الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " فإن رأى صورا ذات أرواح لم يدخل إن كانت منصوبة ، وإن كانت توطأ فلا بأس ، فإن كان صور الشجر فلا بأس ، وأحب أن يجيب أخاه ، وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو أهدي إلي ذراع لقبلت ولو دعيت إلى كراع لأجبت " .

قال الماوردي : وهذا صحيح وإذا كان في الوليمة صور فهي ضربان :

أحدهما : أن يكون صور شجر ونبات ، وما ليس بذي روح فلا تحرم ؛ لأنها كالنقوش التي تراد للزينة ، وسواء كانت على مسدل من بسط ووسائد أو كانت على مصان من ستر أو جدار ، ولا يعتذر بها المدعو في التأخر .

والضرب الثاني : أن تكون صور ذات أرواح من آدمي أو بهيمة ، فهي محرمة وصانعها عاص ؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المصور ، وقال : ويؤتى به يوم القيامة ، فيقال له : انفخ فيه الروح ، وليس بنافخ فيه أبدا .

وقد حكي عن عكرمة في تأويل قول الله تعالى : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة [ الأحزاب : 57 ] أنهم أصحاب التصاوير ، وإذا عملها محرم على صانعها ، فالكلام في تحريم استعمالها وإباحته معتبر بحال الاستعمال ، فإن كانت [ ص: 564 ] مستعملة في منصوب مصان عن الاستبدال كالحيطان فهي محرمة ، يسقط معها فرض الإجابة ، لما روي : عن علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليه ، أنه قال : صنعت طعاما ، ودعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما دخل البيت ، رجع ، فقلت : يا رسول الله : ما رجعك ؟ قال : رأيت صورة ، وإن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة أو كلب .

وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة عام الفتح أمر عمر أن يمحو كل صورة في الكعبة ، فلما محيت دخلها .

ولأن الصور كانت السبب في عبادات الأصنام ، حكي : أن آدم لما مات افترق أولاده فريقين : فريق تمسكوا بالدين والصلاح ، وفريق مالوا إلى المعاصي والفساد ، ثم اعتزل أهل الصلاح ، فصعدوا جبلا ، وأخذوا معهم تابوت آدم ، ومكث أهل المعاصي والفساد في الأرض ، فكانوا يستغوون من نزل إليهم من أهل الجبل ، واستولوا على تابوت آدم فصور لهم إبليس صورة آدم ؛ ليتخذوها بدلا من التابوت فعظموها ، ثم حدث بعدهم من رأى تعظيمها ، فعبدها ، فصارت أصناما معبودة ، فلذلك حرم استعمال الصور فيما كان مصانا معظما .

وقال أبو سعيد الإصطخري : إنما كان التحريم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لقرب عهدهم بالأصنام ومشاهدتهم بعبادتها ؛ ليستقر في نفوسهم بطلان عبادتها وزوال تعظيمها ، وهذا المعنى قد زال في وقتنا لما قد استقر في النفوس من العدول عن تعظيمها ، فزال حكم تحريمها ، وحظر استعمالها ، وقد كان في الجاهلية من يعبد كل ما استحسن من حجر أو شجر ، فلو كان حكم الحظر باقيا لكان استعمال كل ما استحسن حراما .

وهذا الذي قاله خطأ ؛ لأن النص يدفعه ، وإن ما جانس المحرمات تعلق به حكمها ، ولو ساغ هذا في صور غير مجسمة لساغ في الصور المجسمة ، وما أحد يقول هذا ففسد به التعليل .

التالي السابق


الخدمات العلمية