الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فأما الأنبذة المسكرة سوى الخمر ، فقد اختلف الفقهاء في إجراء تحريم الخمر عليها . فذهب الشافعي ومالك وفقهاء الحرمين : إلى أن ما أسكر كثيره من جميع الأنبذة قليله حرام . ويجري عليه حكم الخمر في التحريم والنجاسة والحد ، سواء كان نيئا أو مطبوخا ، وهو قول أكثر الصحابة . وذهب كثير من فقهاء العراق إلى إباحته ، فأباح بعضهم جميع الأنبذة من غير تفصيل . وقال أبو حنيفة : أما عصير العنب إذا لم يمسه طبخ فهو الخمر الذي يحرم قليله وكثيره ، ويحكم بنجاسته ووجوب الحد في شربه ، فإن طبخ فذهب ثلثاه حل ، ولا حد فيه حتى يسكر ، وإن ذهب أقل من ثلثه فهو حرام ، ولا حد فيه حتى يسكر . وما عمل من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير والذرة ، فجميعه حلال ، طبخ أو لم يطبخ ، أسكر أو لم يسكر ، ولا حد فيه حتى يسكر ، ويحرم منه القدح المسكر ، وجميع الأنبذة عنده طاهرة ، وإن حرمت سوى الخمر ، ولا ينطلق على شيء منها اسم الخمر ، ولا يعلل تحريم الخمر فصار الخلاف معه مشتملا على خمسة فصول : أحدها : هل ينطلق على الأنبذة المسكرة اسم الخمر ؟ عندنا ينطلق وعنده لا ينطلق . والثاني : هل يحرم قليلها وكثيرها ؟ عندنا يحرم ، وعنده لا يحرم . والثالث : هل تنجس كالخمر ؟ عندنا تنجس ، وعنده لا تنجس . والرابع : هل يتعلق وجوب الحد بالشرب أو بالسكر ؟ عندنا بالشرب ، وعنده بالسكر . والخامس : هل تحريم الخمر معلل أو غير معلل ؟ عندنا معلل وعنده غير معلل . واستدل أبو حنيفة على إباحة النبيذ في الجملة ، وإن كان مذهبه فيه على ما قدمناه من التفصيل : بقول الله تعالى : ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا [ النحل : 67 ] . والسكر : هو المسكر في قول ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة . فدلت الآية على إباحته . وبما روى أبو عون ، عن عبد الله بن شداد ، عن عبد الله بن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : حرمت الخمر بعينها والسكر من كل شراب فدل هذا الحديث على ثلاثة أحكام : [ ص: 388 ] إباحة النبيذ : لأنه حرم السكر دون المسكر ، ولأنه لا ينطلق عليه اسم الخمر وأن تحريم الخمر غير معلل : ولأنه حرمها بعينها لا لعلة ، واستدل برواية منصور ، عن مخلد ، عن سعد ، عن أبي مسعود البدري الأنصاري ، قال : عطش رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت فاستسقى ، فأوتي بنبيذ من السقاية ، فشمه وقطب وجهه ، ودعا بذنوب من ماء زمزم ، فصب عليه ، وشرب منه ، وقال : إذا غلت عليكم هذه الأشربة ، فاكسروها بالماء . وروى عبد الله بن عباس قال : كان ينبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم النبيذ فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة ، ثم يأمر به فيستقى الخدم ، أو يهراق . ولو كان حراما ما سقاه الخدم . وروى أبو الزبير ، عن جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له في سقاء ، فإن لم يكن فتور من حجارة . وروى أبو مسعود البدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النبيذ أحلال أم حرام ؟ فقال : حلال . وهذان الحديثان نص وفعل في إباحة النبيذ . واستدل بما روى عبد الله بن الديلمي ، عن أبيه ، قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : يا رسول الله : إن لنا أعنابا فما نصنع بها ؟ فقال : زببوها . فقلنا : ما نصنع بالزبيب ؟ قال : أنبذوه على عشائكم ، واشربوه على غدائكم ، وأنبذوه على غدائكم واشربوه على عشائكم ، وأنبذوه في الشنان يريد الجلد ولا تنبذوا في القلل ، فإنه إن تأخر عن عصره صار خلا . واستدل بما روي عن ابن بريدة ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : الظروف لا تحرم شيئا ، فاشربوا ولا تسكروا . [ ص: 389 ] وروى عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : انظروا هذه الأسقية إذا اغتلمت عليكم فاقطعوا متونها بالماء . واستدل بحديث أبي سعيد الخدري قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنشوان ، فقال له : أشربت خمرا ؟ فقال له : لا ، والله ما شربتها منذ حرمها الله ورسوله . قال : فماذا شربت ؟ قال : الخليطين . فدل على أنه لا ينطلق على النبيذ اسم الخمر ، ولا يحرم بخلاف الخمر . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لوفد عبد القيس : اشربوا ولا تسكروا ، فإن اشتد عليكم فاكسروه بالماء واستدل بما روى عبد الله بن مسعود أنه قال : " شهدت تحريم النبيذ كما شهدتم ، ثم شهدت تحليله ، فحفظت ونسيتم " . فمن ذلك ما روى قيس بن أبي حازم ، عن عتبة بن فرقد : أنه قدم على عمر بن الخطاب ، فدعا بعشر من نبيذ شديد ، فقال : اشرب فأخذته فشربت فما كدت أسبقه ، ثم أخذ فشرب ثم قال : يا عتبة ، إننا ننحر كل يوم جزورا ودكها وأطايبها ، فلمن حضر من آفاق المسلمين عنقها ، فلآل عمر نأكل هذا اللحم الغليظ ، ونشرب هذا النبيذ الشديد ، يقطعه في بطوننا أن يؤذينا . وهذا فعل منتشر لم ينكره عليه أحد فصار كالإجماع . وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي برجل سكران فجلده ، فقال : إنما شربت من إدواتك . فقال : إنما أضربك على السكر منها ، ولا أضربك على الشرب . فدل على تحريم السكر دون الشرب . وروي أن علي بن أبي طالب أضاف عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وسقاه نبيذا ، فلما دخل الليل وأراد أن ينصرف دفعه إلى خادمه قنبر ، ومعه مزهر ليهديه إلى بيته ، والمزهر : السراج ، وقال له : اهده . يعني إلى منزله لسكره . وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : ما من جماعة يجلسون على شراب إلا وينصرفون عنه وقد حرم عليهم . يعني أنهم لا يقتصرون على ما لا يسكر حتى يتجاوزوه إلى ما يسكر . [ ص: 390 ] وروي عن عبد الله بن عباس أنه قال : إن شرب أحدكم تسعة أقداح فلم يسكر فهو حلال ، وإن شرب العاشر فسكر فهو حرام . فهذا ما عاضد السنة من آثار الصحابة ، وإن كان عندهم كثيرا . فأما ما استدلوا به من المعاني فمن وجوه ، منها : أن اسم الخمر لا ينطلق على ما عداه من الأنبذة : لأمرين لغة وشرعا : أحدهما : اختصاص كل واحد باسم ينتفي عن الآخر ، فيقال لعصير العنب : خمر ، وليس بنبيذ . ويقال لغيره من الأشربة : نبيذ ، وليس بخمر . وقد قال أبو الأسود الدؤلي في شعره :

دع الخمر يشربها الغواة فإنني رأيت أخاها مجزيا لمكانها     فإن لم يكنها أو تكنه فإنه
أخوها غذته أمه بلبانها

فأخبر أن النبيذ غير الخمر ، وهو من فصحاء العرب المحتج بقوله في اللغة . والثاني : أنه لما انتفى حكم الخمر في النبيذ من تكفير مستحله وتفسيق شاربه ، انتفى عنه اسم الخمر : لأن ما علق بالاسم من حكم لم يزل مع موجود الاسم ، كما أن الحكم إذا علق بعلة لم يزل مع وجود العلة . ومنها : أن تحريم الأنبذة ما يعم به البلوى ، وما عم به البلوى وجب أن يكون ثباته عاما ، وما لم يكن ثباته كان نقله متواترا ، وليس فيه تواتر ، فلم يثبت به التحريم . ومنها : أن جميع الأشربة قد كانت حلالا ، وتحريمها نسخ ، والنسخ لا يثبت إلا بالنص ، والنص مختص بالخمر دون النبيذ ، فدل على تحريم الخمر وإباحة النبيذ . ومنها : أن النبيذ بالمدينة عام والخمر فيها نادر : لأن النبيذ يعمل من ثمارها ، والخمر يجلب إليها من الشام والطائف ، وقد روي عن ابن عمر أنه قال : حرمت الخمر وليس بالمدينة منها شيء . فلو استويا في التحريم ، لكان أهل المدينة إلى بيان تحريم النبيذ نصا أحوج منهم إلى بيان تحريم الخمر ، فلما عدل بالنص عن النبيذ إلى الخمر دل على اختصاصها بالتحريم دون النبيذ . ومنها أن الله تعالى : ما حرم شيئا إلا وأغنى عنه بمباح من جنسه ، فإنه حرم الزنا وأباح النكاح ، وحرم لحم الخنزير وأباح لحم الجمل ، وحرم الحرير وأباح القطن والكتان ، وحرم الغارة وأباح الغنيمة ، وحرم التعدي والغلبة وأباح الجهاد ، وقد حرم [ ص: 391 ] الله الخمر فوجب أن يغني عنها بمباح من جنسها . وليس من جنسها ما يغني عنها سوى النبيذ ، فوجب أن يكون مباحا اعتبارا بسائر المحرمات . ومنها أن الله تعالى : قد وعدنا بالخمر في الجنة ورغب فيها أهل الطاعة ، وما لا تعرف لذته لا يتوجه إليه الترغيب فيه ، فاقتضى أن يستبيحوا ما تستدل به على لذتها ، وليس ذلك في غير النبيذ ، فاقتضى أن يحل له النبيذ اعتبارا بسائر الترغيبات ، فهذه دلائل من أباح النبيذ من نصوص ومعان .

التالي السابق


الخدمات العلمية