[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب القسامة
مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : " أخبرنا
مالك ، عن
أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن
سهل بن أبي حثمة ، أنه أخبره رجال من كبراء قومه
nindex.php?page=hadith&LINKID=924558أن عبد الله ومحيصة خرجا إلى خيبر ، فتفرقا في حوائجهما ، فأخبر محيصة أن عبد الله قتل وطرح في قفير أو عين ، فأتى يهود فقال : أنتم قتلتموه . قالوا : ما قتلناه . فقدم على قومه فأخبرهم ، فأقبل هو وأخوه حويصة وعبد الرحمن بن سهل أخو المقتول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب محيصة يتكلم ، فقال عليه السلام : كبر كبر - يريد السن - فتكلم حويصة ثم محيصة ، فقال عليه السلام : إما أن يدوا صاحبكم ، وإما أن يؤذنوا بحرب . فكتب عليه السلام إليهم في ذلك . فكتبوا : إنا والله ما قتلناه . فقال لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن : أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟ قالوا : لا . قال فتحلف يهود . قالوا : ليسوا بمسلمين . فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده ، فبعث إليهم مائة ناقة . قال سهل : لقد ركضتني منها ناقة حمراء . ( قال
الشافعي ) رحمه الله : فإن قيل فقد قال للولي وغيره : تحلفون وتستحقون . وأنت لا تحلف إلا الأولياء ، قيل : يكون قد قال ذلك لأخي المقتول الوارث ، ويجوز أن يقول : تحلفون لواحد ، والدليل على ذلك حكم الله عز وجل وحكم رسوله عليه الصلاة والسلام أن اليمين لا تكون إلا فيما يدفع بها المرء عن نفسه ، أو يأخذ بها مع شاهده ، ولا يجوز لحالف يمين يأخذ بها غيره " .
قال
الماوردي : أما
nindex.php?page=treesubj&link=9458القسامة : فهي مشتقة من القسم وهو اليمين . سميت قسامة لتكرار الأيمان فيها ، واختلف فيها هل هي اسم للأيمان أو للحالفين بها ؟
فقال بعضهم : هي اسم للأيمان : لأنها مصدر من أقسم يقسم قسامة .
وقال آخرون : هي اسم للحالفين بها : لتعلقها بهم وتعديها إليهم . والقسامة مختصة بدعوى الدم دون ما عداها من سائر الدعاوى ،
nindex.php?page=treesubj&link=34020وأول من قضى بالقسامة على ما
حكاه ابن [ ص: 4 ] قتيبة في المعارف
الوليد بن المغيرة في الجاهلية ، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام . فإن ( تجردت ) دعوى الدم عن لوث كان القول فيها قول المدعى عليه ، على ما سيأتي ، وإن اقترن بالدعوى لوث -
nindex.php?page=treesubj&link=9464_9465واللوث : أن يقترن بالدعوى ما يدل على صدق المدعي ، على ما سنصفه - فيكون القول قول المدعي إذا كانت في نفس ، فيحلف خمسين يمينا ، ويحكم له بعد أيمانه بما ادعى من القتل ، فإن نكل المدعي ردت الأيمان على المدعى عليه ، فيحلف خمسين يمينا ويبرأ .
وبه قال
مالك وأحمد بن حنبل .
وقال
أبو حنيفة : لا اعتبار باللوث ، ولا يحكم بقول المدعي ، ويكون القول قول المدعى عليه . فإن كان واحدا حلف خمسين يمينا ، وإن كانوا أهل قرية أحلف من خيارها خمسون رجلا خمسين يمينا ، فإذا حلفوا وجبت الدية بعد أيمانهم . قال
أبو حنيفة : فإن كان القتيل موجودا غرم الدية باني القرية في الموجود والمفقود ، وإن كان قتيلهم مفقودا يغرمها سكان القرية . وقال
أبو يوسف : يغرمها سكان القرية في الموجود والمفقود ، وهكذا لو
nindex.php?page=treesubj&link=9482_9488وجد القتيل في مسجد أو جامع حلف خمسون رجلا من خيار أهله ، ووجبت الدية بعد أيمانهم على باقي المسجد إن كان القتيل موجودا ، وعلى المصلين فيه إن كان مفقودا في قول
أبي حنيفة . وعلى قول
أبي يوسف تكون على أهل المسجد في الموجود والمفقود ، فإن
nindex.php?page=treesubj&link=9514نكلوا عن الأيمان حبسوا حتى يحلفوا . واستدلوا على إحلاف المدعى عليه دون المدعي برواية
ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924559لو أعطي الناس بدعاويهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر وهذا نص . وروى
زياد بن أبي مريم أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن nindex.php?page=treesubj&link=33497أخي قتل بين قريتين . فقال : يحلف منهم خمسون رجلا . قال : ما لي من أخي غير هذا ؟ قال : بلى ، ولك مائة من الإبل . وهذا نص . وروى
محمد بن إسحاق ، عن
محمد بن إبراهيم ، عن
عبد الرحمن بن عبد الله القرظي ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=924561أن اليهود قتلوا عبد الله ، فأتت الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك . فكتب إلى اليهود أن احلفوا خمسين يمينا ، ثم اعقلوه ، فإنه وجد قتيلا بين أظهركم فألزمهم اليمين والدية معا .
وروي أن رجلا وجد قتيلا بين حيين ، فاعتبره
عمر بن الخطاب رضي الله عنه
[ ص: 5 ] بأقرب الحيين وأحلفهم خمسين يمينا ، وقضى عليهم بالدية . فقالوا : ما وقت أموالنا أيماننا ولا أيماننا أموالنا . فقال
عمر : حصنتم بأموالكم دماءكم . وهذه قضية منتشرة ، لم يظهر
لعمر فيها مخالف فكانت إجماعا . ومن القياس أن يمين المدعي قوله ، فلم يوجب الحكم له كالدعوى ، ولأنها دعوى فلم يحكم فيها بيمين المدعي كسائر الدعاوى ، ولأن كل دعوى لم يحكم فيها بيمين المدعي عند عدم اللوث ، لم يحكم فيها بيمين المدعي مع وجوب اللوث كالأطراف .
ودليلنا : الحديث الذي رواه
الشافعي في صدر الباب ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
للأنصار حين ادعوا قتل صاحبهم على
اليهود : تحلفون وتستحقون دم صاحبكم . قالوا : لا . قال : فتبرئكم
يهود بخمسين يمينا . قالوا : ليسوا بمسلمين . فوداه من عنده . وقد رواه
عباد ، عن
حجاج ، عن
عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924562خرج حويصة ومحيصة ابنا مسعود ، وعبد الرحمن وعبد الله ابنا سهل إلى خيبر يمتارون ، فتفرقوا لحاجتهم ، فمروا بعبد الله بن سهل قتيلا ، فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه . فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : تحلفون خمسين يمينا قسامة تستحقون به قتيلكم . قالوا : نحلف على أمر غبنا عنه . قال : فيحلف اليهود خمسين يمينا فيبرؤون . فقالوا : نقبل أيمان قوم كفار . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من مال الصدقة فوداه من عنده . فكان في هذا الحديث دليل من وجهين : أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : تحلفون ، وتستحقون دم صاحبكم . فبدأ بهم ، وجعل الدم مستحقا بأيمانهم .
وأبو حنيفة يبدأ بغيرهم ، ويجعل الدم مستحقا بأيمان غيرهم .
الثاني : قوله : فتبرئكم
يهود بخمسين يمينا . فنقل الأيمان عنهم إلى غيرهم ، وجعلها مبرئة لهم .
وأبو حنيفة لا ينقل الأيمان ولا يبرئ بها من الدم . فاعترضوا على حديث
سهل بن أبي حثمة من ثلاثة أوجه :
أحدهما : أن
سهل بن أبي حثمة كان طفلا لا يضبط ما يرويه . والجواب عنه : أنه قد كان ضابطا لحاله ، وقد روى
أبو بكر النيسابوري في زياداته عن
إبراهيم الحربي أنه كان
لسهل حين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنين ، وقد عمل التابعون بما رواه .
والاعتراض الثاني : أن
سفيان بن عيينة روى عن
سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ في القسامة بأيمان
اليهود . والجواب عنه : أنها رواية تفرد بها
سفيان وشك فيها ، هل بدأ بأيمان
الأنصار أو
اليهود ؟ وقد قال
أبو داود : وهم
سفيان في هذا الحديث .
والاعتراض الثالث : أن
بشير بن يسار روى عن
سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
للأنصار :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924563أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟
قال
محمد بن الحسن : تلك لهم على وجه الإنكار عليهم ، كما قال تعالى :
[ ص: 6 ] nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=50أفحكم الجاهلية يبغون [ المائدة : 50 ] ، والجواب عنه : أنه لو كان على وجه الإنكار لما قال : وتستحقون دم صاحبكم . فيصير بالاستحقاق ، وبما قال بعده : فتبرئكم
يهود بخمسين يمينا ، خارجا عن الإنكار ، وإنما أدخل الألف ليخرج عن صيغة الأمر : لأن قوله : " تحلفون " شبيه بالأمر المحتوم ، فأدخل عليه الألف للاستفهام ليصير تفريقا للحكم ، واستخبارا عن الحال . ومن الدليل عليه ما رواه
مسلم بن خالد ، عن
ابن جريج ، عن
عطاء ، عن
أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=923112 . . البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر ، إلا في القسامة . ورواه
مسلم ، عن
ابن جريج ، عن
عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا نص : لأنه لما جعل اليمين على المنكر واستثنى منها القسامة ، دل على أنها على دون المنكر . فاعترضوا على هذا الاستدلال من وجهين :
أحدهما : أن قوله : " واليمين على من أنكر " يريد به اختصاصها بالمنكر دون غيره ، وقوله : " إلا في القسامة " يريد به وجوبها على المنكر وعلى غيره . والجواب عنه : أن هذا التأويل لا يصح : لأن الاستثناء من الإثبات نفي ، ومن النفي إثبات ، فلما كان قوله : واليمين على من أنكر إثباتا ليمينه ، وجب أن يكون قوله : إلا في القسامة نفيا ليمينه .
والاعتراض الثاني : أن قوله : "
واليمين على من أنكر " يريد به أنه يبرأ بيمينه "
إلا في القسامة " أنه لا يبرأ بيمينه ، فيكون الاستثناء نفيا من الإثبات .
والجواب عنه : أن هذا التأويل أبعد من الأول : لأن الاستثناء إلى ما تضمنه اللفظ من اليمين المذكورة ، دون البراءة التي لم تذكر ، فلم يجز أن يعدل به عن المذكور إلى غير مذكور .
والدليل من القياس : أن أيمان المدعى عليهم لا يحكم لهم بموجبها : لأنهم لا يرمون عند المستحلف إذا حلفوا ، واليمين تستحق إما فيما يأخذ بها الحالف لنفسه ما ادعى ، وإما ليدفع بها عن نفسه ما أنكر . فنقول : كل يمين لا يحكم للحالف بموجبها ، لم يجز الاستحلاف بها قياسا على يمين المدعي في غير الدماء ، وعلى يمين المدعى عليه بعد اعترافه بالحق . فإن قيل : هذا منتقض بأيمان المتبايعين إذا تحالفا في الثمن يستحلفان بها ، وإن لم يحكم بموجبها ، قيل : قد يحكم بموجبها إذا حلف أحدهما ، ولا يحكم بموجبها إذا حلفا لتعارضهما ، كما يحكم بالبينة إذا انفردت ، ولا يحكم بها إذا تعارضت . فإن قيل : فأنتم لا تحكمون بموجب الأيمان في القسامة : لأن موجبها القود ، وأنتم لا توجبونه . قيل : موجبها ثبوت القتل ، وقد أثبتناه ، ولنا في القود قول نذكره . ومن الدليل أنها أيمان تكررت في الدعوى شرعا ، فوجب أن يبدأ فيها بالمدعي كاللعان . فإن أنكروا أن يكون اللعان يمينا ، دللنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924204لولا الأيمان لكان لي ولها شأن .
[ ص: 7 ] فأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : "
واليمين على من أنكر " . من وجهين :
أحدهما : قوله : "
إلا في القسامة " .
والثاني : أن حديث القسامة أخص منه ، فوجب أن يقضى بالخاص على العام .
وأما الجواب عن حديث
زياد بن أبي مريم ، فمن وجهين :
أحدهما : أنه مجهول الإسناد ، ولا يعرفه أصحاب الحديث .
والثاني : حمله على الدعوى إن لم تقترن بلوث .
وأما الجواب عن حديث
القرظي ، فمن وجهين .
أحدهما : ضعف إسناده وصحة إسنادنا ، وانفراده وكثرة رواتنا .
