الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : [ شروط القطع في السرقة ] .

فإذا ثبت ما ذكرناه من قطع السارق فوجوبه معتبر بشرطين : الحرز ، والقدر . فأما الحرز فيأتي . وأما القدر : فقد اختلف في اعتباره ، فذهب داود وأهل الظاهر وأبو عبد الرحمن الشافعي والخوارج إلى أنه غير معتبر ، وأنه يقطع في القليل والكثير .

وبه قال من الصحابة عبد الله بن الزبير .

ومن التابعين سعيد بن المسيب والزهري : لعموم قول الله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة : 38 ] .

ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده ، ويسرق البيضة فتقطع يده .

وذهب جمهور الفقهاء إلى اعتبار القدر في وجوب القطع ، واختلفوا فيه على مذاهب شتى ، فذهب الشافعي إلى أنه مقدر بربع دينار فصاعدا يقطع فيه ، ولا يقطع فيما نقص منه . فإن كان المسروق دراهم أو متاعا قوم بالذهب . وقال عثمان البتي : يقطع في درهم واحد فصاعدا : لأنه أول معدود منها .

[ ص: 270 ] وقال زياد بن أبي زياد : يقطع في درهمين فصاعدا : لقول النبي صلى الله عليه وسلم : من استحل بدرهمين فقد استحل .

وقال مالك : يقطع في ثلاثة دراهم فصاعدا : لروايته عن نافع ، عن ابن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم .

وقال أبو هريرة وأبو سعيد الخدري : يقطع في أربعة دراهم فصاعدا . ولعلهما قوما المجن بأربعة دراهم . وروى عروة بن الزبير أن ثمن المجن أربعة دراهم .

وقال إبراهيم النخعي : يقطع في خمسة دراهم فصاعدا : لرواية قتادة ، عن أنس ، أن رجلا سرق مجنا على عهد أبي بكر رضي الله عنه فقوم خمسة دراهم فقطعه . ولرواية سعيد بن المسيب ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : " لا تقطع الخمس إلا في خمس " .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : تقطع في عشرة دراهم فصاعدا ، وإن سرق من غيرها قوم بها ، فصار مخالفا للشافعي من وجهين :

أحدهما : في القدر .

والثاني : في جنس ما يقع به التقويم ، استدلالا برواية زفر بن الهذيل ، عن الحجاج بن أرطأة ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا قطع إلا في عشرة دراهم . [ ص: 271 ] وروى مجاهد ، وعطاء ، عن أيمن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : أدنى ما يقطع فيه السارق ثمن مجن ، وكان يقوم دينارا . ومن القياس : أنه مال يستباح به عضو ، فوجب أن لا يتقدر بربع دينار كالمهر ، ولأنه حق يتعلق بمال فوجب أن لا يتعلق بربع دينار كالزكاة .

ودليلنا : عموم قول الله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة : 38 ] ، إلا ما خصه الدليل والإجماع .

وروى الشافعي ، عن سفيان ، عن الزهري ، عن عمرة ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : القطع في ربع دينار فصاعدا وهذا أوكد : لأنها إضافة إلى سماعها منه .

وروى الشعبي ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قطع في مجن قيمته خمسة دراهم .

وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع سارقا سرق من صفة النساء ترسا ، قيمته ثلاثة دراهم .

والترس : المجن .

ومن القياس : - وإن كان ضعيفا في المسألة - أن يدل على أن من سرق خمسة دراهم قيمتها ربع دينار قطع فيها ، فنقول : إنها فريضة تجب في نصاب الزكاة فجاز أن [ ص: 272 ] تقطع بسرقتها كالشاة والبعير .

فأما الجواب عن الخبر الأول : فراويه الحجاج بن أرطاة وهو مطعون عليه وفي حديثه ، قيل : إنه كان لا يحضر الجمعة . يقول : يزاحمني فيها الطوافون والنقالون . وكان يقول : لا ينسل الإنسان إلا بترك الجماعة . ومثل هذا لا يقبل حديثه .

وأما عمرو بن شعيب : فقد تكلم الناس فيه ، ولو صح كانت أخبارها أصح . ويمكن أن يتأول على عشرة دراهم قيمتها ربع دينار : لأن النقود كانت مختلفة وأوزانها مختلفة .

وأما حديث أيمن فهما اثنان : أحدهما : هو أيمن ابن أم أيمن صحابي قتل يوم حنين ولم يلقه مجاهد .

والثاني : هو أيمن الحبشي مولى لبني الزبير ، تابعي وليس له صحبة ، وقد لقيه مجاهد ، فكان الحديث في الحالين مرسلا . ولو صح ، لكان جوابه ما ذكرنا .

وأما الجواب عن قياسهم على المهر فمن ثلاثة أوجه :

أحدها : أن وصفه غير مسلم في الأصل والفرع : لأن العضو في السرقة يستباح بإخراج المال من الحرز ، وفي النكاح يستباح بالعقد .

والثاني : أن النكاح يستباح فيه منفعة الجسد كله ، ولا يختص بالبضع وحده ، والقطع في السرقة يستباح به نقص الأعضاء ، فافترقا في الحكم والمعنى .

والثالث : أن معنى المهر عوض في عقد ، فلم يتقدر إلا برضى المتعاقدين ، وخالف قطع السرقة لتقدر المسروق به شرعا ، وعلى أن أبا حنيفة لا يأخذ المقادير قياسا .

وأما الجواب عن قياسهم على الزكاة : فهو أن نقول : أن لا تتقدر بعشرة دراهم كالزكاة .

فأما استدلال داود : فمخصوص بما ذكرنا .

[ ص: 273 ] وأما قوله صلى الله عليه وسلم : يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده ، فعنه ثلاثة أجوبة :

أحدها : أنه على وجه المبالغة .

والثاني : أنه محمول على بيضة الحرب وحبل المتاع .

والثالث : أن يبقى من نصاب القطع ثمن البيضة والحبل فيقطع بسرقته ، وإن كان مذهبه مدفوعا برواية عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ما كانت اليد تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه .

التالي السابق


الخدمات العلمية