فصل : فأما
nindex.php?page=treesubj&link=17240الأنبذة المسكرة سوى الخمر ، فقد اختلف الفقهاء في إجراء تحريم الخمر عليها . فذهب
الشافعي ومالك وفقهاء الحرمين : إلى أن ما أسكر كثيره من جميع الأنبذة قليله حرام . ويجري عليه حكم الخمر في التحريم والنجاسة والحد ، سواء كان نيئا أو مطبوخا ، وهو قول أكثر الصحابة . وذهب كثير من فقهاء
العراق إلى إباحته ، فأباح بعضهم جميع الأنبذة من غير تفصيل . وقال
أبو حنيفة : أما
nindex.php?page=treesubj&link=17232عصير العنب إذا لم يمسه طبخ فهو الخمر الذي يحرم قليله وكثيره ، ويحكم بنجاسته ووجوب الحد في شربه ، فإن طبخ فذهب ثلثاه حل ، ولا حد فيه حتى يسكر ، وإن ذهب أقل من ثلثه فهو حرام ، ولا حد فيه حتى يسكر .
nindex.php?page=treesubj&link=17238وما عمل من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير والذرة ، فجميعه حلال ، طبخ أو لم يطبخ ، أسكر أو لم يسكر ، ولا حد فيه حتى يسكر ، ويحرم منه القدح المسكر ، وجميع الأنبذة عنده طاهرة ، وإن حرمت سوى الخمر ، ولا ينطلق على شيء منها اسم الخمر ، ولا يعلل تحريم الخمر فصار الخلاف معه مشتملا على خمسة فصول : أحدها :
nindex.php?page=treesubj&link=33189_17240هل ينطلق على الأنبذة المسكرة اسم الخمر ؟ عندنا ينطلق وعنده لا ينطلق . والثاني : هل يحرم قليلها وكثيرها ؟ عندنا يحرم ، وعنده لا يحرم . والثالث : هل تنجس كالخمر ؟ عندنا تنجس ، وعنده لا تنجس . والرابع :
nindex.php?page=treesubj&link=10061هل يتعلق وجوب الحد بالشرب أو بالسكر ؟ عندنا بالشرب ، وعنده بالسكر . والخامس :
nindex.php?page=treesubj&link=17195هل تحريم الخمر معلل أو غير معلل ؟ عندنا معلل وعنده غير معلل . واستدل
أبو حنيفة على إباحة النبيذ في الجملة ، وإن كان مذهبه فيه على ما قدمناه من التفصيل : بقول الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=67ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا [ النحل : 67 ] . والسكر : هو المسكر في قول
ابن عباس ،
ومجاهد ،
وسعيد بن جبير ،
وقتادة . فدلت الآية على إباحته . وبما روى
أبو عون ، عن
عبد الله بن شداد ، عن
عبد الله بن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924743حرمت الخمر بعينها والسكر من كل شراب فدل هذا الحديث على ثلاثة أحكام :
[ ص: 388 ] nindex.php?page=treesubj&link=33190إباحة النبيذ : لأنه حرم السكر دون المسكر ، ولأنه لا ينطلق عليه اسم الخمر وأن تحريم الخمر غير معلل : ولأنه حرمها بعينها لا لعلة ، واستدل برواية
منصور ، عن
مخلد ، عن
سعد ، عن
أبي مسعود البدري الأنصاري ، قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924748عطش رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت فاستسقى ، فأوتي بنبيذ من السقاية ، فشمه وقطب وجهه ، ودعا بذنوب من ماء زمزم ، فصب عليه ، وشرب منه ، وقال : إذا غلت عليكم هذه الأشربة ، فاكسروها بالماء . وروى
عبد الله بن عباس قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924749كان ينبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم النبيذ فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة ، ثم يأمر به فيستقى الخدم ، أو يهراق . ولو كان حراما ما سقاه الخدم . وروى
أبو الزبير ، عن
جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=924750كان ينبذ له في سقاء ، فإن لم يكن فتور من حجارة . وروى
أبو مسعود البدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النبيذ أحلال أم حرام ؟ فقال : حلال . وهذان الحديثان نص وفعل في إباحة النبيذ . واستدل بما روى
عبد الله بن الديلمي ، عن أبيه ، قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924752يا رسول الله : إن لنا أعنابا فما نصنع بها ؟ فقال : زببوها . فقلنا : ما نصنع بالزبيب ؟ قال : أنبذوه على عشائكم ، واشربوه على غدائكم ، وأنبذوه على غدائكم واشربوه على عشائكم ، وأنبذوه في الشنان يريد الجلد ولا تنبذوا في القلل ، فإنه إن تأخر عن عصره صار خلا . واستدل بما روي عن
ابن بريدة ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924753الظروف لا تحرم شيئا ، فاشربوا ولا تسكروا .
[ ص: 389 ] وروى
عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924754انظروا هذه الأسقية إذا اغتلمت عليكم فاقطعوا متونها بالماء . واستدل بحديث
أبي سعيد الخدري قال :
أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنشوان ، فقال له : أشربت خمرا ؟ فقال له : لا ، والله ما شربتها منذ حرمها الله ورسوله . قال : فماذا شربت ؟ قال : الخليطين . فدل على أنه لا ينطلق على النبيذ اسم الخمر ، ولا يحرم بخلاف الخمر . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لوفد
عبد القيس : اشربوا ولا تسكروا ، فإن اشتد عليكم فاكسروه بالماء واستدل بما روى
عبد الله بن مسعود أنه قال : " شهدت تحريم النبيذ كما شهدتم ، ثم شهدت تحليله ، فحفظت ونسيتم " . فمن ذلك ما روى
قيس بن أبي حازم ، عن
عتبة بن فرقد : أنه قدم على
عمر بن الخطاب ، فدعا بعشر من نبيذ شديد ، فقال : اشرب فأخذته فشربت فما كدت أسبقه ، ثم أخذ فشرب ثم قال : يا
عتبة ، إننا ننحر كل يوم جزورا ودكها وأطايبها ، فلمن حضر من آفاق المسلمين عنقها ، فلآل
عمر نأكل هذا اللحم الغليظ ، ونشرب هذا النبيذ الشديد ، يقطعه في بطوننا أن يؤذينا . وهذا فعل منتشر لم ينكره عليه أحد فصار كالإجماع . وروي أن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي برجل سكران فجلده ، فقال : إنما شربت من إدواتك . فقال : إنما أضربك على السكر منها ، ولا أضربك على الشرب . فدل على تحريم السكر دون الشرب . وروي أن
علي بن أبي طالب أضاف
عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وسقاه نبيذا ، فلما دخل الليل وأراد أن ينصرف دفعه إلى خادمه
قنبر ، ومعه مزهر ليهديه إلى بيته ، والمزهر : السراج ، وقال له : اهده . يعني إلى منزله لسكره . وروي عن
عبد الله بن مسعود أنه قال : ما من جماعة يجلسون على شراب إلا وينصرفون عنه وقد حرم عليهم . يعني أنهم لا يقتصرون على ما لا يسكر حتى يتجاوزوه إلى ما يسكر .
[ ص: 390 ] وروي عن
عبد الله بن عباس أنه قال : إن شرب أحدكم تسعة أقداح فلم يسكر فهو حلال ، وإن شرب العاشر فسكر فهو حرام . فهذا ما عاضد السنة من آثار
الصحابة ، وإن كان عندهم كثيرا . فأما ما استدلوا به من المعاني فمن وجوه ، منها : أن اسم الخمر لا ينطلق على ما عداه من الأنبذة : لأمرين لغة وشرعا : أحدهما : اختصاص كل واحد باسم ينتفي عن الآخر ، فيقال لعصير العنب : خمر ، وليس بنبيذ . ويقال لغيره من الأشربة : نبيذ ، وليس بخمر . وقد قال
أبو الأسود الدؤلي في شعره :
دع الخمر يشربها الغواة فإنني رأيت أخاها مجزيا لمكانها فإن لم يكنها أو تكنه فإنه
أخوها غذته أمه بلبانها
فأخبر أن النبيذ غير الخمر ، وهو من فصحاء العرب المحتج بقوله في اللغة . والثاني : أنه لما انتفى حكم الخمر في النبيذ من تكفير مستحله وتفسيق شاربه ، انتفى عنه اسم الخمر : لأن ما علق بالاسم من حكم لم يزل مع موجود الاسم ، كما أن الحكم إذا علق بعلة لم يزل مع وجود العلة . ومنها : أن تحريم الأنبذة ما يعم به البلوى ، وما عم به البلوى وجب أن يكون ثباته عاما ، وما لم يكن ثباته كان نقله متواترا ، وليس فيه تواتر ، فلم يثبت به التحريم . ومنها : أن جميع الأشربة قد كانت حلالا ، وتحريمها نسخ ، والنسخ لا يثبت إلا بالنص ، والنص مختص بالخمر دون النبيذ ، فدل على تحريم الخمر وإباحة النبيذ . ومنها : أن النبيذ
بالمدينة عام والخمر فيها نادر : لأن النبيذ يعمل من ثمارها ، والخمر يجلب إليها من
الشام والطائف ، وقد روي عن
ابن عمر أنه قال : حرمت الخمر وليس
بالمدينة منها شيء . فلو استويا في التحريم ، لكان أهل
المدينة إلى بيان تحريم النبيذ نصا أحوج منهم إلى بيان تحريم الخمر ، فلما عدل بالنص عن النبيذ إلى الخمر دل على اختصاصها بالتحريم دون النبيذ . ومنها أن الله تعالى : ما حرم شيئا إلا وأغنى عنه بمباح من جنسه ، فإنه حرم الزنا وأباح النكاح ، وحرم لحم الخنزير وأباح لحم الجمل ، وحرم الحرير وأباح القطن والكتان ، وحرم الغارة وأباح الغنيمة ، وحرم التعدي والغلبة وأباح الجهاد ، وقد حرم
[ ص: 391 ] الله الخمر فوجب أن يغني عنها بمباح من جنسها . وليس من جنسها ما يغني عنها سوى النبيذ ، فوجب أن يكون مباحا اعتبارا بسائر المحرمات . ومنها أن الله تعالى : قد وعدنا بالخمر في الجنة ورغب فيها أهل الطاعة ، وما لا تعرف لذته لا يتوجه إليه الترغيب فيه ، فاقتضى أن يستبيحوا ما تستدل به على لذتها ، وليس ذلك في غير النبيذ ، فاقتضى أن يحل له النبيذ اعتبارا بسائر الترغيبات ، فهذه دلائل من أباح النبيذ من نصوص ومعان .
فَصْلٌ : فَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=17240الْأَنْبِذَةُ الْمُسْكِرَةُ سِوَى الْخَمْرِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجْرَاءِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَلَيْهَا . فَذَهَبَ
الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَفُقَهَاءُ الْحَرَمَيْنِ : إِلَى أَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِذَةِ قَلِيلُهُ حَرَامٌ . وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْخَمْرِ فِي التَّحْرِيمِ وَالنَّجَاسَةِ وَالْحَدِّ ، سَوَاءٌ كَانَ نَيِّئًا أَوْ مَطْبُوخًا ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ . وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ
الْعِرَاقِ إِلَى إِبَاحَتِهِ ، فَأَبَاحَ بَعْضُهُمْ جَمِيعَ الْأَنْبِذَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ . وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ : أَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=17232عَصِيرُ الْعِنَبِ إِذَا لَمْ يَمَسَّهُ طَبْخٌ فَهُوَ الْخَمْرُ الَّذِي يَحْرُمُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ ، وَيُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ وَوُجُوبِ الْحَدِّ فِي شُرْبِهِ ، فَإِنْ طُبِخَ فَذَهَبَ ثُلُثَاهُ حَلَّ ، وَلَا حَدَّ فِيهِ حَتَّى يُسْكِرَ ، وَإِنْ ذَهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثِهِ فَهُوَ حَرَامٌ ، وَلَا حَدَّ فِيهِ حَتَّى يُسْكِرَ .
nindex.php?page=treesubj&link=17238وَمَا عُمِلَ مِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ ، فَجَمِيعُهُ حَلَالٌ ، طُبِخَ أَوْ لَمْ يُطْبَخْ ، أَسْكَرَ أَوْ لَمْ يُسْكِرْ ، وَلَا حَدَّ فِيهِ حَتَّى يُسْكِرَ ، وَيَحْرُمُ مِنْهُ الْقَدَحُ الْمُسْكِرُ ، وَجَمِيعُ الْأَنْبِذَةِ عِنْدَهُ طَاهِرَةٌ ، وَإِنْ حَرُمَتْ سِوَى الْخَمْرِ ، وَلَا يَنْطَلِقُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا اسْمُ الْخَمْرِ ، وَلَا يُعَلَّلُ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فَصَارَ الْخِلَافُ مَعَهُ مُشْتَمِلًا عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا :
nindex.php?page=treesubj&link=33189_17240هَلْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ اسْمُ الْخَمْرِ ؟ عِنْدَنَا يَنْطَلِقُ وَعِنْدَهُ لَا يَنْطَلِقُ . وَالثَّانِي : هَلْ يَحْرُمُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا ؟ عِنْدَنَا يَحْرُمُ ، وَعِنْدَهُ لَا يَحْرُمُ . وَالثَّالِثُ : هَلْ تَنْجَسُ كَالْخَمْرِ ؟ عِنْدَنَا تَنْجَسُ ، وَعِنْدَهُ لَا تَنْجَسُ . وَالرَّابِعُ :
nindex.php?page=treesubj&link=10061هَلْ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الْحَدِّ بِالشُّرْبِ أَوْ بِالسُّكْرِ ؟ عِنْدَنَا بالشُّرْبِ ، وَعِنْدَهُ بِالسُّكْرِ . وَالْخَامِسُ :
nindex.php?page=treesubj&link=17195هَلْ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ مُعَلَّلٌ أَوْ غَيْرُ مُعَلَّلٍ ؟ عِنْدَنَا مُعَلَّلٌ وَعِنْدَهُ غَيْرُ مُعَلَّلٍ . وَاسْتَدَلَّ
أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى إِبَاحَةِ النَّبِيذِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ فِيهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّفْصِيلِ : بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=67وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [ النَّحْلِ : 67 ] . والسَّكَرُ : هُوَ الْمُسْكِرُ فِي قَوْلِ
ابْنِ عَبَّاسٍ ،
وَمُجَاهِدٍ ،
وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ،
وَقَتَادَةَ . فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى إِبَاحَتِهِ . وَبِمَا رَوَى
أَبُو عَوْنٍ ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924743حُرِّمَتِ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ :
[ ص: 388 ] nindex.php?page=treesubj&link=33190إِبَاحَةُ النَّبِيذِ : لِأَنَّهُ حَرَّمَ السُّكْرَ دُونَ الْمُسْكِرِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْخَمْرِ وَأَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ غَيْرُ مُعَلَّلٍ : وَلِأَنَّهُ حَرَّمَهَا بِعَيْنِهَا لَا لِعِلَّةٍ ، وَاسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ
مَنْصُورٍ ، عَنْ
مَخْلَدٍ ، عَنْ
سَعْدٍ ، عَنْ
أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ الْأَنْصَارِيِّ ، قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924748عَطِشَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَاسْتَسْقَى ، فَأُوتِيَ بِنَبِيذٍ مِنَ السِّقَايَةِ ، فَشَمَّهُ وَقَطَّبَ وَجْهَهُ ، وَدَعَا بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ ، فَصَبَّ عَلَيْهِ ، وَشَرِبَ مِنْهُ ، وَقَالَ : إِذَا غَلَتْ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةُ ، فَاكْسِرُوهَا بِالْمَاءِ . وَرَوَى
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924749كَانَ يُنْبَذُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِيذُ فَيَشْرَبُهُ الْيَوْمَ وَالْغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ إِلَى مَسَاءِ الثَّالِثَةِ ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِهِ فَيُسْتَقَى الْخَدَمُ ، أَوْ يُهْرَاقَ . وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا سَقَاهُ الْخَدَمَ . وَرَوَى
أَبُو الزُّبَيْرِ ، عَنْ
جَابِرٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=924750كَانَ يُنْبَذُ لَهُ فِي سِقَاءٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَتَوْرٌ مِنْ حِجَارَةٍ . وَرَوَى
أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ النَّبِيذِ أَحَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ ؟ فَقَالَ : حَلَالٌ . وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ نَصٌ وَفِعْلٌ فِي إِبَاحَةِ النَّبِيذِ . وَاسْتَدَلَّ بِمَا رَوَى
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الدَّيْلَمِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924752يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنَّ لَنَا أَعْنَابًا فَمَا نَصْنَعُ بِهَا ؟ فَقَالَ : زَبِّبُوهَا . فَقُلْنَا : مَا نَصْنَعُ بِالزَّبِيبِ ؟ قَالَ : أَنْبِذُوهُ عَلَى عَشَائِكُمْ ، وَاشْرَبُوهُ عَلَى غَدَائِكُمْ ، وَأَنْبِذُوهُ عَلَى غَدَائِكُمْ وَاشْرَبُوهُ عَلَى عَشَائِكُمْ ، وَأَنْبِذُوهُ فِي الشِّنَانِ يُرِيدُ الْجِلْدَ وَلَا تَنْبِذُوا فِي الْقُلَلِ ، فَإِنَّهُ إِنْ تَأَخَّرَ عَنْ عَصْرِهِ صَارَ خَلًّا . وَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ
ابْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924753الظُّرُوفُ لَا تُحَرِّمُ شَيْئًا ، فَاشْرَبُوا وَلَا تَسْكَرُوا .
[ ص: 389 ] وَرَوَى
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924754انْظُرُوا هَذِهِ الْأَسْقِيَةَ إِذَا اغْتَلَمَتْ عَلَيْكُمْ فَاقْطَعُوا مُتُونَهَا بِالْمَاءِ . وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ :
أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَشْوَانَ ، فَقَالَ لَهُ : أَشَرِبْتَ خَمْرًا ؟ فَقَالَ لَهُ : لَا ، وَاللَّهِ مَا شَرِبْتُهَا مُنْذُ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ . قَالَ : فَمَاذَا شَرِبْتَ ؟ قَالَ : الْخَلِيطَيْنِ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى النَّبِيذِ اسْمُ الْخَمْرِ ، وَلَا يَحْرُمُ بِخِلَافِ الْخَمْرِ . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِوَفْدِ
عَبْدِ الْقَيْسِ : اشْرَبُوا وَلَا تَسْكَرُوا ، فَإِنِ اشْتَدَّ عَلَيْكُمْ فَاكْسِرُوهُ بِالْمَاءِ وَاسْتَدَلَّ بِمَا رَوَى
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : " شَهِدْتُ تَحْرِيمَ النَّبِيذِ كَمَا شَهِدْتُمْ ، ثُمَّ شَهِدْتُ تَحْلِيلَهُ ، فَحَفِظْتُ وَنَسِيتُمْ " . فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى
قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ
عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ : أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَدَعَا بِعُشَرٍ مِنْ نَبِيذٍ شَدِيدٍ ، فَقَالَ : اشْرَبْ فَأَخَذْتُهُ فَشَرِبْتُ فَمَا كِدْتُ أَسْبِقُهُ ، ثُمَّ أَخَذَ فَشَرِبَ ثُمَّ قَالَ : يَا
عُتْبَةُ ، إِنَّنَا نَنْحَرُ كُلَّ يَوْمٍ جَزُورًا وَدَكَهَا وَأَطَايِبَهَا ، فَلِمَنْ حَضَرَ مِنْ آفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عُنُقُهَا ، فَلِآلِ
عُمَرَ نَأْكُلُ هَذَا اللَّحْمَ الْغَلِيظَ ، وَنَشْرَبُ هَذَا النَّبِيذَ الشَّدِيدَ ، يَقْطَعُهُ فِي بُطُونِنَا أَنْ يُؤْذِيَنَا . وَهَذَا فِعْلٌ مُنْتَشِرٌ لَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ . وَرُوِيَ أَنَّ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ سَكْرَانَ فَجَلَدَهُ ، فَقَالَ : إِنَّمَا شَرِبْتُ مِنْ إِدَوَاتِكَ . فَقَالَ : إِنَّمَا أَضْرِبُكَ عَلَى السُّكْرِ مِنْهَا ، وَلَا أَضْرِبُكَ عَلَى الشُّرْبِ . فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ السُّكْرِ دُونَ الشُّرْبِ . وَرُوِيَ أَنَّ
عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَضَافَ
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى ، وَسَقَاهُ نَبِيذًا ، فَلَمَّا دَخَلَ اللَّيْلُ وَأَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ دَفَعَهُ إِلَى خَادِمِهِ
قَنْبَرٍ ، وَمَعَهُ مِزْهَرٌ لِيَهْدِيَهُ إِلَى بَيْتِهِ ، وَالْمِزْهَرُ : السِّرَاجُ ، وَقَالَ لَهُ : اهْدِهِ . يَعْنِي إِلَى مَنْزِلِهِ لِسُكْرِهِ . وَرُوِيَ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : مَا مِنْ جَمَاعَةٍ يَجْلِسُونَ عَلَى شَرَابٍ إِلَّا وَيَنْصَرِفُونَ عَنْهُ وَقَدْ حَرُمَ عَلَيْهِمْ . يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى مَا لَا يُسْكِرُ حَتَّى يَتَجَاوَزُوهُ إِلَى مَا يُسْكِرُ .
[ ص: 390 ] وَرُوِيَ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : إِنْ شَرِبَ أَحَدُكُمْ تِسْعَةَ أَقْدَاحٍ فَلَمْ يَسْكَرْ فَهُوَ حَلَالٌ ، وَإِنْ شَرِبَ الْعَاشِرَ فَسَكِرَ فَهُوَ حَرَامٌ . فَهَذَا مَا عَاضَدَ السُّنَّةَ مِنْ آثَارِ
الصَّحَابَةِ ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ كَثِيرًا . فَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْمَعَانِي فَمِنْ وُجُوهٍ ، مِنْهَا : أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَنْبِذَةِ : لِأَمْرَيْنِ لُغَةً وَشَرْعًا : أَحَدُهُمَا : اخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ بِاسْمٍ يَنْتَفِي عَنِ الْآخَرِ ، فَيُقَالُ لِعَصِيرِ الْعِنَبِ : خَمْرٌ ، وَلَيْسَ بِنَبِيذٍ . وَيُقَالُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ : نَبِيذٌ ، وَلَيْسَ بِخَمْرٍ . وَقَدْ قَالَ
أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ فِي شِعْرِهِ :
دَعِ الْخَمْرَ يَشْرَبْهَا الْغُوَاةُ فَإِنَّنِي رَأَيْتُ أَخَاهَا مُجْزِيًا لِمَكَانِهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإِنَّهُ
أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا
فَأَخْبَرَ أَنَّ النَّبِيذَ غَيْرُ الْخَمْرِ ، وَهُوَ مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ الْمُحْتَجِّ بِقَوْلِهِ فِي اللُّغَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى حُكْمُ الْخَمْرِ فِي النَّبِيذِ مِنْ تَكْفِيرِ مُسْتَحِلِّهِ وَتَفْسِيقِ شَارِبِهِ ، انْتَفَى عَنْهُ اسْمُ الْخَمْرِ : لِأَنَّ مَا عَلِقَ بِالِاسْمِ مِنْ حُكْمٍ لَمْ يَزَلْ مَعَ مَوْجُودِ الِاسْمِ ، كَمَا أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا عَلِقَ بِعِلَّةٍ لَمْ يَزَلْ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ . وَمِنْهَا : أَنَّ تَحْرِيمَ الْأَنْبِذَةِ مَا يَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى ، وَمَا عَمَّ بِهِ الْبَلْوَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثَبَاتُهُ عَامًّا ، وَمَا لَمْ يَكُنْ ثَبَاتُهُ كَانَ نَقْلُهُ مُتَوَاتِرًا ، وَلَيْسَ فِيهِ تَوَاتُرٌ ، فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ التَّحْرِيمُ . وَمِنْهَا : أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْرِبَةِ قَدْ كَانَتْ حَلَالًا ، وَتَحْرِيمُهَا نُسِخَ ، وَالنَّسْخُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالنَّصِّ ، والنَّصُّ مُخْتَصٌّ بِالْخَمْرِ دُونَ النَّبِيذِ ، فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَإِبَاحَةِ النَّبِيذِ . وَمِنْهَا : أَنَّ النَّبِيذَ
بِالْمَدِينَةِ عَامٌّ وَالْخَمْرُ فِيهَا نَادِرٌ : لِأَنَّ النَّبِيذَ يُعْمَلُ مِنْ ثِمَارِهَا ، وَالْخَمْرُ يُجْلَبُ إِلَيْهَا مِنَ
الشَّامِ وَالطَّائِفِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَلَيْسَ
بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ . فَلَوِ اسْتَوَيَا فِي التَّحْرِيمِ ، لَكَانَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ إِلَى بَيَانِ تَحْرِيمِ النَّبِيذِ نَصًّا أَحْوَجَ مِنْهُمْ إِلَى بَيَانِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ ، فَلَمَّا عَدَلَ بِالنَّصِّ عَنِ النَّبِيذِ إِلَى الْخَمْرِ دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِالتَّحْرِيمِ دُونَ النَّبِيذِ . وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى : مَا حَرَّمَ شَيْئًا إِلَّا وَأَغْنَى عَنْهُ بِمُبَاحٍ مِنْ جِنْسِهِ ، فَإِنَّهُ حَرَّمَ الزِّنَا وَأَبَاحَ النِّكَاحَ ، وَحَرَّمَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَأَبَاحَ لَحْمَ الْجَمَلِ ، وَحَرَّمَ الْحَرِيرَ وَأَبَاحَ الْقُطْنَ وَالْكِتَّانَ ، وَحَرَّمَ الْغَارَةَ وَأَبَاحَ الْغَنِيمَةَ ، وَحَرَّمَ التَّعَدِّيَ وَالْغَلَبَةَ وَأَبَاحَ الْجِهَادَ ، وَقَدْ حَرَّمَ
[ ص: 391 ] اللَّهُ الْخَمْرَ فَوَجَبَ أَنْ يُغْنِيَ عَنْهَا بِمُبَاحٍ مِنْ جِنْسِهَا . وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا مَا يُغْنِي عَنْهَا سِوَى النَّبِيذِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ . وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى : قَدْ وَعَدَنَا بِالْخَمْرِ فِي الْجَنَّةِ وَرَغَّبَ فِيهَا أَهْلَ الطَّاعَةِ ، وَمَا لَا تُعْرَفُ لَذَّتُهُ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ التَّرْغِيبُ فِيهِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَبِيحُوا مَا تَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى لَذَّتِهَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ النَّبِيذِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَحِلَّ لَهُ النَّبِيذُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ التَّرْغِيبَاتِ ، فَهَذِهِ دَلَائِلُ مَنْ أَبَاحَ النَّبِيذَ مِنْ نُصُوصٍ وَمَعَانٍ .