والثاني : أن أخبارنا أزيد نقلا وأشرح حالا ، والزيادة أولى من النقصان ، والشرح أصح من الإجمال .
وأما الجواب عن قضية
عمر ، فمن وجهين :
أحدهما : أن
عبد الله بن الزبير وقد خالفه فيها ، فقتل في القسامة ، ولم يقتل فيها
عمر ، فتنافت قضاياهما ، فسقط الإجماع .
والثاني : أنها قضية في عين ، يمكن حملها على أن المدعي ادعى قتل العمد ليستحق القود ، فاعترفوا له بقتل الخطأ ، فأحلفهم على العمد ، وأوجب عليهم دية الخطأ بالاعتراف .
وأما الجواب عن قياسهم على مجرد الدعوى : فهو أنه لا يجوز أن يعتبر يمين المدعي بدعواه ، كما لا يجوز أن يعتبر يمين المنكر بإنكاره ، للفرق فيما بين اليمين ومجرد القول . أما الجواب عن قياسهم على سائر الدعاوى : فهو إجماعنا على اختصاص القسامة بالدماء دون سائر الدعاوى .
وأما قياسهم على الأطراف : فلأن القسامة عندهم لا تدخلها وإن دخلت في النفس ، وكذلك عندنا : لأن حرمة النفس أغلظ ؛ ولذلك تغلغلت بالنفس دون الأطراف . والله أعلم بالصواب .
[ ص: 3 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كِتَابُ الْقَسَامَةِ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ
الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَخْبَرَنَا
مَالِكٌ ، عَنْ
أَبِي لَيْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ
سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ رِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءَ قَوْمِهِ
nindex.php?page=hadith&LINKID=924558أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ ، فَتَفَرَّقَا فِي حَوَائِجِهِمَا ، فَأُخْبِرَ مُحَيِّصَةُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي قَفِيرٍ أَوْ عَيْنٍ ، فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ : أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُ . قَالُوا : مَا قَتَلْنَاهُ . فَقَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَأَخْبَرَهُمْ ، فَأَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ أَخُو الْمَقْتُولِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ يَتَكَلَّمُ ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : كَبِّرْ كَبِّرْ - يُرِيدُ السِّنَّ - فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ ثُمَّ مُحَيِّصَةُ ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ . فَكَتَبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ . فَكَتَبُوا : إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ . فَقَالَ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ : أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ ؟ قَالُوا : لَا . قَالَ فَتَحْلِفُ يَهُودُ . قَالُوا : لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ . فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مِائَةَ نَاقَةٍ . قَالَ سَهْلٌ : لَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ . ( قَالَ
الشَّافِعِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ لِلْوَلِيِّ وَغَيْرِهِ : تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ . وَأَنْتَ لَا تَحْلِفُ إِلَّا الْأَوْلِيَاءَ ، قِيلَ : يَكُونُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ لِأَخِي الْمَقْتُولِ الْوَارِثِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : تَحْلِفُونَ لِوَاحِدٍ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحُكْمُ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الْيَمِينَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِيمَا يَدْفَعُ بِهَا الْمَرْءُ عَنْ نَفْسِهِ ، أَوْ يَأْخُذُ بِهَا مَعَ شَاهِدِهِ ، وَلَا يَجُوزُ لِحَالِفِ يَمِينٍ يَأْخُذُ بِهَا غَيْرَهُ " .
قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=9458الْقَسَامَةُ : فَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْقَسَمِ وَهُوَ الْيَمِينُ . سُمِّيَتْ قَسَامَةً لِتَكْرَارِ الْأَيْمَانِ فِيهَا ، وَاخْتُلِفَ فِيهَا هَلْ هِيَ اسْمٌ لِلْأَيْمَانِ أَوْ لِلْحَالِفِينَ بِهَا ؟
فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ اسْمٌ لِلْأَيْمَانِ : لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ مِنْ أَقْسَمَ يُقْسِمُ قَسَامَةً .
وَقَالَ آخَرُونَ : هِيَ اسْمٌ لِلْحَالِفِينَ بِهَا : لِتَعَلُّقِهَا بِهِمْ وَتَعَدِّيهَا إِلَيْهِمْ . وَالْقَسَامَةُ مُخْتَصَّةٌ بِدَعْوَى الدَّمِ دُونَ مَا عَدَاهَا مِنْ سَائِرِ الدَّعَاوَى ،
nindex.php?page=treesubj&link=34020وَأَوَّلُ مَنْ قَضَى بِالْقَسَامَةِ عَلَى مَا
حَكَاهُ ابْنُ [ ص: 4 ] قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ
الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَأَقَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِسْلَامِ . فَإِنْ ( تَجَرَّدَتْ ) دَعْوَى الدَّمِ عَنْ لَوْثٍ كَانَ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، عَلَى مَا سَيَأْتِي ، وَإِنِ اقْتَرَنَ بِالدَّعْوَى لَوْثٌ -
nindex.php?page=treesubj&link=9464_9465وَاللَّوْثُ : أَنْ يَقْتَرِنَ بِالدَّعْوَى مَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي ، عَلَى مَا سَنَصِفُهُ - فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُدَّعِي إِذَا كَانَتْ فِي نَفْسٍ ، فَيَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَيُحْكَمُ لَهُ بَعْدَ أَيْمَانِهِ بِمَا ادَّعَى مِنَ الْقَتْلِ ، فَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعِي رُدَّتِ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَيَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَيُبَرَّأُ .
وَبِهِ قَالَ
مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ .
وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ : لَا اعْتِبَارَ بِاللَّوْثِ ، وَلَا يُحْكَمُ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ . فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ قَرْيَةٍ أُحْلِفَ مِنْ خِيَارِهَا خَمْسُونَ رَجُلًا خَمْسِينَ يَمِينًا ، فَإِذَا حَلَفُوا وَجَبَتِ الدِّيَةُ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ . قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ : فَإِنْ كَانَ الْقَتِيلُ مَوْجُودًا غَرِمَ الدِّيَةَ بَانِي الْقَرْيَةِ فِي الْمَوْجُودِ وَالْمَفْقُودِ ، وَإِنْ كَانَ قَتِيلُهُمْ مَفْقُودًا يَغْرَمُهَا سُكَّانُ الْقَرْيَةِ . وَقَالَ
أَبُو يُوسُفَ : يَغْرَمُهَا سُكَّانُ الْقَرْيَةِ فِي الْمَوْجُودِ وَالْمَفْقُودِ ، وَهَكَذَا لَوْ
nindex.php?page=treesubj&link=9482_9488وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي مَسْجِدٍ أَوْ جَامِعٍ حَلَفَ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْ خِيَارِ أَهْلِهِ ، وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ عَلَى بَاقِي الْمَسْجِدِ إِنْ كَانَ الْقَتِيلُ مَوْجُودًا ، وَعَلَى الْمُصَلِّينَ فِيهِ إِنْ كَانَ مَفْقُودًا فِي قَوْلِ
أَبِي حَنِيفَةَ . وَعَلَى قَوْلِ
أَبِي يُوسُفَ تَكُونُ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ فِي الْمَوْجُودِ وَالْمَفْقُودِ ، فَإِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=9514نَكَلُوا عَنِ الْأَيْمَانِ حُبِسُوا حَتَّى يَحْلِفُوا . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى إِحْلَافِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ الْمُدَّعِي بِرِوَايَةِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924559لَوْ أُعْطِي النَّاسُ بِدَعَاوِيهِمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ ، لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وَهَذَا نَصٌّ . وَرَوَى
زِيَادُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنَّ nindex.php?page=treesubj&link=33497أَخِي قُتِلَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ . فَقَالَ : يَحْلِفُ مِنْهُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا . قَالَ : مَا لِي مِنْ أَخِي غَيْرُ هَذَا ؟ قَالَ : بَلَى ، وَلَكَ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ . وَهَذَا نَصٌّ . وَرَوَى
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَظِيِّ ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=924561أَنَّ الْيَهُودَ قَتَلُوا عَبْدَ اللَّهِ ، فَأَتَتِ الْأَنْصَارُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ . فَكَتَبَ إِلَى الْيَهُودِ أَنِ احْلِفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا ، ثُمَّ اعْقِلُوهُ ، فَإِنَّهُ وُجِدَ قَتِيلًا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَأَلْزَمَهُمُ الْيَمِينَ وَالدِّيَةَ مَعًا .
وَرُوِيَ أَنْ رَجُلًا وُجِدَ قَتِيلًا بَيْنَ حَيَّيْنِ ، فَاعْتَبَرَهُ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
[ ص: 5 ] بِأَقْرَبِ الْحَيَّيْنِ وَأَحْلَفَهُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَقَضَى عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ . فَقَالُوا : مَا وَقَتْ أَمْوَالَنَا أَيْمَانُنَا وَلَا أَيْمَانَنَا أَمْوَالُنَا . فَقَالَ
عُمَرُ : حَصَّنْتُمْ بِأَمْوَالِكُمْ دِمَاءَكُمْ . وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ مُنْتَشِرَةٌ ، لَمْ يَظْهَرْ
لِعُمَرَ فِيهَا مُخَالِفٌ فَكَانَتْ إِجْمَاعًا . وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعِي قَوْلُهُ ، فَلَمْ يُوجَبِ الْحُكْمُ لَهُ كَالدَّعْوَى ، وَلِأَنَّهَا دَعْوَى فَلَمْ يُحْكَمْ فِيهَا بِيَمِينِ الْمُدَّعِي كَسَائِرِ الدَّعَاوَى ، وَلِأَنَّ كُلَّ دَعْوَى لَمْ يُحْكَمْ فِيهَا بِيَمِينِ الْمُدَّعِي عِنْدَ عَدَمِ اللَّوْثِ ، لَمْ يُحْكَمْ فِيهَا بِيَمِينِ الْمُدَّعِي مَعَ وُجُوبِ اللَّوْثِ كَالْأَطْرَافِ .
وَدَلِيلُنَا : الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ
الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لِلْأَنْصَارِ حِينَ ادَّعَوْا قَتْلَ صَاحِبِهِمْ عَلَى
الْيَهُودِ : تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ . قَالُوا : لَا . قَالَ : فَتُبْرِئُكُمْ
يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا . قَالُوا : لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ . فَوَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ . وَقَدْ رَوَاهُ
عَبَّادٌ ، عَنْ
حَجَّاجٍ ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924562خَرَجَ حُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا سَهْلٍ إِلَى خَيْبَرَ يَمْتَارُونَ ، فَتَفَرَّقُوا لِحَاجَتِهِمْ ، فَمَرُّوا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ قَتِيلًا ، فَرَجَعُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ . فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا قَسَامَةً تَسْتَحِقُّونَ بِهِ قَتِيلَكُمْ . قَالُوا : نَحْلِفُ عَلَى أَمْرٍ غِبْنَا عَنْهُ . قَالَ : فَيَحْلِفُ الْيَهُودُ خَمْسِينَ يَمِينًا فَيُبَرَّؤُونَ . فَقَالُوا : نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ . فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَالٍ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ فَوَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ . فَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : تَحْلِفُونَ ، وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ . فَبَدَأَ بِهِمْ ، وَجَعَلَ الدَّمَ مُسْتَحَقًّا بِأَيْمَانِهِمْ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ يَبْدَأُ بِغَيْرِهِمْ ، وَيَجْعَلُ الدَّمَ مُسْتَحَقًّا بِأَيْمَانِ غَيْرِهِمْ .
الثَّانِي : قَوْلُهُ : فَتُبْرِئُكُمْ
يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا . فَنَقَلَ الْأَيْمَانَ عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ ، وَجَعَلَهَا مُبْرِئَةً لَهُمْ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَنْقُلُ الْأَيْمَانَ وَلَا يُبْرِئُ بِهَا مِنَ الدَّمِ . فَاعْتَرَضُوا عَلَى حَدِيثِ
سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ
سَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ كَانَ طِفْلًا لَا يَضْبِطُ مَا يَرْوِيهِ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّهُ قَدْ كَانَ ضَابِطًا لِحَالِهِ ، وَقَدْ رَوَى
أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ فِي زِيَادَاتِهِ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ أَنَّهُ كَانَ
لِسَهْلٍ حِينَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِي سِنِينَ ، وَقَدْ عَمِلَ التَّابِعُونَ بِمَا رَوَاهُ .
وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي : أَنَّ
سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ رَوَى عَنْ
سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ فِي الْقَسَامَةِ بِأَيْمَانِ
الْيَهُودِ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّهَا رِوَايَةٌ تَفَرَّدَ بِهَا
سُفْيَانُ وَشَكَّ فِيهَا ، هَلْ بَدَأَ بِأَيْمَانِ
الْأَنْصَارِ أَوِ
الْيَهُودِ ؟ وَقَدْ قَالَ
أَبُو دَاوُدَ : وَهِمَ
سُفْيَانُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ .
وَالِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ : أَنَّ
بَشِيرَ بْنَ يَسَارٍ رَوَى عَنْ
سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لِلْأَنْصَارِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924563أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ ؟
قَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : تِلْكَ لَهُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
[ ص: 6 ] nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=50أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [ الْمَائِدَةِ : 50 ] ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ لَمَا قَالَ : وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ . فَيَصِيرُ بِالِاسْتِحْقَاقِ ، وَبِمَا قَالَ بَعْدَهُ : فَتُبْرِئُكُمْ
يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا ، خَارِجًا عَنِ الْإِنْكَارِ ، وَإِنَّمَا أَدْخَلَ الْأَلِفَ لِيَخْرُجَ عَنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ : لِأَنَّ قَوْلَهُ : " تَحْلِفُونَ " شَبِيهٌ بِالْأَمْرِ الْمَحْتُومِ ، فَأَدْخَلَ عَلَيْهِ الْأَلِفَ لِلِاسْتِفْهَامِ لِيَصِيرَ تَفْرِيقًا لِلْحُكْمِ ، وَاسْتِخْبَارًا عَنِ الْحَالِ . وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ
مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ ، عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ
عَطَاءٍ ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=923112 . . الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ، إِلَّا فِي الْقَسَامَةِ . وَرَوَاهُ
مُسْلِمٌ ، عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَذَا نَصٌّ : لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ وَاسْتَثْنَى مِنْهَا الْقَسَامَةَ ، دَلَّ عَلَى أَنَّهَا عَلَى دُونِ الْمُنْكِرِ . فَاعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ : " وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ " يُرِيدُ بِهِ اخْتِصَاصَهَا بِالْمُنْكِرِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَقَوْلُهُ : " إِلَّا فِي الْقَسَامَةِ " يُرِيدُ بِهِ وُجُوبَهَا عَلَى الْمُنْكِرِ وَعَلَى غَيْرِهِ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ لَا يَصِحُّ : لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ ، وَمِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ ، فَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ : وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إِثْبَاتًا لِيَمِينِهِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : إِلَّا فِي الْقَسَامَةِ نَفْيًا لِيَمِينِهِ .
وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : "
وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ " يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ يَبْرَأُ بِيَمِينِهِ "
إِلَّا فِي الْقَسَامَةِ " أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ بِيَمِينِهِ ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ نَفْيًا مِنَ الْإِثْبَاتِ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ أَبْعَدُ مِنَ الْأَوَّلِ : لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ اللَّفْظُ مِنَ الْيَمِينِ الْمَذْكُورَةِ ، دُونَ الْبَرَاءَةِ الَّتِي لَمْ تُذْكَرْ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ عَنِ الْمَذْكُورِ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ .
وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّ أَيْمَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ لَا يُحْكَمُ لَهُمْ بِمُوجِبِهَا : لِأَنَّهُمْ لَا يَرْمُونَ عِنْدَ الْمُسْتَحْلِفِ إِذَا حَلَفُوا ، وَالْيَمِينُ تَسْتَحِقُّ إِمَّا فِيمَا يَأْخُذُ بِهَا الْحَالِفُ لِنَفْسِهِ مَا ادَّعَى ، وَإِمَّا لِيَدْفَعَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مَا أَنْكَرَ . فَنَقُولُ : كُلُّ يَمِينٍ لَا يُحْكَمُ لِلْحَالِفِ بِمُوجِبِهَا ، لَمْ يَجُزِ الِاسْتِحْلَافُ بِهَا قِيَاسًا عَلَى يَمِينِ الْمُدَّعِي فِي غَيْرِ الدِّمَاءِ ، وَعَلَى يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ بِالْحَقِّ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مُنْتَقَضٌ بِأَيْمَانِ الْمُتَبَايِعِينَ إِذَا تَحَالَفَا فِي الثَّمَنِ يَسْتَحْلِفَانِ بِهَا ، وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِمُوجِبِهَا ، قِيلَ : قَدْ يُحْكَمُ بِمُوجِبِهَا إِذَا حَلَفَ أَحَدُهُمَا ، وَلَا يُحْكَمُ بِمُوجِبِهَا إِذَا حَلَفَا لِتَعَارُضِهِمَا ، كَمَا يُحْكَمُ بِالْبَيِّنَةِ إِذَا انْفَرَدَتْ ، وَلَا يُحْكَمُ بِهَا إِذَا تَعَارَضَتْ . فَإِنْ قِيلَ : فَأَنْتُمْ لَا تَحْكُمُونَ بِمُوجِبِ الْأَيْمَانِ فِي الْقَسَامَةِ : لِأَنَّ مُوجَبَهَا الْقَوَدُ ، وَأَنْتُمْ لَا تُوجِبُونَهُ . قِيلَ : مُوجِبُهَا ثُبُوتُ الْقَتْلِ ، وَقَدْ أَثْبَتْنَاهُ ، وَلَنَا فِي الْقَوَدِ قَوْلٌ نَذْكُرُهُ . وَمِنَ الدَّلِيلِ أَنَّهَا أَيْمَانٌ تَكَرَّرَتْ فِي الدَّعْوَى شَرْعًا ، فَوَجَبَ أَنْ يُبْدَأَ فِيهَا بِالْمُدَّعِي كَاللِّعَانِ . فَإِنْ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللِّعَانُ يَمِينًا ، دَلَّلْنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924204لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ .
[ ص: 7 ] فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ " . مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ : "
إِلَّا فِي الْقَسَامَةِ " .
وَالثَّانِي : أَنَّ حَدِيثَ الْقَسَامَةِ أَخَصُّ مِنْهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْضَى بِالْخَاصِّ عَلَى الْعَامِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ
زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَجْهُولُ الْإِسْنَادِ ، وَلَا يَعْرِفُهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ .
وَالثَّانِي : حَمْلُهُ عَلَى الدَّعْوَى إِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِلَوْثٍ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ
الْقُرَظِيِّ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : ضَعْفُ إِسْنَادِهِ وَصِحَّةُ إِسْنَادِنَا ، وَانْفِرَادُهُ وَكَثْرَةُ رُوَاتِنَا .
وَالثَّانِي : أَنَّ أَخْبَارَنَا أَزْيَدُ نَقْلًا وَأَشْرَحُ حَالًا ، وَالزِّيَادَةُ أَوْلَى مِنَ النُّقْصَانِ ، وَالشَّرْحُ أَصَحُّ مِنَ الْإِجْمَالِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَضِيَّةِ
عُمَرَ ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَقَدْ خَالَفَهُ فِيهَا ، فَقَتَلَ فِي الْقَسَامَةِ ، وَلَمْ يَقْتُلْ فِيهَا
عُمَرُ ، فَتَنَافَتْ قَضَايَاهُمَا ، فَسَقَطَ الْإِجْمَاعُ .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ ، يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ ادَّعَى قَتْلَ الْعَمْدِ لِيَسْتَحِقَّ الْقَوَدَ ، فَاعْتَرَفُوا لَهُ بِقَتْلِ الْخَطَأِ ، فَأَحْلَفَهُمْ عَلَى الْعَمْدِ ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ دِيَةَ الْخَطَأِ بِالِاعْتِرَافِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى مُجَرَّدِ الدَّعْوَى : فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ يَمِينُ الْمُدَّعِي بِدَعْوَاهُ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ يَمِينُ الْمُنْكِرِ بِإِنْكَارِهِ ، لِلْفَرْقِ فِيمَا بَيْنَ الْيَمِينِ وَمُجَرَّدِ الْقَوْلِ . أَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى سَائِرِ الدَّعَاوَى : فَهُوَ إِجْمَاعُنَا عَلَى اخْتِصَاصِ الْقَسَامَةِ بِالدِّمَاءِ دُونَ سَائِرِ الدَّعَاوَى .
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْأَطْرَافِ : فَلِأَنَّ الْقَسَامَةَ عِنْدَهُمْ لَا تَدْخُلُهَا وَإِنْ دَخَلَتْ فِي النَّفْسِ ، وَكَذَلِكَ عِنْدَنَا : لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ أَغْلَظُ ؛ وَلِذَلِكَ تَغَلْغَلَتْ بِالنَّفْسِ دُونَ الْأَطْرَافِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .