الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                            كتاب القسامة

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " أخبرنا مالك ، عن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن سهل بن أبي حثمة ، أنه أخبره رجال من كبراء قومه أن عبد الله ومحيصة خرجا إلى خيبر ، فتفرقا في حوائجهما ، فأخبر محيصة أن عبد الله قتل وطرح في قفير أو عين ، فأتى يهود فقال : أنتم قتلتموه . قالوا : ما قتلناه . فقدم على قومه فأخبرهم ، فأقبل هو وأخوه حويصة وعبد الرحمن بن سهل أخو المقتول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب محيصة يتكلم ، فقال عليه السلام : كبر كبر - يريد السن - فتكلم حويصة ثم محيصة ، فقال عليه السلام : إما أن يدوا صاحبكم ، وإما أن يؤذنوا بحرب . فكتب عليه السلام إليهم في ذلك . فكتبوا : إنا والله ما قتلناه . فقال لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن : أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟ قالوا : لا . قال فتحلف يهود . قالوا : ليسوا بمسلمين . فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده ، فبعث إليهم مائة ناقة . قال سهل : لقد ركضتني منها ناقة حمراء . ( قال الشافعي ) رحمه الله : فإن قيل فقد قال للولي وغيره : تحلفون وتستحقون . وأنت لا تحلف إلا الأولياء ، قيل : يكون قد قال ذلك لأخي المقتول الوارث ، ويجوز أن يقول : تحلفون لواحد ، والدليل على ذلك حكم الله عز وجل وحكم رسوله عليه الصلاة والسلام أن اليمين لا تكون إلا فيما يدفع بها المرء عن نفسه ، أو يأخذ بها مع شاهده ، ولا يجوز لحالف يمين يأخذ بها غيره " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما القسامة : فهي مشتقة من القسم وهو اليمين . سميت قسامة لتكرار الأيمان فيها ، واختلف فيها هل هي اسم للأيمان أو للحالفين بها ؟

                                                                                                                                            فقال بعضهم : هي اسم للأيمان : لأنها مصدر من أقسم يقسم قسامة .

                                                                                                                                            وقال آخرون : هي اسم للحالفين بها : لتعلقها بهم وتعديها إليهم . والقسامة مختصة بدعوى الدم دون ما عداها من سائر الدعاوى ، وأول من قضى بالقسامة على ما حكاه ابن [ ص: 4 ] قتيبة في المعارف الوليد بن المغيرة في الجاهلية ، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام . فإن ( تجردت ) دعوى الدم عن لوث كان القول فيها قول المدعى عليه ، على ما سيأتي ، وإن اقترن بالدعوى لوث - واللوث : أن يقترن بالدعوى ما يدل على صدق المدعي ، على ما سنصفه - فيكون القول قول المدعي إذا كانت في نفس ، فيحلف خمسين يمينا ، ويحكم له بعد أيمانه بما ادعى من القتل ، فإن نكل المدعي ردت الأيمان على المدعى عليه ، فيحلف خمسين يمينا ويبرأ .

                                                                                                                                            وبه قال مالك وأحمد بن حنبل .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : لا اعتبار باللوث ، ولا يحكم بقول المدعي ، ويكون القول قول المدعى عليه . فإن كان واحدا حلف خمسين يمينا ، وإن كانوا أهل قرية أحلف من خيارها خمسون رجلا خمسين يمينا ، فإذا حلفوا وجبت الدية بعد أيمانهم . قال أبو حنيفة : فإن كان القتيل موجودا غرم الدية باني القرية في الموجود والمفقود ، وإن كان قتيلهم مفقودا يغرمها سكان القرية . وقال أبو يوسف : يغرمها سكان القرية في الموجود والمفقود ، وهكذا لو وجد القتيل في مسجد أو جامع حلف خمسون رجلا من خيار أهله ، ووجبت الدية بعد أيمانهم على باقي المسجد إن كان القتيل موجودا ، وعلى المصلين فيه إن كان مفقودا في قول أبي حنيفة . وعلى قول أبي يوسف تكون على أهل المسجد في الموجود والمفقود ، فإن نكلوا عن الأيمان حبسوا حتى يحلفوا . واستدلوا على إحلاف المدعى عليه دون المدعي برواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو أعطي الناس بدعاويهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر وهذا نص . وروى زياد بن أبي مريم أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي قتل بين قريتين . فقال : يحلف منهم خمسون رجلا . قال : ما لي من أخي غير هذا ؟ قال : بلى ، ولك مائة من الإبل . وهذا نص . وروى محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن عبد الله القرظي ، أن اليهود قتلوا عبد الله ، فأتت الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك . فكتب إلى اليهود أن احلفوا خمسين يمينا ، ثم اعقلوه ، فإنه وجد قتيلا بين أظهركم فألزمهم اليمين والدية معا .

                                                                                                                                            وروي أن رجلا وجد قتيلا بين حيين ، فاعتبره عمر بن الخطاب رضي الله عنه [ ص: 5 ] بأقرب الحيين وأحلفهم خمسين يمينا ، وقضى عليهم بالدية . فقالوا : ما وقت أموالنا أيماننا ولا أيماننا أموالنا . فقال عمر : حصنتم بأموالكم دماءكم . وهذه قضية منتشرة ، لم يظهر لعمر فيها مخالف فكانت إجماعا . ومن القياس أن يمين المدعي قوله ، فلم يوجب الحكم له كالدعوى ، ولأنها دعوى فلم يحكم فيها بيمين المدعي كسائر الدعاوى ، ولأن كل دعوى لم يحكم فيها بيمين المدعي عند عدم اللوث ، لم يحكم فيها بيمين المدعي مع وجوب اللوث كالأطراف .

                                                                                                                                            ودليلنا : الحديث الذي رواه الشافعي في صدر الباب ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار حين ادعوا قتل صاحبهم على اليهود : تحلفون وتستحقون دم صاحبكم . قالوا : لا . قال : فتبرئكم يهود بخمسين يمينا . قالوا : ليسوا بمسلمين . فوداه من عنده . وقد رواه عباد ، عن حجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : خرج حويصة ومحيصة ابنا مسعود ، وعبد الرحمن وعبد الله ابنا سهل إلى خيبر يمتارون ، فتفرقوا لحاجتهم ، فمروا بعبد الله بن سهل قتيلا ، فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه . فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : تحلفون خمسين يمينا قسامة تستحقون به قتيلكم . قالوا : نحلف على أمر غبنا عنه . قال : فيحلف اليهود خمسين يمينا فيبرؤون . فقالوا : نقبل أيمان قوم كفار . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من مال الصدقة فوداه من عنده . فكان في هذا الحديث دليل من وجهين : أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : تحلفون ، وتستحقون دم صاحبكم . فبدأ بهم ، وجعل الدم مستحقا بأيمانهم . وأبو حنيفة يبدأ بغيرهم ، ويجعل الدم مستحقا بأيمان غيرهم .

                                                                                                                                            الثاني : قوله : فتبرئكم يهود بخمسين يمينا . فنقل الأيمان عنهم إلى غيرهم ، وجعلها مبرئة لهم . وأبو حنيفة لا ينقل الأيمان ولا يبرئ بها من الدم . فاعترضوا على حديث سهل بن أبي حثمة من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدهما : أن سهل بن أبي حثمة كان طفلا لا يضبط ما يرويه . والجواب عنه : أنه قد كان ضابطا لحاله ، وقد روى أبو بكر النيسابوري في زياداته عن إبراهيم الحربي أنه كان لسهل حين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنين ، وقد عمل التابعون بما رواه .

                                                                                                                                            والاعتراض الثاني : أن سفيان بن عيينة روى عن سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ في القسامة بأيمان اليهود . والجواب عنه : أنها رواية تفرد بها سفيان وشك فيها ، هل بدأ بأيمان الأنصار أو اليهود ؟ وقد قال أبو داود : وهم سفيان في هذا الحديث .

                                                                                                                                            والاعتراض الثالث : أن بشير بن يسار روى عن سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار : أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟

                                                                                                                                            قال محمد بن الحسن : تلك لهم على وجه الإنكار عليهم ، كما قال تعالى : [ ص: 6 ] أفحكم الجاهلية يبغون [ المائدة : 50 ] ، والجواب عنه : أنه لو كان على وجه الإنكار لما قال : وتستحقون دم صاحبكم . فيصير بالاستحقاق ، وبما قال بعده : فتبرئكم يهود بخمسين يمينا ، خارجا عن الإنكار ، وإنما أدخل الألف ليخرج عن صيغة الأمر : لأن قوله : " تحلفون " شبيه بالأمر المحتوم ، فأدخل عليه الألف للاستفهام ليصير تفريقا للحكم ، واستخبارا عن الحال . ومن الدليل عليه ما رواه مسلم بن خالد ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : . . البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر ، إلا في القسامة . ورواه مسلم ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا نص : لأنه لما جعل اليمين على المنكر واستثنى منها القسامة ، دل على أنها على دون المنكر . فاعترضوا على هذا الاستدلال من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن قوله : " واليمين على من أنكر " يريد به اختصاصها بالمنكر دون غيره ، وقوله : " إلا في القسامة " يريد به وجوبها على المنكر وعلى غيره . والجواب عنه : أن هذا التأويل لا يصح : لأن الاستثناء من الإثبات نفي ، ومن النفي إثبات ، فلما كان قوله : واليمين على من أنكر إثباتا ليمينه ، وجب أن يكون قوله : إلا في القسامة نفيا ليمينه .

                                                                                                                                            والاعتراض الثاني : أن قوله : " واليمين على من أنكر " يريد به أنه يبرأ بيمينه " إلا في القسامة " أنه لا يبرأ بيمينه ، فيكون الاستثناء نفيا من الإثبات .

                                                                                                                                            والجواب عنه : أن هذا التأويل أبعد من الأول : لأن الاستثناء إلى ما تضمنه اللفظ من اليمين المذكورة ، دون البراءة التي لم تذكر ، فلم يجز أن يعدل به عن المذكور إلى غير مذكور .

                                                                                                                                            والدليل من القياس : أن أيمان المدعى عليهم لا يحكم لهم بموجبها : لأنهم لا يرمون عند المستحلف إذا حلفوا ، واليمين تستحق إما فيما يأخذ بها الحالف لنفسه ما ادعى ، وإما ليدفع بها عن نفسه ما أنكر . فنقول : كل يمين لا يحكم للحالف بموجبها ، لم يجز الاستحلاف بها قياسا على يمين المدعي في غير الدماء ، وعلى يمين المدعى عليه بعد اعترافه بالحق . فإن قيل : هذا منتقض بأيمان المتبايعين إذا تحالفا في الثمن يستحلفان بها ، وإن لم يحكم بموجبها ، قيل : قد يحكم بموجبها إذا حلف أحدهما ، ولا يحكم بموجبها إذا حلفا لتعارضهما ، كما يحكم بالبينة إذا انفردت ، ولا يحكم بها إذا تعارضت . فإن قيل : فأنتم لا تحكمون بموجب الأيمان في القسامة : لأن موجبها القود ، وأنتم لا توجبونه . قيل : موجبها ثبوت القتل ، وقد أثبتناه ، ولنا في القود قول نذكره . ومن الدليل أنها أيمان تكررت في الدعوى شرعا ، فوجب أن يبدأ فيها بالمدعي كاللعان . فإن أنكروا أن يكون اللعان يمينا ، دللنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : لولا الأيمان لكان لي ولها شأن . [ ص: 7 ] فأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : " واليمين على من أنكر " . من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : قوله : " إلا في القسامة " .

                                                                                                                                            والثاني : أن حديث القسامة أخص منه ، فوجب أن يقضى بالخاص على العام .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن حديث زياد بن أبي مريم ، فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه مجهول الإسناد ، ولا يعرفه أصحاب الحديث .

                                                                                                                                            والثاني : حمله على الدعوى إن لم تقترن بلوث .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن حديث القرظي ، فمن وجهين .

                                                                                                                                            أحدهما : ضعف إسناده وصحة إسنادنا ، وانفراده وكثرة رواتنا .

                                                                                                                                            والثاني : أن أخبارنا أزيد نقلا وأشرح حالا ، والزيادة أولى من النقصان ، والشرح أصح من الإجمال .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قضية عمر ، فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن عبد الله بن الزبير وقد خالفه فيها ، فقتل في القسامة ، ولم يقتل فيها عمر ، فتنافت قضاياهما ، فسقط الإجماع .

                                                                                                                                            والثاني : أنها قضية في عين ، يمكن حملها على أن المدعي ادعى قتل العمد ليستحق القود ، فاعترفوا له بقتل الخطأ ، فأحلفهم على العمد ، وأوجب عليهم دية الخطأ بالاعتراف .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على مجرد الدعوى : فهو أنه لا يجوز أن يعتبر يمين المدعي بدعواه ، كما لا يجوز أن يعتبر يمين المنكر بإنكاره ، للفرق فيما بين اليمين ومجرد القول . أما الجواب عن قياسهم على سائر الدعاوى : فهو إجماعنا على اختصاص القسامة بالدماء دون سائر الدعاوى .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الأطراف : فلأن القسامة عندهم لا تدخلها وإن دخلت في النفس ، وكذلك عندنا : لأن حرمة النفس أغلظ ؛ ولذلك تغلغلت بالنفس دون الأطراف . والله أعلم بالصواب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية