الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب القسامة

مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " أخبرنا مالك ، عن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن سهل بن أبي حثمة ، أنه أخبره رجال من كبراء قومه أن عبد الله ومحيصة خرجا إلى خيبر ، فتفرقا في حوائجهما ، فأخبر محيصة أن عبد الله قتل وطرح في قفير أو عين ، فأتى يهود فقال : أنتم قتلتموه . قالوا : ما قتلناه . فقدم على قومه فأخبرهم ، فأقبل هو وأخوه حويصة وعبد الرحمن بن سهل أخو المقتول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب محيصة يتكلم ، فقال عليه السلام : كبر كبر - يريد السن - فتكلم حويصة ثم محيصة ، فقال عليه السلام : إما أن يدوا صاحبكم ، وإما أن يؤذنوا بحرب . فكتب عليه السلام إليهم في ذلك . فكتبوا : إنا والله ما قتلناه . فقال لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن : أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟ قالوا : لا . قال فتحلف يهود . قالوا : ليسوا بمسلمين . فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده ، فبعث إليهم مائة ناقة . قال سهل : لقد ركضتني منها ناقة حمراء . ( قال الشافعي ) رحمه الله : فإن قيل فقد قال للولي وغيره : تحلفون وتستحقون . وأنت لا تحلف إلا الأولياء ، قيل : يكون قد قال ذلك لأخي المقتول الوارث ، ويجوز أن يقول : تحلفون لواحد ، والدليل على ذلك حكم الله عز وجل وحكم رسوله عليه الصلاة والسلام أن اليمين لا تكون إلا فيما يدفع بها المرء عن نفسه ، أو يأخذ بها مع شاهده ، ولا يجوز لحالف يمين يأخذ بها غيره " .

قال الماوردي : أما القسامة : فهي مشتقة من القسم وهو اليمين . سميت قسامة لتكرار الأيمان فيها ، واختلف فيها هل هي اسم للأيمان أو للحالفين بها ؟

فقال بعضهم : هي اسم للأيمان : لأنها مصدر من أقسم يقسم قسامة .

وقال آخرون : هي اسم للحالفين بها : لتعلقها بهم وتعديها إليهم . والقسامة مختصة بدعوى الدم دون ما عداها من سائر الدعاوى ، وأول من قضى بالقسامة على ما حكاه ابن [ ص: 4 ] قتيبة في المعارف الوليد بن المغيرة في الجاهلية ، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام . فإن ( تجردت ) دعوى الدم عن لوث كان القول فيها قول المدعى عليه ، على ما سيأتي ، وإن اقترن بالدعوى لوث - واللوث : أن يقترن بالدعوى ما يدل على صدق المدعي ، على ما سنصفه - فيكون القول قول المدعي إذا كانت في نفس ، فيحلف خمسين يمينا ، ويحكم له بعد أيمانه بما ادعى من القتل ، فإن نكل المدعي ردت الأيمان على المدعى عليه ، فيحلف خمسين يمينا ويبرأ .

وبه قال مالك وأحمد بن حنبل .

وقال أبو حنيفة : لا اعتبار باللوث ، ولا يحكم بقول المدعي ، ويكون القول قول المدعى عليه . فإن كان واحدا حلف خمسين يمينا ، وإن كانوا أهل قرية أحلف من خيارها خمسون رجلا خمسين يمينا ، فإذا حلفوا وجبت الدية بعد أيمانهم . قال أبو حنيفة : فإن كان القتيل موجودا غرم الدية باني القرية في الموجود والمفقود ، وإن كان قتيلهم مفقودا يغرمها سكان القرية . وقال أبو يوسف : يغرمها سكان القرية في الموجود والمفقود ، وهكذا لو وجد القتيل في مسجد أو جامع حلف خمسون رجلا من خيار أهله ، ووجبت الدية بعد أيمانهم على باقي المسجد إن كان القتيل موجودا ، وعلى المصلين فيه إن كان مفقودا في قول أبي حنيفة . وعلى قول أبي يوسف تكون على أهل المسجد في الموجود والمفقود ، فإن نكلوا عن الأيمان حبسوا حتى يحلفوا . واستدلوا على إحلاف المدعى عليه دون المدعي برواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو أعطي الناس بدعاويهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر وهذا نص . وروى زياد بن أبي مريم أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي قتل بين قريتين . فقال : يحلف منهم خمسون رجلا . قال : ما لي من أخي غير هذا ؟ قال : بلى ، ولك مائة من الإبل . وهذا نص . وروى محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن عبد الله القرظي ، أن اليهود قتلوا عبد الله ، فأتت الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك . فكتب إلى اليهود أن احلفوا خمسين يمينا ، ثم اعقلوه ، فإنه وجد قتيلا بين أظهركم فألزمهم اليمين والدية معا .

وروي أن رجلا وجد قتيلا بين حيين ، فاعتبره عمر بن الخطاب رضي الله عنه [ ص: 5 ] بأقرب الحيين وأحلفهم خمسين يمينا ، وقضى عليهم بالدية . فقالوا : ما وقت أموالنا أيماننا ولا أيماننا أموالنا . فقال عمر : حصنتم بأموالكم دماءكم . وهذه قضية منتشرة ، لم يظهر لعمر فيها مخالف فكانت إجماعا . ومن القياس أن يمين المدعي قوله ، فلم يوجب الحكم له كالدعوى ، ولأنها دعوى فلم يحكم فيها بيمين المدعي كسائر الدعاوى ، ولأن كل دعوى لم يحكم فيها بيمين المدعي عند عدم اللوث ، لم يحكم فيها بيمين المدعي مع وجوب اللوث كالأطراف .

ودليلنا : الحديث الذي رواه الشافعي في صدر الباب ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار حين ادعوا قتل صاحبهم على اليهود : تحلفون وتستحقون دم صاحبكم . قالوا : لا . قال : فتبرئكم يهود بخمسين يمينا . قالوا : ليسوا بمسلمين . فوداه من عنده . وقد رواه عباد ، عن حجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : خرج حويصة ومحيصة ابنا مسعود ، وعبد الرحمن وعبد الله ابنا سهل إلى خيبر يمتارون ، فتفرقوا لحاجتهم ، فمروا بعبد الله بن سهل قتيلا ، فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه . فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : تحلفون خمسين يمينا قسامة تستحقون به قتيلكم . قالوا : نحلف على أمر غبنا عنه . قال : فيحلف اليهود خمسين يمينا فيبرؤون . فقالوا : نقبل أيمان قوم كفار . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من مال الصدقة فوداه من عنده . فكان في هذا الحديث دليل من وجهين : أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : تحلفون ، وتستحقون دم صاحبكم . فبدأ بهم ، وجعل الدم مستحقا بأيمانهم . وأبو حنيفة يبدأ بغيرهم ، ويجعل الدم مستحقا بأيمان غيرهم .

الثاني : قوله : فتبرئكم يهود بخمسين يمينا . فنقل الأيمان عنهم إلى غيرهم ، وجعلها مبرئة لهم . وأبو حنيفة لا ينقل الأيمان ولا يبرئ بها من الدم . فاعترضوا على حديث سهل بن أبي حثمة من ثلاثة أوجه :

أحدهما : أن سهل بن أبي حثمة كان طفلا لا يضبط ما يرويه . والجواب عنه : أنه قد كان ضابطا لحاله ، وقد روى أبو بكر النيسابوري في زياداته عن إبراهيم الحربي أنه كان لسهل حين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنين ، وقد عمل التابعون بما رواه .

والاعتراض الثاني : أن سفيان بن عيينة روى عن سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ في القسامة بأيمان اليهود . والجواب عنه : أنها رواية تفرد بها سفيان وشك فيها ، هل بدأ بأيمان الأنصار أو اليهود ؟ وقد قال أبو داود : وهم سفيان في هذا الحديث .

والاعتراض الثالث : أن بشير بن يسار روى عن سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار : أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟

قال محمد بن الحسن : تلك لهم على وجه الإنكار عليهم ، كما قال تعالى : [ ص: 6 ] أفحكم الجاهلية يبغون [ المائدة : 50 ] ، والجواب عنه : أنه لو كان على وجه الإنكار لما قال : وتستحقون دم صاحبكم . فيصير بالاستحقاق ، وبما قال بعده : فتبرئكم يهود بخمسين يمينا ، خارجا عن الإنكار ، وإنما أدخل الألف ليخرج عن صيغة الأمر : لأن قوله : " تحلفون " شبيه بالأمر المحتوم ، فأدخل عليه الألف للاستفهام ليصير تفريقا للحكم ، واستخبارا عن الحال . ومن الدليل عليه ما رواه مسلم بن خالد ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : . . البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر ، إلا في القسامة . ورواه مسلم ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا نص : لأنه لما جعل اليمين على المنكر واستثنى منها القسامة ، دل على أنها على دون المنكر . فاعترضوا على هذا الاستدلال من وجهين :

أحدهما : أن قوله : " واليمين على من أنكر " يريد به اختصاصها بالمنكر دون غيره ، وقوله : " إلا في القسامة " يريد به وجوبها على المنكر وعلى غيره . والجواب عنه : أن هذا التأويل لا يصح : لأن الاستثناء من الإثبات نفي ، ومن النفي إثبات ، فلما كان قوله : واليمين على من أنكر إثباتا ليمينه ، وجب أن يكون قوله : إلا في القسامة نفيا ليمينه .

والاعتراض الثاني : أن قوله : " واليمين على من أنكر " يريد به أنه يبرأ بيمينه " إلا في القسامة " أنه لا يبرأ بيمينه ، فيكون الاستثناء نفيا من الإثبات .

والجواب عنه : أن هذا التأويل أبعد من الأول : لأن الاستثناء إلى ما تضمنه اللفظ من اليمين المذكورة ، دون البراءة التي لم تذكر ، فلم يجز أن يعدل به عن المذكور إلى غير مذكور .

والدليل من القياس : أن أيمان المدعى عليهم لا يحكم لهم بموجبها : لأنهم لا يرمون عند المستحلف إذا حلفوا ، واليمين تستحق إما فيما يأخذ بها الحالف لنفسه ما ادعى ، وإما ليدفع بها عن نفسه ما أنكر . فنقول : كل يمين لا يحكم للحالف بموجبها ، لم يجز الاستحلاف بها قياسا على يمين المدعي في غير الدماء ، وعلى يمين المدعى عليه بعد اعترافه بالحق . فإن قيل : هذا منتقض بأيمان المتبايعين إذا تحالفا في الثمن يستحلفان بها ، وإن لم يحكم بموجبها ، قيل : قد يحكم بموجبها إذا حلف أحدهما ، ولا يحكم بموجبها إذا حلفا لتعارضهما ، كما يحكم بالبينة إذا انفردت ، ولا يحكم بها إذا تعارضت . فإن قيل : فأنتم لا تحكمون بموجب الأيمان في القسامة : لأن موجبها القود ، وأنتم لا توجبونه . قيل : موجبها ثبوت القتل ، وقد أثبتناه ، ولنا في القود قول نذكره . ومن الدليل أنها أيمان تكررت في الدعوى شرعا ، فوجب أن يبدأ فيها بالمدعي كاللعان . فإن أنكروا أن يكون اللعان يمينا ، دللنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : لولا الأيمان لكان لي ولها شأن . [ ص: 7 ] فأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : " واليمين على من أنكر " . من وجهين :

أحدهما : قوله : " إلا في القسامة " .

والثاني : أن حديث القسامة أخص منه ، فوجب أن يقضى بالخاص على العام .

وأما الجواب عن حديث زياد بن أبي مريم ، فمن وجهين :

أحدهما : أنه مجهول الإسناد ، ولا يعرفه أصحاب الحديث .

والثاني : حمله على الدعوى إن لم تقترن بلوث .

وأما الجواب عن حديث القرظي ، فمن وجهين .

أحدهما : ضعف إسناده وصحة إسنادنا ، وانفراده وكثرة رواتنا .

والثاني : أن أخبارنا أزيد نقلا وأشرح حالا ، والزيادة أولى من النقصان ، والشرح أصح من الإجمال .

وأما الجواب عن قضية عمر ، فمن وجهين :

أحدهما : أن عبد الله بن الزبير وقد خالفه فيها ، فقتل في القسامة ، ولم يقتل فيها عمر ، فتنافت قضاياهما ، فسقط الإجماع .

والثاني : أنها قضية في عين ، يمكن حملها على أن المدعي ادعى قتل العمد ليستحق القود ، فاعترفوا له بقتل الخطأ ، فأحلفهم على العمد ، وأوجب عليهم دية الخطأ بالاعتراف .

وأما الجواب عن قياسهم على مجرد الدعوى : فهو أنه لا يجوز أن يعتبر يمين المدعي بدعواه ، كما لا يجوز أن يعتبر يمين المنكر بإنكاره ، للفرق فيما بين اليمين ومجرد القول . أما الجواب عن قياسهم على سائر الدعاوى : فهو إجماعنا على اختصاص القسامة بالدماء دون سائر الدعاوى .

وأما قياسهم على الأطراف : فلأن القسامة عندهم لا تدخلها وإن دخلت في النفس ، وكذلك عندنا : لأن حرمة النفس أغلظ ؛ ولذلك تغلغلت بالنفس دون الأطراف . والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية