الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : القول في دخول الجنب المسجد

قال الشافعي ، رضي الله عنه : " ولا بأس أن يمر الجنب في المسجد مارا ، ولا يقيم فيه ، وتأول قول الله سبحانه ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا قال : وذلك عندي موضع الصلاة " .

قال الماوردي : وهذا كما قال .

الجنب ممنوع من المقام في المسجد ، ويجوز له الاجتياز فيه مارا ، وبه قال من الصحابة جابر ، ومن التابعين ابن المسيب ، والحسن ، ومن الفقهاء مالك .

وقال أبو حنيفة : لا يجوز للجنب دخول المسجد لا مقيما ، ولا مارا تعلقا برواية عائشة ، رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا أحل المسجد لا لجنب ، ولا لحائض قال : ولأن كل من لا يجوز له اللبث في المسجد لا يجوز له الاجتياز فيه كالحائض ، ومن على رجله نجاسة ، ولأنه جنب حل مسجدا فوجب أن يمنع منه .

ودليلنا قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا [ ص: 266 ] ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا [ النساء : 43 ] . يعني : بالصلاة موضع الصلاة ، لأنه يسمى صلاة . قال الله تعالى : لهدمت صوامع وبيع وصلوات [ الحج : 40 ] . والصلاة لا تهدم وإنما يهدم مكانها ، وإن كان الاسم واقعا عليه كان النهي مصروفا إليه بدليل قوله سبحانه في سياق الآية : إلا عابري سبيل [ النساء : 43 ] ، والعبور على فعل الصلاة لا يصح ، وإنما يصح العبور على مكانها فصار تقدير الآية : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى [ النساء : 43 ] ولا موضع الصلاة وأنتم جنب إلا عابري سبيل فاستثنى الاجتياز من جملة النهي ، وهذا التأويل قد روي عن علي - عليه السلام - وابن عباس ، رضي الله عنهما ، فإن قيل : يحتمل قوله تعالى : ولا جنبا إلا عابري سبيل [ النساء : 43 ] . مسافرا عادما للماء فيتيمم ، ويصلي ، فيحمل أول الآية على الحقيقة وآخرها على الائتمار ، وأنتم حملتم آخر الآية على الحقيقة ، وأولها على المجاز فيستوي التأويلان ، ويتقابلا ، وكان هذا التأويل أشبه بالحال ، وهو أيضا مروي عن علي - عليه السلام - وابن عباس ، رضي الله عنهما ، قلنا : إذا تقابل التأويلان على ما ذكرتم ، واحتيج إلى الترجيح ، فتأويلنا أولى من وجهين :

أحدهما : أنه إذا حملوا إضمار الصلاة على فعلها لم يستفيدوا بالآية إلا إباحة الصلاة للجنب المتيمم ، وإباحة الصلاة للجنب إذا تيمم مستفاد بآية أخرى ، وحمل الآيتين على حكمين مختلفين أولى من حملهما على حكم واحد .

والثاني : أن الاستثناء يكون من جنس المستثنى منه ، فلما كان المراد بقوله تعالى : ولا جنبا الجنب الذي لم يستبح فعل الصلاة بالتيمم وهو المستثنى منه ، ويجب أن يكون قوله تعالى : إلا عابري سبيل [ النساء : 43 ] المراد به : جنبا لم يستبح فعل الصلاة بالتيمم ، لأنه الاستثناء ، فكان تأويلنا أولى بهذين الوجهين من الترجيح .

فإن قيل : لا يصح أن يكون المراد بالآية موضع الصلاة بدلالة قوله تعالى : حتى تعلموا ما تقولون [ النساء : 43 ] وهذا مما لا يوصف به المجتاز ، وإنما يوصف به المصلي قيل : قد يوصف به المجتاز بموضع الصلاة ، لأنه إذا سكر لم يؤمن منه تنجيس المسجد إذا دخله فنهى عنه كما قال صلى الله عليه وسلم : جنبوا مساجدكم أطفالكم ومحاريبكم لأنهم يرسلون البول بغير اختيارهم كالسكران الذي ربما نجس المسجد بغير قصده .

ثم الدليل في المسألة من طريق المعنى : هو أنه مكلف آمن منه تنجيس المسجد فجاز له العبور فيه كالمحدث ، وهذا خير قياس في المسألة .

وقولنا : مكلف ، احتراز من الصغار ، والمجانين .

وقولنا : آمن منه تنجيس المسجد احترازا من الحائض ، وصاحب النجاسة فأما تعلقهم [ ص: 267 ] بالحديث فضعيف ، لأن راويه ابن خليفة ، عن جسرة ، عن عائشة ، رضي الله عنها والأفلت بن خليفة ضعيف متروك ، على أنه إن صح كان محمولا على المقام واللبث .

وأما قياسهم على الحائض ، وصاحب النجاسة فمنتقض بمن احتلم في المسجد يجوز له الاجتياز فيه إجماعا ، ثم المعنى فيه : ما يخاف على المسجد التي هي من الجنب مأمونة .

وأما قياسهم على المقيم فغير صحيح من وجهين :

أحدهما : إن أمر الاجتياز أخف حكما من أمر المقام بدليل المحتلم في المسجد فلم يصح الجمع بينهما ، ورد الأخف منهما إلى الأصل .

والثاني : أن اللبث في المسجد إنما أريد به القربة ، والجنب لا تصح منه أفعال القرب في المسجد : لأنه لا يقدر على القراءة والصلاة ، وإنما يمكنه الذكر في نفسه ، وذلك ممكن في غير المسجد ، فمن أجل هذا لم يبح له المقام فيه ، والعبور في المسجد نصا يكون لغرض ، أو لحاجة ، والجنب فيهما كالمحدث فاستويا في حكم الاجتياز .

التالي السابق


الخدمات العلمية