الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : ولما عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بيعة الأنصار في العقبة إلى مكة ، وذلك في ذي الحجة عادت الفتنة أشد مما كانت في فتنة الهجرة إلى الحبشة ، واشتد الأذى بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : إن الله تعالى قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها فخرجوا أرسالا ، وكان أول من هاجر إليها بعد بيعة العقبة أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، وبعده عامر بن ربيعة ، ثم عبد الله بن جحش ، ثم تتابع الناس أرسالا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقيم بمكة ينتظر إذن ربه ، واستأذنه أبو بكر في الهجرة فاستوقفه .

وأسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس بين بيعتي الأنصار في العقبة .

قال الزهري : قبل هجرته بسنة ، فأصبح وقص ذلك على قريش ، وذكر لهم حديث المعراج ، فازداد المشركون تكذيبا ، وأسرعوا إلى أبي بكر ، وقالوا له : إن صاحبك يزعم أنه قد ذهب إلى بيت المقدس ، وعاد من ليلته ، فقال : إن قال ذلك فهو صادق : فلذلك سمي الصديق ، ووصف لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رأى في طريقه ، فكان على ما وصفه . واختلف في إسرائه هل كان بجسمه ، أو بروحه ؟ فقال ابن عباس : أسرى بجسمه .

وقالت عائشة : أسري بروحه وما زال جسمه عندي ، ولما صارت المدينة دار هجرة وصار من بها من الأوس والخزرج أنصارا امتنعت قريش أن ينصروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم : فاجتمعوا في دار الندوة ليتشاروا في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمي ذلك اليوم لكثرة زحامهم فيه يوم " الزحمة " فقال قائل منهم : احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ، وتربصوا به .

وقال آخر : أخرجوه من بين أظهركم ، ولا عليكم ما أصابه بعدكم .

وقال أبو جهل : لست أرى ما ذكرتم رأي كريم ، ولكن أرى أن تأخذوا من كل قبيلة فتى شابا نسيبا ، ويجتمعون عليه بأسيافهم ، فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه ، ويتفرق دمه في قبائلهم ، فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب جميعهم ، ويرضوا بالعقل فنعقله لهم ، فأجمعوا على هذا الرأي ، وتفرقوا عنه ليثبتوه من ليلته ، وتفرقوا ليجتمعوا على قتله ، فنزل قول الله تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين [ الأنفال : 130 ] . فعلم رسول [ ص: 22 ] الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، فأعلم أبا بكر بالهجرة ، وقد كان أعد للهجرة راحلتين ، واستخلف عليا في منامه ، وأن يتشح ببرده الحضرمي الأخضر : لأن قريشا ترى منامه فيه ، وأمر عليا أن يرد ودائع الناس عليهم ، وخرج في الظلام مع أبي بكر إلى غار ثور ، وخرج معهما عامر بن فهيرة لخدمتهما ، وليروح عليهما بغنم يرعاها لأبي بكر ، وكان عبد الله بن أبي بكر يأتي كل يوم بما يتجدد من أخبار قريش بمكة ، وتأتي أسماء بنت أبي بكر بطعام ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعامر بن فهيرة : ارتد لنا دليلا من الأزد : فإنهم أوفى بالعهد : فاستأجر عبد الله بن أريقط الليثي ، وكان مشركا ، وأقاما في الغار ثلاثة أيام ، وكان خروجهما في يوم الاثنين في صفر ، وخرجت قريش في طلبه ، وجعلوا لمن جاءهم به مائة ناقة حمراء ففاتهم .

وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج من مكة بكى وقال : اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إلي : فأسكني أحب البلاد إليك وقدموا المدينة في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول ، فروي عن ابن عباس أنه قال : " ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين ، وبعث نبيا يوم الاثنين ، وهاجر من مكة يوم الاثنين ، ومات يوم الاثنين " وكان قدومه قبل قيام الظهيرة ، فنزل بقباء على بني عمرو بن عوف في دار كلثوم بن الهدم ، وقيل في دار سعد بن خيثمة ، فأقام بقية يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ، ويوم الأربعاء ، ويوم الخميس ، وبنى مسجد قباء ، وخرج يوم الجمعة متوجها إلى المدينة ، فأدركته الصلاة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم ، فصلى بهم الجمعة ، وهي أول جمعة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما دخل المدينة ، أرخى زمام ناقته ، فجعل لا يمر بدار إلا سأله أهلها النزول عليهم ، وهو يقول : خلوا زمامها ، فإنها مأمورة حتى انتهى إلى موضع المسجد اليوم ، فبركت على باب مسجده ، وهي يومئذ مربد ليتيمين من الأنصار سهل وسهيل ابني عمرو ، وكانا في حجر معاذ بن عفراء ، فنزل عنها واحتمل أبو أيوب رحله فوضعه في بيته ، فنزل عليه وقال : المرء مع رحله وقال للأنصار : ثامنوني بهذا المربد ؟ فقالوا : لا نأخذ له ثمنا ، فبناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه وبأصحابه مسجدا وهو يقول :


اللهم لا عيش إلا عيش الآخره فارحم الأنصار والمهاجره

وأقام عند أبي أيوب ، حتى فرغ من بنائه ، وهاجر علي بن أبي طالب بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة أيام ، قام فيهـا برد الودائع على أهلها . وكان آخر من قدم من المهاجرين [ ص: 23 ] سعد بن أبي وقاص في عشرة من المهاجرين ، وبنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعائشة رضي الله عنها بعد سبعة أشهر من مقدمه المدينة في شوال ، وكان قد تزوجها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين في شوال بعد وفاة خديجة ، وهي ابنة ست سنين .

وقيل : ابنة سبع ، وكان قد تزوج قبلها بعد خديجة سودة بنت زمعة ، وقدمت عليه بعد هجرته .

واختلف أهل النقل في مدة مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد النبوة فقال الأكثرون :

ثلاث عشرة سنة ، وقال آخرون عشر سنين ، ويشبه أن يكون هذا قول من زعم أنه قرن بإسرافيل ثلاث سنين ، ثم قرن بجبريل حتى نزل عليه الوحي .

التالي السابق


الخدمات العلمية