الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإن خالف الحاكم في لعانهما ما وصفنا ، اشتمل خلافه على أربعة أقسام :

أحدها : أن يخالف في لفظ الشهادة ، فيأمرهما بدلا من أشهد بالله ، أن يقولا : أقسم بالله أو أحلف بالله ، أو أولي بالله ، ففي جوازه وجهان :

أحدهما : لا يجزئ لأمرين :

أحدهما : مخالفة النص وتغليظ الشهادة .

والثاني : أنه يجزئ لأمرين :

أحدهما : أن اللعان يمين فكان ألفاظ الأيمان به أخص .

والثاني : أن الشهادة كناية واليمين صريح .

والقسم الثاني : أن يخالف بينهما في لفظ اللعن والغضب في الخامسة ، وهو على ضربين :

أحدهما : أن يعدل عن لفظهما إلى غيرهما ، فيقول بدلا من اللعنة في الزوج الإبعاد ، ومن الغضب في الزوجة السخط ، فلا يجزيه لأمرين :

أحدهما : لتغيير النص .

والثاني : لأنه قد صار بالنص صريحا فصار ما سواه كفاية وإن وافق معناه .

والضرب الثاني : أن ينقل كل واحد منهما من جهته إلى الجهة الأخرى ، فينظر فيه ، فإن نقل اللعن من الزوج إلى الزوجة حتى قالت : وعلي لعنة الله بدلا من قولها : علي غضب الله لم يجز ؛ لأن الغضب أغلظ من اللعن ؛ لأن الغضب انتقام ، واللعن [ ص: 61 ] إبعاد ، وكل منتقم منه مبعد ، وليس كل مبعد منتقما منه ، فصار الغضب أغلظ ، ولذلك غلظ به لعان الزوجة لأن الزنا منها أقبح والمعرة منها أفضح .

وإن نقل الغضب إلى الزوج حتى قال : وعلي غضب الله ، بدلا من قوله : وعلي لعنة الله ، ففي إجزائه وجهان :

أحدهما : لا يجزئ لمخالفة النص .

والثاني : يجزئ ؛ لأنه أغلظ من النص مع دخوله فيه .

والقسم الثالث : أن يخالف بينهما في ترتيب اللفظ فيجعل ما في الخامسة من اللعن والغضب قبل الشهادات أو في تضاعيفها ، ففي جوازه وجهان :

أحدهما : لا يجزئه لمخالفة الترتيب فيه .

والثاني : يجزئه لوجود التغليظ .

والقسم الرابع : أن يخالف بينهما في العدد ، فإن كان خلافه في الزيادة فزاد على الشهادات الأربع خامسة ، أو على اللعنة والغضب في الخامسة سادسة ، فقد أساء وأجزأ ، وإن كان خلافه في النقصان فترك بعض الشهادات الأربع ، أو ترك الخامسة في اللعن والغضب لم يجز ، ولم يتعلق بما اقتصر عليه شيء من أحكام اللعان ، سواء ترك أكثره أو أقله ، وينقض حكمه فيه .

وقال أبو حنيفة : إن ترك أقله أجزأه وإن أساء ، ولا وينقض حكمه استدلالا بأمرين :

أحدهما : أن اللعان مما اختلف في وقوع الفرقة به ، وما استقر فيه الخلاف ساغ فيه الاجتهاد ، والحكم إذا نفذ باجتهاد مسوغ لم ينقض .

والثاني : أن إدراك معظم الشيء يقوم مقام إدراك جميعه ، كمن أدرك الإمام راكعا كان في الاعتداد بالركعة كالمدرك له محرما ، كذلك أكثر اللعان يجوز أن يقوم مقام جميعه ودليلنا قوله تعالى : ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين [ النور : 8 ، 9 ] فعلق الحكم فيه بخمس ، فلم يجز أن يعلق بأقل منها ؛ لأنه يصير نسخا ولا يجوز أن ينسخ القرآن بالاجتهاد ، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاعن بين العجلاني وامرأته وبين هلال بن أمية وامرأته بخمس ثم فرق ، والحكم إذا علق بسبب اقتضى أن يكون محمولا على سببه ، ولأن الاقتصار من اللعان على بعضه يمنع من ثبوت حكمه كالاقتصار على أقله ، ولأن الحكم إذا تعلق بعدد لم يتعلق ببعضه كأعداد الركعات فكذلك أعداد اللعان ، ولأن ما شرع عدده في درء الحد لم يجز الاقتصار منه على بعضه كالشهادة ؛ ولأن اللعان إما أن [ ص: 62 ] يكون يمينا ، فلا يجوز أن يقتصر على بعض ما شرع فيها من العدد كالقسامة ، أو يكون شهادة فلا يجوز الاقتصار على بعض عددها كسائر الشهادات .

فأما الجواب عما ذكروه من أن حصول الاختلاف مسوغ للاجتهاد ، فهو أن الإجماع منعقد على الخمس ، وإنما الاختلاف في وقوع الفرقة بها أو بما بعدها وما انعقد الإجماع عليه لم يسغ الاجتهاد فيه .

وأما الجواب عن أن إدراك معظم الشيء يقوم مقام إدراك جميعه فهو أنه فاسد بإدراك ثلاث ركعات من أربع لا يقوم مقام إدراك الأربع ؛ إنما أدرك الإمام الركعة الأولى بإدراك أكثرها ؛ لأنه تحمل عنه ما فاته منها وقام مقامه فيها ، ولذلك لو انفرد بها من غير إمام لم يدركها ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية