الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 95 ] باب الخيار في القصاص

مسألة : قال الشافعي رحمه الله : أخبرنا ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الكعبي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ثم أنتم يا بني خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله فمن قتل قتيلا بعده فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا العقل .

قال الماوردي : قتل العمد موجب للقود ولولي المقتول أن يعفو عنه إلى الدية ، ولا يفتقر إلى مراضاة القاتل .

وقال أبو حنيفة ومالك : قتل العمد موجب للقود وحده ولا تجب له الدية إلا بمراضاة القاتل استدلالا بقوله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس [ المائدة : 45 ] وهذا نص في أن لا يجب في النفس غير النفس .

وقال تعالى : كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر [ البقرة : 178 ] وفي الزيادة على القصاص إيجاب ما لم يجز العدول إلى غيره من الأبدال إلا عن مراضاة .

ولأن القتل موجب للقود في عمده ، والدية في خطئه ، فلما لم يجز العدول عن الدية في الخطأ إلى غيرها إلا عن مراضاة لم يجب أن يعدل عن القود إلى غيره إلا عن مراضاة .

ولأن القتل يستحق بالقود تارة ، وبالدفع عن النفس أخرى ، فلما لم يملك بدل قتله دفعا لم يملك بدل قتله قودا .

ودليلنا قول الله تعالى كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان [ البقرة : 178 ] معناه : فمن عفا له عن القصاص فليتبع الولي الدية بمعروف ، ويؤديها القاتل بإحسان فجعل للولي الإتباع ، وعلى القاتل الأداء ، فلما تفرد القاتل بالأداء وجب أن ينفرد الولي بالإتباع ولا يقف على المراضاة .

[ ص: 96 ] وحديث أبي شريح الكعبي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا - والله - عاقله ، فمن قتل قتيلا بعده فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا أخذوا العقل . فجعل الولي مخيرا بين القود والدية وهذا نص .

فإن قيل : فقد روي : إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا فادوا والمفاداة لا تكون إلا عن مراضاة .

قيل : هذه رواية شاذة ، وتحمل المفاداة فيها على بذل الدية التي لا تستحق إلا عن مراضاة ، ويحمل خبرنا في خيار الولي على أصل الدية التي لا تفتقر إلى مراضاة ليستعمل الخبرين ، ولا يسقط أحدهما بالآخر ، ولأن القود قد يسقط بعفو الولي إذا كان واحدا ، ويعفو أحدهم إذا كانوا جماعة ، ثم ثبت أن سقوطه بعفو أحدهم موجب للدية بغير مراضاة فكذلك يكون وجوبها بعفو جميعهم .

وتحريره قياسا : أنه قود سقط بالعفو عنه فلم تقف الدية فيه على مراضاة كما لو عفا عنه أحدهم .

ولأن استحقاق القود لا يمنع من اختيار الدية كما لو قطع كفا كاملة الأصابع ، وفي كفه أربعة أصابع كان المجني عليه عندنا وعندهم بالخيار بين القصاص والدية . فإن أحب الدية أخذ دية كاملة ، وإن أحب القصاص اقتص عندهم بالكف الناقصة ، ولا شيء له غيرها ، وعندنا يقتص منها ، ويؤخذ دية الأصبع الناقصة من كف الجاني ، ولأن للقتل بدلين ، أغلظهما القود وأخفهما الدية فلما ملك القود الأغلظ بغير مراضاة كان بأن يملك الدية الأخف بغير مراضاة أولى ، ولأن قتل العمد أغلظ وقتل الخطأ أخف ، فلما ملك الدية في أخفهما فأولى أن يملكها في أغلظهما .

فأما الجواب عن الآيتين : فهو أن وجوب القصاص فيهما لا يمنع من العفو عنه إلى غيره كالمراضاة .

وأما قياسهم على إتلاف المال فالمعنى فيه : أنه ليس له - العمد والخطأ - إلا بدل واحد ، وللقتل بدلان فافترقا .

وقولهم : لما لم يملك العدول عن دية الخطأ إلا بالمراضاة كذلك القود العمد .

فالجواب عنه أن القود أغلظ والدية أخف فملك إسقاط الأغلظ بالأخف ، ولم يملك إسقاط الأخف بالأغلظ ، وما اعتبروه من قتل الدفع الذي لا يملك فيه الدية فلا يشبه قتل القود ، لأنه يملك بقتل الدفع إحياء نفسه فلم يجز أن يبدلها بالدية مراضاة ولا اختيارا ، وليس كذلك قتل القود ، لأنه ملك به استيفاء حق يجوز أن يعدل عنه [ ص: 97 ] بالمراضاة ، فجاز أن يعدل عنه بغير مراضاة .

التالي السابق


الخدمات العلمية