الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 67 ] كتاب الضحايا

من كتاب اختلاف الأحاديث ومن إملاء على كتاب أشهب

ومن كتاب أهل المدينة وأبي حنيفة

قال الشافعي رحمه الله : " أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي بكبشين ، وقال أنس : وأنا أضحي أيضا بكبشين ، وقال أنس في غير هذا الحديث : ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين ، وذبح أبو بردة بن نيار قبل أن يذبح النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأضحى ، فزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يعود لضحية أخرى ، فقال أبو بردة : لا أجد إلا جذعا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن لم تجد إلا جذعا فاذبحه ، قال الشافعي رحمه الله : فاحتمل أمره بالإعادة أنها واجبة ، واحتمل على معنى أنه إن أراد أن يضحي ، فلما قال عليه السلام : إذا دخل العشر ، فأراد أحدكم أن يضحي ، فلا يمس من شعره وبشره شيئا دل على أنها غير واجبة ، وبلغنا أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان كراهية أن يرى أنها واجبة ، وعن ابن عباس أنه اشترى بدرهمين لحما ، فقال : هذه أضحية ابن عباس .

القول في مشروعية الأضحية

فصل : قال الماوردي : والأصل في الضحايا والهدايا قوله تعالى : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير [ الحج : 36 ] الآية ، إلى قوله : القانع والمعتر . أما البدن ففيها ثلاثة أقاويل :

أحدها : أنها الإبل خاصة ، وهو قول الجمهور .

والثاني : أنها الإبل والبقر ، وهو قول جابر وعطاء .

والثالث : أنها النعم كلها من الإبل والبقر والغنم وفي تسميتها بدنا تأويلان :

أحدهما : لكبر أبدانها ، وهو تأويل من جعلها الإبل والبقر .

والثاني : لأنها مبدنة بالسمن ، وهو تأويل من جعلها جميع النعم ، وفي قوله : من شعائر الله تأويلان :

أحدهما : من فروضه : وهو تأويل من أوجب الضحايا .

والثاني : من معالم دينه .

[ ص: 68 ] وهو تأويل من سن الضحايا ، وفي قوله : لكم فيها خير تأويلان :

أحدهما : أجر ، قاله السدي .

والثاني : منفعة إن احتاج إلى ظهرها ركب وإن حلب لبنها شرب ، قاله النخعي .

وفي قوله : فاذكروا اسم الله عليها صواف وهي قراءة الجمهور تأويلان :

أحدهما : معقولة قاله مجاهد .

والثاني : مصطفة قاله ابن عيسى ، وقرأ الحسن البصري : " صوافي " أي : خالصة لله ، مأخوذ من الصفوة ، وقرأ ابن مسعود " صوافن " أي مصفونة ، وهو أن تعقل إحدى يديها حتى تقف على ثلاث قوائم مأخوذ من صفن الفرس إذا أثنى إحدى يديه حتى قام على ثلاث ، ومنه قوله تعالى : الصافنات الجياد . قال الشاعر :


ألف الصفون فلا يزال كأنه مما يقوم على الثلاث كسيرا

وفي قوله : فإذا وجبت جنوبها تأويلان :

أحدهما : أي سقطت جنوبها إلى الأرض .

ومنه قولهم : وجبت الشمس إذا سقطت للغروب .

والثاني : طفت جنوبها بخروج الروح ، ومنه وجوب الميت إذا خرجت نفسه ، وفي قوله : فكلوا منها وأطعموا ثلاثة أوجه :

أحدها : أن الأكل والإطعام واجبان .

والثاني : أنهما مستحبان .

والثالث : أن الأكل مستحب والإطعام واجب ، وفي قوله : القانع والمعتر ثلاثة أوجه :

أحدها : أن القانع : السائل ، والمعتر : الذي يتعرض ولا يسأل . قاله الحسن .

والثاني : أن القانع : الذي يقتنع ولا يسأل ، والمعتر : الذي يعتري فيسأل . قاله قتادة ، وأنشد أبو عبيدة :


له نحلة الأوفى إذا جاء عانيا     وإن جاء يعرو لحمنا لم يؤنب

والثالث : أن القانع الطواف والمعتر : الصديق الزائر . قاله زيد بن أسلم ، وقال تعالى : لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم [ الحج : 37 ] . وفيه تأويلان :

[ ص: 69 ] أحدهما : لن يتقبل الله الدماء ، إنما يتقبل التقوى .

والثاني : لن يصعد إلى الله لحومها ولا دماؤها ، وإنما يصعد إليه التقوى والعمل الصالح ، لأنهم كانوا في الجاهلية إذا نحروا بدنهم استقبلوا الكعبة بها ونضحوا الدماء عليها ، فأرادوا أن يفعلوا في الإسلام مثل ذلك ، فنهوا عنه كذلك سخرها لكم فيه تأويلان :

أحدهما : ذللها حتى أقدركم عليها .

والثاني : سهلها لكم حتى تقربتم بها .

لتكبروا الله على ما هداكم فيه تأويلان :

أحدهما : أنه التسمية عند ذبحها .

والثاني : أنه التكبير عند الإحلال بدلا من التلبية في الإحرام وبشر المحسنين فيه تأويلان :

أحدهما : بالقبول .

والثاني : بالجنة ، وقال تعالى : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير [ الحج : 28 ] . أما قوله : ويذكروا اسم الله ففيه قولان :

أحدهما : أمر الله بذبحها في أيام معلومات .

والثاني : التسمية بذكر الله عند ذبحها في الأيام المعلومات ، وفيها قولان :

أحدهما : أيام العشر من ذي الحجة .

والثاني : أنها أيام التشريق وقوله : على ما رزقهم من بهيمة الأنعام أي على نحر ما رزقهم ، وفيه تأويلان :

أحدهما : ما ملكهم .

والثاني : ما مكنهم ، وبهيمة الأنعام هي الأزواج الثمانية والضحايا والهدايا ، وفي البائس الفقير : تأويلان :

أحدهما : أنه الفقير الزمن .

والثاني : الذي به ضر الجوع وأثر البؤس .

والثالث : أنه الذي يمد يده بالسؤال ويتكفف بالطلب .

وقال تعالى : إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر [ الكوثر : 1 ، 2 ] . وفي الكوثر ستة تأويلات :

[ ص: 70 ] أحدها : أنه النبوة ، قاله عكرمة .

والثاني : أنه القرآن ، قاله الحسن .

والثالث : أنه الإسلام ، قاله المغيرة .

والرابع : أنه الخير الكثير ، قاله ابن عباس .

والخامس : أنه كثرة أمته ، قاله أبو بكر بن عياش .

والسادس : أنه حوض في الجنة يكثر عليه الناس يوم القيامة ، قاله عطاء وهو فاعل من الكوثر .

وفي قوله : فصل لربك وانحر ثلاثة تأويلات :

أحدها : أنه صلاة العيد ونحر الضحايا ، قاله سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة .

والثاني : أنها صلاة الفرض واستقبال القبلة فيها بنحر ، قاله أبو الأحوص .

والثالث : أن الصلاة : الدعاء ، والنحر : الشكر ، قاله بعض المتأخرين والأول أظهرها .

فهذه أربع آيات من كتاب الله تعالى تدل على الأمر بالضحايا والهدايا .

وأما السنة ، فما رواه الشافعي في أول الكتاب ، عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي بكبشين أملحين .

وفي الأملحين ثلاثة تأويلات :

أحدها : أنه الأبيض الشديد البياض ، وهذا قول ثعلب .

والثاني : أنه الذي ينظر في سواد ويأكل في سواد ، ويمشي في سواد وباقيه بياض ، وهذا قول عائشة رضي الله عنها .

والثالث : أنه الذي بياضه أكثر من سواده على الإطلاق ، وهذا قول أبي عبيد ، وفي قصد أضحيته بالأملح وجهان :

أحدهما : ما لحسن منظره .

والثاني : لشحمه وطيب لحمه ، لأنه نوع متميز عن جنسه .

وروى أبو سعيد الزرقي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبش أدغم . قال ابن قتيبة : والأدغم من الكباش ما أرنبته وما تحت حنكه سواد وباقيه بياض .

وروى أبو رملة عن مخنف بن سليم قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : على كل [ ص: 71 ] مسلم في كل عام أضحاة وعتيرة ، والعتيرة ذبيحة كانت تذبح في رجب ، كما تذبح الأضحية في ذي الحجة ، فنسخت العتيرة وبقيت الأضحية .

وروى الشافعي عن سفيان عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا فرعة ولا عتيرة قال الشافعي : والفرعة في كلام العرب أول ما تنتج الناقة ، يقولون : لا يملكها ويذبحها رجاء البركة في لبنها وكثرة نسلها .

القول في حكم الأضحية

فإذا ثبت أن الضحايا مأمور بها ، فقد اختلف الفقهاء في وجوبها على ثلاثة مذاهب :

أحدها : وهو مذهب الشافعي ، أنها سنة مؤكدة ، وليست بواجبة على مقيم ولا مسافر ، وهو قول أكثر الصحابة والتابعين .

وبه قال أحمد بن حنبل وأبو يوسف ومحمد .

والمذهب الثاني : وهو قول مالك : أنها واجبة على المقيم والمسافر ، وبه قال ربيعة والأوزاعي ، والليث بن سعد .

والمذهب الثالث : - وهو قول أبي حنيفة - أنها واجبة على المقيم دون المسافر احتجاجا في الوجوب ، يقول الله تعالى : فصل لربك وانحر [ الكوثر : 2 ] . وهذا أمر ، وبحديث أبي رملة عن مخنف بن سليم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : على كل مسلم في كل عام أضحاة وعتيرة وبرواية أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من لم يضح فلا يشهد مصلانا وهذا وعيد يدل على الوجوب ، وبرواية بشر بن يسار أن أبا بردة بن نيار ذبح أضحية قبل الصلاة ، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد ، فدل الأمر بالإعادة على الوجوب ، قالوا : ولأن حقوق الأموال إذا اختصت بالعيد وجبت كالفطرة ، قالوا : ولأن ما وجب بالنذر كان له أصل وجوب في الشرع كالعتق ، ولأن توقيت زمانها والنهي عن معيبها دليل على وجوبها ، كالزكوات ، ودليلنا : ما رواه مندل عن ابن خباب عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الأضاحي علي فريضة وعليكم سنة وهذا نص .

[ ص: 72 ] وروى عكرمة عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ثلاث كتبت علي ولم تكتب عليكم : الوتر والنحر والسواك .

وروى سعيد بن المسيب عن أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا بشره شيئا فعلق الأضحية بالإرادة ، ولو وجبت لحتمها ، فإن قيل : فقد قال : من أراد منكم الجمعة فليغتسل فلم يدل تعليق الجمعة على الإرادة على أنها غير واجبة ، كذلك الأضحية ، قلنا : إنما علق بالإرادة الغسل دون الجمعة ، والغسل ليس بواجب فكذلك الأضحية .

وروي عن الصحابة رضي الله عنهم ما ينعقد به الإجماع على سقوط الوجوب ، فروي عن أبي بكر وعمر أنهما كانا لا يضحيان مخافة أن يرى أنها واجبة .

وروي عن أبي مسعود البدري ، أنه قال : لا أضحي وأنا موسر لئلا يقدر جيراني أنها واجبة علي .

وروي عن ابن عباس ، أنه أعطى عكرمة درهمين ، وأمره أن يشتري بها لحما ، وقال : من سألك عن هذا فقل : هذه أضحية ابن عباس .

فإن قيل : فلعل ذلك لعدم ، قيل : قد روي عن ابن عباس أنه قال : عندي نفقة ثمانين سنة ، كل يوم ألف .

ومن القياس : أنه إراقة دم ، لا تجب على المسافر ، فلا تجب على الحاضر كالعقيقة ، ولأن من لم تجب عليه العقيقة لم تجب عليه الأضحية كالمسافر ، ولأنها أضحية لا تجب على المسافر فلم تجب على الحاضر ، كالواجد لأقل من نصاب ، ولأن ما سقط وجوبه بفوات وقته مع إمكان القضاء سقط وجوبه في وقته مع إمكان الأداء ، كسائر السنن طردا ، وجميع الفروض عكسا ، ولأن كل ذبيحة حل له الأكل منها لم يجب عليها ذبحها كالتطوع طردا ، ودم المناسك عكسا .

فأما الجواب عن الآية ، فهو ما ذكرناه ، من اختلاف التأويل فيها ، ثم لا يمنع حملها على الاستحباب ، لما ذكرنا .

وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : على كل مسلم في كل عام أضحاة وعتيرة فمن وجهين :

[ ص: 73 ] أحدهما : أن رواية أبي رملة عن مخنف بن سليم ، وهما مجهولان عند أصحاب الحديث .

والثاني : أن جمعه بين الأضحية والعتيرة دليل على اشتراكهما في الحكم .

والعتيرة غير واجبة ، فكذلك الأضحية .

وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : من لم يضح ، فلا يشهد مصلانا فمن وجهين :

أحدهما : أنه جمع في الترك بين الأضحية ، والتأخر عن الصلاة ، والصلاة سنة ، فكذلك الأضحية ، ويكون معناه : أن من ترك ما أمرناه من الأضحية ، فليترك ما أمرناه من الصلاة .

والثاني : أن هذا زجر يتوجه إلى الاستحباب دون الوجوب ، كما قال : من أكل من هذه البقلة شيئا ، فلا يقربن مصلانا .

فأما الواجبات ، فالأمر بها ، وإلزام فعلها ، أبلغ في الوجوب من هذا الزجر .

وأما حديث أبي بردة فمحمول على أحد وجهين : إما على الإعادة استحبابا ، وإما على الوجوب ، لأنها كانت نذرا .

وأما الجواب عن قياسهم على زكاة الفطر ، فهو أن زكاة الفطر لما استوى فيها الحاضر والمسافر ، ولزم قضاؤها مع الفوات ، وخلف منها لأضحية ، جاز أن تجب زكاة الفطر ، ولم تجب الأضحية .

وأما الجواب عن قياسهم بأن ما وجب بالنذر كان له أصل في الشرع ، فهو أن له في الشرع أصلا في دماء الحج ، فلم يحتج أن تكون الأضحية له أصلا .

وأما الجواب عن استدلالهم بوقتها ، والامتناع من العيوب فيها ، فهو أن هذين معتبران في حق المسافر ، وإن لم تجب عليه ، فكذلك اعتبارها في حق الحاضر لا يقتضي وجوبها عليه ، والله أعلم .

القول في أخذ المضحي من شعره وبشره في عشر ذي الحجة

التالي السابق


الخدمات العلمية