الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : ويحمل كل ما كثر وقل من قتل أو جرح من حر وعبد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حملها الأكثر دل على تحميلها الأيسر .

قال الماوردي : اختلف الفقهاء فيما تحمله العاقلة من الدية على خمسة مذاهب :

فقال الشافعي : يحمل كل ما كثر وقل من قتل وجرح .

وقال قتادة : تحمل دية النفس في القتل ولا تحمل ما دون النفس ويتحمله الجاني .

وقال مالك وأحمد بن حنبل : تحمل ثلث الدية فصاعدا ويتحمل الجاني ما دون الثلث .

وقال الزهري : يتحمل العاقلة ما زاد على الثلث ويتحمل الجاني الثلث فما دون .

وقال أبو حنيفة : يتحمل العاقلة نصف عشر الدية فما زاد ، ويتحمل الجاني ما دون ذلك واستدل قتادة بأن حرمة النفس أغلظ لاختصاصها بالكفارة والقسامة فاختصت بتحمل العاقلة .

واستدل مالك وأحمد بأن العاقل مواس يتحمل ما أجحف تحصينا للدماء ، وما دون الثلث غير مجحف فلم يتحمله .

واستدل الزهري بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - الثلث كثير فصار مضافا إلى ما زاد عليه في تحمل العاقلة له .

واستدل أبو حنيفة على تحمل نصف العشر بأمرين :

أحدهما : أن تحمل العاقلة لما عدل فيه عن القياس إلى الشرع وجب أن يختص [ ص: 356 ] بأقل ما ورد به الشرع ، وأقله أرش الموضحة ، والغرة في الجنين ، وهي مقدرة بمثل أرش الموضحة خمس من الإبل أو خمسين دينار أو ستمائة درهم وذلك نصف عشر الدية فكان هذا أصلا في أقل ما تحمله العاقلة وكان ما دونه محمولا على موجب القياس .

والثاني : أن ما دون الموضحة لما لم يجب فيه قصاص ولا أرش مقدر جرى مجرى الأموال فوجب أن لا تتحمله العاقلة كما لا تتحمل الأموال .

والدليل على جميعهم في تحمل الأكثر والأقل بينه النص وهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حمل العاقلة جميع الدية وهي أثقل ، فيه به على تحمل ما هو أقل ، ولو نص على الأقل لما نبه على حكم الأثقل ، وفي إلزام الجمع بين النصين خروج عن موضوع الشرع .

ثم نحرر هذا الأصل قياسا فنقول : إنه أرش خطأ على نفس فجاز أن تتحمله العاقلة قياسا على دية النفس مع قتادة ، وعلى ثلث الدية مع مالك ، وعلى نصف عشرها مع أبي حنيفة ، ولأنه لما تحمل الجاني قليل الدية وكثيرها في العمد وجب أن تحمل العاقلة قليلها وكثيرها في الخطأ ، ويتحرر منه قياسان :

أحدهما : أن من تحمل كثير الدية تحمل قليلها كالجاني .

والثاني : كل قدر تحمله الجاني جاز أن تتحمله العاقلة كالكثير ، ولأن الجماعة لو اشتركوا في جناية قدرها الثلث عند مالك ونصف العشر عند أبي حنيفة تحملت عاقلة كل واحد منهم ما لزمه لجنايته ، وهو أقل من ثلث الدية ومن نصف عشرها ، فكذلك إذا انفرد بالتزام هذا القدر ، ويتحرر منه قياسان :

أحدهما : أن من تحمل كثير الدية تحمل قليلها كالجاني .

والثاني : كل قدر يتحمله الجاني جاز أن تتحمله العاقلة كالكثير ، ولأن الجماعة لو اشتركوا في جناية قدرها الثلث عند مالك ونصف العشر عند أبي حنيفة تحملت عاقلة كل واحد منهم ما لزمه لجنايته وهو أقل من ثلث الدية ومن نصف عشرها ، فكذلك إذا انفرد بالتزام هذا القدر ويتحرر منه قياسان :

أحدهما : أن ما تحملته العاقلة في الاشتراك جاز أن يتحمله في الانفراد كالكثير .

والثاني : أن ما تحملته العاقلة من الكثير جاز أن تتحمله من القليل كالاشتراك ، وما قاله قتادة من تغليظ حرمة النفس فحرمتها لأجل حرمة الإنسان ، وحرمة الإنسان عامة في نفسه وأطرافه ، فوجب أن يستويا في حكم الغرم ومحله ، وما قاله مالك من أن الثلث قليل لا يجحف فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - الثلث كثير فصار ضد قوله ثم قد يجحف [ ص: 357 ] الثلث وأقل منه بالجاني إذا انفرد بغرمه لا سيما إذا كان مقلا ، وما قاله أبو حنيفة من ورود الشرع فيه فلا يمنع ذلك من وجوب الأرش وإن لم يرد فيه شرع لم يمنع من تحمل العقل ، وإن لم يرد فيه شرع ، وما قاله من إجزائه في سقوط القصاص وتقدير الأرش مجرى الأموال فمنتقض بالأنملة يجب فيها القصاص ويتقدر أرشها بثلث العشر ولا تتحملها العاقلة عنده ، وقد لا يجب القصاص فيما زاد على نصف العشر ولا يتقدر أرشه وتحمله العاقلة فبطل ما اعتد به ولم يبق إلا حفظ الدماء بالتزام العاقلة لأروشها وهذا يصح قليلها وكثيرها .

التالي السابق


الخدمات العلمية