم بعد انقضاء العدة حين أسره أبو بصير الثقفي بسيف البحر من نحو الجار .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على السبي والاسترقاق فليس المعنى فيه افتراق الدارين إنما حدوث الاسترقاق ، ألا ترى أنه لو استرق أحدهما وهما في دار الحرب بطل النكاح ، ولو استرقا معا بطل النكاح ، فصار السبي مخالفا للإسلام ، وعلى أن الفرقة بالاسترقاق غير منتظرة بحال ، والفرقة بالإسلام منتظرة في حال فافترقا .

                                                                                                                                            وأما الاستدلال بأنها متغلبة على بضعها فلا يصح : لأن الأعيان تملك بالتغلب دون الأبضاع ، ألا ترى أن مسلما لو غلب على بضع مشركة لم تصر زوجة ، ولم يصر زوجا ولو تغلب على رقبتها صارت ملكا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية