الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فأما أكل الأجنة ، وهو أن تذبح البهيمة ، فيوجد في بطنها جنين ، فإن كان حيا مقدورا على ذكاته لم يحل أكله إلا بالذكاة ، وإن كان ميتا أو حيا قصرت مدة حياته عن ذكاته ، حل أكله بذكاة أمه ، وهو إجماع الصحابة ، وقاله مالك والأوزاعي والثوري ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وأحمد ، وإسحاق ، وتفرد أبو حنيفة فحرم أكله احتجاجا بقول الله تعالى : حرمت عليكم الميتة [ المائدة : 3 ] . وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أحلت لنا ميتتان ودمان : الميتتان : الحوت والجراد ، والدمان : الكبد والطحال ، وهذه ميتة ثالثة : يوجب الخبر أن تكون محرمة ، ولأنه من جنس ما يذكى ، فوجب أن لا يحل إلا بالذكاة كالأم ، ولأنه ذبح واحد ، فلم يجز أن تكون ذكاة الاثنين كما لو خرج الجنين حيا ، ولأن ما كان موته ذكاة في غير المقدور عليه كان موته ذكاة في المقدور عليه ، وما لم يكن موته ذكاة في المقدور عليه لم يكن ذكاة في غير المقدور عليه كالصيد والنعم ، فلما لم يكن موت المقدور عليه من الأجنة ذكاة لم يكن موت غير المقدور عليه ذكاة ، [ ص: 149 ] ولأن العقر من جميع المذكى معتبر ، وإنما يختلف في المقدور عليه وغيره باختلاف المحل ، ولا يختلف باعتباره في بعضه وإسقاطه في بعضه ، وقد اعتبرتم العقر في المقدور عليه وأسقطتموه في غير المقدور عليه ، وهذا مخالف للأصول .

ودليلنا قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام [ المائدة ] . قال ابن عباس ، وابن عمر : بهيمة الأنعام هي أجنتها إذا وجدت ميتة في بطون أمهاتها يحل أكلها بذكاة الأمهات ، وهذا من أول أحكام هذه السورة التي هي من أكثر الأحكام المشروعة ، والغالب من تأويلهم هذا أنهم لم يقولوه إلا نقلا .

ومن السنة ما رواه عاصم بن ضمرة عن علي - عليه السلام - ورواه عكرمة عن ابن عباس ، ورواه نافع عن ابن عمر ، ورواية أبي الزبير عن جابر ، ورواية ابن سيرين عن أبي هريرة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ذكاة الجنين ذكاة أمه .

فجعل إحدى الذكاتين نائبة عنهما ، أو قائمة مقامهما ، كما يقال : مال زيد مالي ، ومالي مال زيد . يريد أن أحد المالين ينوب عن الآخر ، ويقوم مقامه .

فإن قيل : إنما أراد به التشبيه دون النيابة ، ويكون معناه : ذكاة الجنين كذكاة أمه ، لأنه قدم الجنين على الأم ، فصار تشبيها بالأم ، ولو أراد النيابة لقدم الأم على الجنين فقال : ذكاة الأم ذكاة جنينها - ففيه ثلاثة أجوبة :

أحدها : أن اسم الجنين منطلق عليه ، إذا كان مستجنا في بطن أمه ، فيزول عنه الاسم إذا انفصل عنها ، فيسمى ولدا . قال الله تعالى : وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم [ النجم : 32 ] . وهو في بطن أمه لا يقدر على ذكاته ، فبطل أن يحمل على التشبيه ، ووجب حمله على النيابة .

والثاني : أنه لو أراد التشبيه دون النيابة ، لساوى الأم غيرها ، ولم يكن لتخصيص الأم فائدة ، فوجب أن يحمل على النيابة دون التشبيه ، ليصير لتخصيص الأم تأثير .

والثالث : لو أراد التشبيه لنصب " ذكاة أمه " لحذف كاف التشبيه ، والرواية مرفوعة : ذكاة أمه فثبت أنه أراد النيابة دون التشبيه .

فإن قيل : فقد روي بالنصب : ذكاة الجنين ذكاة أمه .

قيل : هذه الرواية غير صحيحة ، ولو سلمت لكانت محمولة على نصبها بحذف " يا " النيابة دون كاف التشبيه لما قدمناه ، ولأن إثبات الذكاة لم يجز أن يحمل على نفيها ، لأنهما ضدان ، ولا نفعل النفي من الإثبات كما لا نفعل الإثبات من النفي ، ويكون معناه : ذكاة الجنين بذكاة أمه ، ولو احتمل الأمرين لكانتا مستعملتين ، فتستعمل الرواية المرفوعة على النيابة إذا خرج ميتا ، وتستعمل الرواية المنصوبة على التشبيه إذا خرج حيا ، فيكون أولى ممن استعمل إحداهما ، وأسقط الأخرى .

[ ص: 150 ] ويدل عليه أيضا نص لا يحتمل هذا التأويل ، وهو ما رواه يحيى بن سعيد القطان ، عن مجالد ، عن أبي الوداني ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قلت : يا رسول الله ! ننحر الناقة ، ونذبح البقرة أو الشاة في بطنها جنين ميت ، أنلقيه أم نأكله ؟ فقال : كلوه إن شئتم ، فإن ذكاة الجنين ذكاة أمه : ولأنه إجماع الصحابة . روي ذلك عن علي وابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم - ، وقال عبد الرحمن بن كعب بن مالك : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون : " ذكاة الجنين ذكاة أمه " ، وما انعقد به إجماعهم لم يجز فيه خلافهم .

ومن الاعتبار هو أن الجنين يغتذي بغذاء أمه ، فلما كانت حياته بحياتها جاز أن تكون ذكاته بذكاتها كالأعضاء .

فإن قيل : فأعضاؤها لا تعتبر ذكاتها بعدها ، وأنتم تعتبرون ذكاة الجنين إذا خرج حيا ، فدل على افتراقهما .

قيل : لا فرق بينهما ، لأننا جعلنا ذكاته بذكاتها ، إذا خرجت روحه ، بخروج روحها ، وإذا خرج حيا لم تخرج روحه بخروج روحها ، فلم تحل بذكاتها . كذلك الأعضاء إذا خرجت منها الروح بخروج روحها حلت ، ولو خرجت الروح منها بغير خروج الروح من أصلها لقطعها قبل ذبحها لم تؤكل ، فاستويا ، وقد يتحرر من هذا الجواب المعلل قياس ثان ، فيقال : حيوان خرجت روحه بذكاة ، فجاز أن يكون مأكولا ، كالأم ، ولا يدخل الجنين المتولد من حمار وحشي ، وحمار أهلي لا يحل أكله بذكاة أمه ، لأننا أجمعنا بينه وبين الأم ، والأم تؤكل إذا لم يتولد من بين جنسين كذلك الجنين .

فإن قيل : إنما مات باختناقه في بطن أمه ، واحتباس نفسه ، لا بالذكاة فدخل في تحريم المنخنقة .

قيل : لا يجوز أن يعلق على الأسباب المباحة أحكام المحظورات ، كما لا يجوز أن يعلق على الأسباب المحظورة أحكام المباحات وموت الجنين بذبح أمه مباح ، يتعلق به إحلال الأم ، فتبعها في الحكم ، والمنخنقة ضدها : لتحريم جميعها ، فتعلق به تحريم أكلها .

ويدل على ما ذكرناه أن الذكاة معتبرة بالقدرة بعد الأسباب المباحة ، وهي تنقسم ثلاثة أقسام .

فقسم يمكن ذبحه ، وهو المقدور عليه من الصيد والنعم ، فلا ذكاة له إلا في حلقه ولبته .

[ ص: 151 ] وقسم ممتنع لا يمكن ذبحه ، ويمكن عقره ، وهو الصيد ، فذكاته بعقره من أي موضع وقع من جسده ، لتعذر ذبحه .

وقسم يتعذر ذبحه وعقره وهو الحوت والجراد : لأن موت الحوت بعد موته سريع وعقر الجراد شاق ، فكان موتهما ذكاة .

وإن كان هذا أصلا متفقا عليه وجب أن يعتبر في الجنين ، فإن لم يقدر على ذبحه لسرعة موته ، كان موته ذكاة له ، فالحوت والجراد ، وإن كان مقدورا على ذبحه ، لبقاء حياته كانت ذكاته في الحلق واللبة ، كالمقدور عليه من الصيد والنعم ، فيصير الخلاف فيه مردودا إلى الأصل المتفق عليه ، ولأنه لما سرى حكم الأم إلى جنينها في البيع والهبة والعتق سرى إليه في الذكاة والإباحة .

ألا ترى أن الجناية على الأم إذا ألقته ميتا ، كالجناية عليه في وجوب الضمان ؟ فصار في جميع أحواله ملحقا بأمه ، فكانت الذكاة منها ، ولم يجز أن يقتطع عنها .

فإن قيل : لو لحق بها في الذكاة إذا خرج ميتا لم يحتج إلى الذكاة إذا خرج حيا فعنه جوابان :

أحدهما : إنما حل إذا خرج ميتا لفراق روحه بذكاتها ، ولم يحل إذا خرج حيا ، لأن روحه لم تفت بذكاتها .

والثاني : أنه لا يجوز أن يعتبر خروجه حيا في الذكاة بخروجه ميتا كما لا يعتبر في الجناية : لأنه إذا خرج ميتا كانت ديته معتبرة بأمه ، وإذا خرج حيا كانت ديته معتبرة بنفسه ، كذلك في الذكاة .

فأما الجواب عن الآية والخبر فمن وجهين :

أحدهما : أن الخبر خارج عن الميتة : لأن موته بذكاة أمه ، ولو مات بغير ذكاتها فألقته ميتا حرم : لأنه ميتة .

والثاني : أن عموم الآية مخصوص في الجنين بالخبر ، كما خصت في الحوت والجراد ، وملحق بالحوت والجراد : لما ذكرنا من اشتراكهما في المعنى .

وأما الجواب عن قياسه على الأم ، فهو أن ذكاتها مقدور عليها ، فلم تحل إلا بها ، وذكاة الجنين غير مقدور عليها ، فحل ولو قدر على ذكاته لم يحل إلا بها كالأم ، وهو الجواب عن قياسهم عليه ، إذا خرج ميتا : لأنه يقدر على ذكاته حيا ، فاعتبرت : ولأنه يقدر على ذكاته ميتا فسقطت .

[ ص: 152 ] وأما الجواب عن استدلالهم بالتسوية بين حالتي موته وحياته ، فهو أن التسوية بين حالتي القدرة ، والعجز في الذكاة مطرحة ، والفرق بينهما أحق ، كالصيد لما اختلفت ذكاته ، في القدرة والعجز اختلف بها حكم الجنس ، وأما الجواب بأن العقر في جميع الحيوان معتبر في اختلاف المحل ، فمن وجهين :

أحدهما : أن العقر فيه معتبر ، وهو ذبح الأم .

والثاني : أنه لما اعتبرت الذكاة بالقدرة عليها وجب أن يعتبر العقر بالقدرة عليه ، وهي متعذرة في الجنين ، فسقطت بالعجز كما سقطت في الصيد : لإمكانه فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية