الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : [ غزوة حنين ]

ثم غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة حنين إلى هوازن ، خرج إليها من مكة بعد مقامه بها [ ص: 71 ] خمسة عشر يوما ، في يوم السبت السادس من شوال ، في اثني عشر ألفا ، منهم العشرة آلاف الذين فتح بهم مكة ، وألفان من أهل مكة .

وحنين واد إلى جنب ذي المجاز ، بينه وبين مكة ثلاث ليال .

وخرج معه ناس من المشركين ، منهم صفوان بن أمية : لأنه كان في مدة خياره ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أعرنا سلاحك فقال : أغصبا يا محمد قال : بل عارية مضمونة مؤداة فقال : ليس بهذا بأس ، فأعطاه مائة درع بما يصلحها من السلاح ، فسأله أن يكفيه حملها ففعل .

وسبب هذه الغزوة : أن هوازن لما رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد فتح مكة ، اجتمع أشرافهم وأشراف ثقيف على جمع الناس لمحاربته ، فلما عرف ذلك وقد اجتمعوا " بأوطاس " سار إليهم من مكة حتى نزل بحنين في يوم الثلاثاء ، العاشر من شوال عشاء ، فعبأ أصحابه في السحر وعقد الرايات والألوية في أهلها ، فدفع ألوية المهاجرين إلى ثلاثة : دفع إلى علي بن أبي طالب لواء ، وإلى عمر بن الخطاب لواء ، وإلى سعد بن أبي وقاص لواء ، ودفع ألوية الأنصار إلى ثلاثة : فدفع إلى الحباب بن المنذر لواء ، ودفع إلى سعد بن عبادة لواء ، وإلى أسيد بن حضير لواء ، وفرق في القبائل الألوية يحملها زعماؤهم وعبأ الناس صفوفا ، فقال أبو بكر : لن نغلب اليوم من قلة ، وظاهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين درعين ، ولبس المغفر والبيضة ، وركب بغلته دلدل والشهباء .

فأما هوازن وثقيف فاجتمعوا بأوطاس ، وعلى جميعهم مالك بن عوف النضيري وهو المدبر لهم ، وكان قد أمرهم بحمل ذراريهم وأموالهم ؛ ليحتموا بها ويقاتلوا عنها ، وكان في الناسدريد بن الصمة ، شيخا كبيرا ، لا فضل فيه إلا التيمن برأيه ، وكان يقاد في شجار ، وهو سيد بني جشم ، فقال للناس : في أي واد أنتم ؟ قالوا : بأوطاس قال : نعم مجال الخيل : لا حزن ضرس ولا سهل دهس ما لي أسمع رغاء البعير ، ونهاق الحمير ، وبكاء الصغير ؟ قالوا : ساق مالك بن عوف مع الناس بنسائهم وأبنائهم وأموالهم ، فدعى مالكا ، وقال له : سقت مع الناس بنسائهم وأبنائهم وأموالهم ، وأنه لا ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه ، فارفعهم إلى علياء بلادهم ، ثم الق [ ص: 72 ] الحرب على متون الخيل ، فإن كانت لك لحق بك من وراءك ، وإن كانت عليك ألفاك وقد أحرزت أهلك ومالك ، ولم تفضح قومك ، فلم يطعه مالك بن عوف : فقال دريد بن الصمة : هذا يوم لم أشهده : ولم يفتني :


يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع

ثم التقى الجمعان ، وخرجت الكتائب في غلس الصبح من مضيق الوادي ، وخرج كمين هوازن من شعابه ، فانهزم من المسلمين في أول اللقاء بنو سليم ، ثم تبعهم في الهزيمة أهل مكة ، ثم تبعهم الناس في الهزيمة أفواجا حتى بقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه وأهل بيته ، العباس بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وأبو بكر ، وعمر ، وأسامة بن زيد ، والفضل بن العباس بن عبد المطلب ، وأيمن بن عبيد أخو أسامة من أمه ، وتكلم جفاة أهل مكة حين رأوا الهزيمة بما في نفوسهم من الضغين ، وضرب أبو سفيان بن حرب بأزلام كانت في كنانته ، وقال : قتل محمد وغلبت هوازن ، وقال كلدة بن الحنبل : ألا بطل السحر اليوم ! فقال له صفوان بن أمية - كان أخاه لأمه - : اسكت فض الله فاك قال : فوالله لأن يربيني رجل من قريش أحب إلي من أن يربيني رجل من هوازن ، وصفوان يومئذ مشرك في شهور خياره ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد انحاز ذات اليمين ، فنادى إلى عباد الله أنا رسول الله ، أنا محمد بن عبد الله ، أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب : فما رئي في الناس أشجع منه ، وأمر العباس بن عبد المطلب - وكان آخذا بلجام بغلته الشهباء وهو رجل جهير الصوت - أن ينادي في الناس : يا معشر الأنصار ، يا أصحاب السمرة ، يا أهل سورة البقرة ، فأجابه من سمعه : لبيك لبيك ، وتبعوا الصوت : فلما اجتمع منهم مائة رجل استقبلوا الناس ، فاقتتلوا ، وتلاحق بهم الناس ، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كف تراب ألقاه عليهم ، وقال : شاهت الوجوه ( حا ميم ) لا يبصرون واجتلد القوم ، فلما أشرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مجتلدهم قال : الآن حمى الوطيس فولت هوازن منهزمة ، وثبت بعدهم ثقيف : فقتل منهم سبعون رجلا عدة من قتل ببدر ، وقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : من قتل قتيلا فله سلبه فقتل أبو طلحة عشرين [ ص: 73 ] قتيلا أعطاه أسلابهم ، حكاه أنس بن مالك ، وعسكر ناس بأوطاس ، فأنفذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم أبا عامر الأشعري في جيش فهزمهم ، وأدرك دريد بن الصمة في شجاره فقتله : فبرز ابنه سلمة بن دريد مرتجزا يقول :


إن تسألوا عني فإني سلمه     ابن سمادير لمن توسمه
أضرب بالسيف رءوس المسلمه

ورمى أبا عامر بسهم فقتله : فأدركه أبو موسى الأشعري فقتله ، وكان أبو عامر حين رمي بالسهم استخلف على الجيش أبا موسى ووصاه إذا لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرئه منه السلام ، وسأله أن يستغفر له ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم اغفر لأبي عامر ، واجعله من أعلى أمتي في الجنة .

وكان أبو عامر قد قتل منهم في يومه بنفسه تسعة مبارزة حتى قتله العاشر : ولما انهزموا لحق مالك بن عوف وهو رئيس القوم بالطائف : فتحصن بها ، وحاز المسلمون السبايا والأموال فكان السبي ستة آلاف رأس ، والإبل أربعة وعشرين ألف بعير ، والغنم أربعين ألف شاة ، والفضة أربعة آلاف أوقية ، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحمل السبي والأموال إلى الجعرانة ، وولى عليه مسعود بن عمرو القارئ .

التالي السابق


الخدمات العلمية